جور نار
ورقات يتيم … الورقة 42
نشرت
قبل 5 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
حقبة السبعينات في تونس كانت من افضل واخصب الحقبات التي عاشها جيلي انذاك … تونس انذاك انتقلت من مرحلة التأسيس بكل منعطفاتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، الى فترة التجذير والخصوبة …
فبقدر ما نجح الزعيم بورقيبة في رمي حجر الاساس لدولة لها هيبتها ومكانتها بين الامم مغاربيا ودوليا، وبقدر ما كان رجل المواقف الحازمة في القضاء على العروشية عندما جمع سلاح المقاومين وادخل جلّهم في منظومة الحرس الوطني، حتى يجنّب تونس خطرا لم نفهمه الاّ الان ونحن نُطلّ من نافذتنا الجنوبية على ما يحدث في ليبيا وهي تجسّد ابشع مظاهر القبلية… وهي نفسها تلك النعرة التي حاول بعض لصوص الثورة استغلالها في بلدنا لكسب اوراق رخيصة في انتهازيتهم سياسيا بعد 14 جانفي 2011 … ونفس الزعيم بورقيبة هو ذلك الذي ركّز فلسفته على ثلاثي عميق لبناء تونس ما بعد الاستعمار: التعليم، الصحة، المرأة… هو الذي اقام الدليل لمن عاصره ولمن اختلف معه في الراي انه داهية سياسي لا يُشق له غبار في القضايا العربية (خطاب اريحا في القضية الفلسطينية، وخلافه مع قومية جمال عبد الناصر)…
اذن كما اسلفت ..بقدر ما كان مُوفّقا في هذا المنحى بقدر ما كان ذلك الزعيم الذي اعتبر والى آخر قطرة من حكمه ان تونس هي (متاعو هو فقط) وانّه ليس من حق ايّ كان ان يقتسم معه الراي او القرار …هي ملكه الشخصي ربّما منطلقا من كفاحه الطّويل وما عاناه في يتمه اولا عائليا …وكذلك من تغريب ايام الاستعمار والذي كان يصفه ويردّده بعيارته الشهيرة في خطاباته (ايام السّخط والدُمّار والميزيريا) …ولعلّ هذه الزاوية الضيّقة لرؤيته لحبيبته تونس هي التي كانت وراء كلّ اخطائه على مدى حكمه ..حبّ التملّك (وما ابشع التملك) من جهة ونجاحه في جلب الاحترام دوليّا لشخصيّته ذات الكاريزما الرهيبة ..و خاصّة قدرته الفائقة على استقطاب عامة الشعب التونسي من خلال براعته الخطابية الهائلة… و هي من العوامل التي اضرّت به وبتونس رغم كلّ ايجابيّات ذلك الزعيم التاريخي الفذ والذي لم يستطع ايّ كان زحزحته من مكانته كافضل من عرفته تونس بعد الاستعمار مهما حاول اعداؤه تشويه صورته …
كل هذا لم ولن ينفي عديد اخطائه .. تلك الاخطاء بالنسبة لنا نحن شباب السبعينات كنّا نراها بمجهرنا المضخّم انذاك …بمنظار المعارضين الشرسين للزعيم …كنا نعدّد ونندّد ونعارض ونشهّر…بخلافاته مع اليوسفيين …باخطائه الشنيعة في معركة الجلاء وضحايا تونس فيها ..بالحرب الضروس مع معارضيه والذين لم ينفكّوا يوما عن المطالبة بحقهم في تونس وهم يقولون لبورقيبة عن تونس وبلطف (حبيبها لست وحدك حبيبها) خاصة وقد انبرت وسائل الاعلام في التزمير الماسط الركيك والمتخلّف للزعيم المجاهد الاكبر رغم انه اثبت في ما بعد ومقارنة بكل من تلاه انه الزعيم الافضل والاكبر … زد على ذلك تلك الهلبة من الاغاني التمجيدية للرئيس (يا سيد الاسياد .. يا حبيب تونس يا عزيز علينا .. حبيبي يا مجاهد …حبيب الجماهير المغربية للدوكالي والتي تحولت من تمجيد الملك الحسن الثاني من”ملكنا ديالنا واحنا ديالو” الى “بورقيبة ديالنا واحنا ديالو” ).. وحتى اغانينا التراثية في صفاقس تحولت من “مااقواني يا نور عيني ما اقواني” الى “يا غالي يا حبيب تونس يا غالي .يا هلال الخضراء العلالي” _..وحتى نشيدنا الرسمي كان فيه الزعيم حاضرا (الا خلّدي …. بروح الحبيب زعيم الوطن) ..
وكان اول امتحان عسير الى حد النكبة …
التجربة التعاضديّة والتي قادها احمد بن صالح …والتي كادت تودي بتونس في منزلقات خطيرة … ولأني لا اجرؤ على تحميل ايّ طرف مسؤولية تلك التجربة لأن المواقف تباينت فيها ولأن اوراقها متشعبة ..ولأني لست رجل اختصاص لا في الاقتصاد ولا في السياسة… فاني بحكم المنطق في المسؤولية السياسية لا اتردد في القول بأن بورقيبة ومهما كانت اخطاء من معه هو المسؤول الاول ..اليس هو من عيّن احمد بن صالح في وزارة التخطيط ..؟؟ بل جمع في فترة ما عديد الوزارات ..؟؟ اليس هو من تابعه على امتداد سنوات مثمّنا مشجّعا ومباركا لكل تصوّراته ؟؟؟ وعندما فشلت التجربة وكأي رئيس في العالم الثالث لم يجد بورقيبة ولا غيره الشجاعة لتحمّل المسؤولية والاعتراف باخطائه .، تى لا اقول الاستقالة لترك المكان لغيره (حتى انا قداش نخرّف ! في ذلك الزمن فعلها فقط سينغور رئيس السنغال بعد انتهاء فترته الرئاسية وخيّر الانشغال بالادب) …
ومن جهة اخرى .وربّما ما يُحسب لعبدالناصر انه الوحيد بين الرؤساء العرب الذي خرج بعد نكسة جوان 67 ليُقرّ بمسؤوليته الكاملة في هزيمة العرب في الحرب مع اسرائيل …البعض من اعدائه يذهبون الى انّ ذلك الخطاب التاريخي الذي قرر فيه الريّس الانسحاب من دفّة المسؤولية كرئيس مصر والانضمام الى الجيش ليواصل كجندي الدفاع عن مصر… ما هو الا سيناريو كي يخرج الشعب المصري ويرفض استقالة زعيمه ثم يعود بعده الريّس الى دفّة الحكم …تماما كما فعل بعض احمرة التجمع يوم 13 جانفي لمناصرة الزين بسيارت كراء تعبيرا عن مؤازرتهم لزين العرب ..الا اني ومن وجهة نظري المتواضعة وحسب ما وصلنا من صور تلفزية ..لم ار في حياتي مصر تخرج بتلك الهبّة الجماهيرية الرهيبة الا في خمس مناسبات ..يوم استقالة عبد الناصر بعد حرب جوان …يوم وفاته … يوم وفاة أم كلثوم… يوم وفاة العندليب ..ويوم الحشد الرهيب في ميدان التحرير للاطاحة بمُرسي .واخوانه ..لذلك انا وحتى من خلال نبرات صوت عبدالناصر وهو يعلن بكل حزن واسف تخلّيه عن الحكم، لا يمكن ان اكون الا من صفّ المصدّقين له والمصفّقين له …
اعود لتلك السنوات العجاف التي عاشتها تونس اقتصاديا في الستينات مع النظام التعاضدي لاقول ان فشل اي وزير او ايّة سياسة يتحمّلها لا فقط ذلك الوزير بل رئيس الدولة ايضا …وهذا ما لم يفعله ابدا بورقيبة في حياته ..كان دائما يحمّل الاخرين الخطايا (ويخرج منها كيف الشعرة من العجين)… ولمن يتذكّر احداث الخبز 84 .. هل مازلتم تتذكرونه يوم خطابه الشهير..؟؟ .دعوني اسرد لكم سرّا لا يعرفه الكثيرون _سرّا جهويا … الله غالب ..تحمّلوا جهويّتي التي اعتزّ بها والتي دونها لا يمكن ان اكون تونسيا …
بورقيبة في احداث الخبز كان وكعادته يتابع التقارير الامنية التي تاتيه حول التحركات في البلاد بعد اعلان الزيادة في ثمن الخبز ..وكان يوميا يسأل ..صفاقس لاباس ..اي هنالك تحرّكات ..؟؟؟ وتاتيه الاجابة الامنية .. صفاقس رايضة …وعندما واصل سؤاله دوما عن صفاقس واحوالها في تفاعلتها مع احداث الخبز جاءته الاجابة ذات يوم (صفاقس تحرّكت)… يومها بالذات خرج الى الشعب التونسي واعلن التراجع في قرار الزيادة بتلك المقولة الشهيرة: نرجعو كيف ما كنّا قبل الزيادة … ولكن ولأن بورقيبة ابدا ان اقرّ يوما باخطائه، فقد حمّل رئيس بلدية تونس شيخ المدينة (زكرياء بن مصطفى انذاك) كل المسؤولية …بل نعته باوصاف فيها الكثير من الاهانة حيث وصفه بذلك المسؤول عن القمامة _ (هاكة زكرياء متاع الزبلة) الذي قال له: “الخبز ملوّح في الزبلة” … اي حتى بورقيبة “غلّطوه” ..هذه الامور يبدو انّها في جيناتنا …
،نحن شباب السبعينات كنّا محظوظين لاننا كنّا مثقلين بهمّ الوطن ..ولأننا تدّربنا على إعمال الفكر والنقد ثم وهو الاهم، لاننا كنّا وخاصة تلامذة الحي الزيتوني في صفاقس، مُكوّنين سياسيا ومطّلعين من خلال تنوع اساتذتنا على مجموعة هائلة من الايديولوجيات… فمن اساتذتنا اليوسفي.. والدستوري.. والماركسي باطيافه .. والقومي بفصائله ..كل هذا جعل من رؤوسنا مرجلا للمعرفة وما اقسى المعرفة ومرجلها ..المعرفة هل هي نعمة او نقمة احيانا …؟؟؟ حتما ساعود الى هذا المحور الرهيب في قادم الورقات ..
فترة السبعينات في تونس كانت وكما اسلفت فترة الانتعاشة الاقتصادية الاكبر في تاريخ تونس منذ الاستقلال وحتى الان ..رغم انها انتهت بخاتمة درامية تداخلت فيها الاوراق السياسية وبداية مؤامرات القصر والتناحر وتصفية الحسابات وبداية التحالفات مما ولّد احداث جانفي 78 … نعم مرة اخرى شهر جانفي .ويا له من شهر على امتداد تاريخ تونس ..الا انّ تلك الفترة ايضا ولحسن حظّنا نحن شباب تلك الحقبة، كانت فترة ازدهار العمل الطلاّبي السياسي ..وكنا نمشي بخيلاء وزهو وافتخار بوعينا (هكذا كان يبدو لنا)… كان الواحد منّا لينين والاخر تروتسكي وثالث تشي غيفارا . هكذا كنّا في خطاباتنا وفي كذبنا على كل صديقاتنا ..كنّا نمثّل دور التقدمي في كل افكاره ولا نُعير اي اهتمام ليس فقط للتقاليد الاجتماعية في رؤيتنا للمرأة مثلا، بل حتى للدين ايضا الذي كان مُغيّبا تماما فينا نحن اليساريين زعمة زعمة … بل كنّا نسخر من ذلك العيّاش الذي لا يعرف من الحياة الطالبية الا الدراسة والانضباط ..نحن المتنطعين على المجتمع وعلى الدين وعلى كل شيء ولم نكن في الحقيقة سوى مُخادعين و منافقين ..ندّعي التحرّر وعن ايّة بكارة تتكلمون … وعندما يهرع الواحد منّا الى الارتباط يعود الى قوقعته …قالت لي اشجعهنّ: هو دارها شليلة ومليلة وكيف جاء يعرّس لوّج على بنت عايلة عاقلة ومتاع دار _ وها انا اجيب: جلّنا مثله ..جلنا “نفشفش” على كل المقررات اللواتي عرفناهن وادّعين الليبرالية والتحرّر … ووقت توصل ايدها لرجلها، نصبح مثالا على انفصام الشخصيّة .؟؟ موش لو كان نرجعو لعبدالكريم والمهنة افضل ..؟؟
سنة 1974 كانت سنة مفصلية في حياتي المهنية … الادارة التقنية لللتلفزية وبعد تعدد الانتاجات الفيلمية وقدوم مجموعة من المخرجين الذين انهوا دراستهم في تشيكوسلوفاكيا (رفيق المدب، عبدالجبار البحوري، عبدالقادر الجربي، منصف الكاتب) .. كان لزاما عليها ان تعيد هيكلة مصالحها الفنية حتى يخفّ العبء على بعض المصالح ..ومن هذه الزاوية ارتأت ان تحدث قسم المونتاج الذي كان من ضمن اهتمامات المهندس الشاب (سي ابراهيم الغضاب) مع اهتمامه بالمختبر الخاص بالمؤسسة …
جاءنا يوما سي ابراهيم الى قسم المونتاج وعبّر عن رغبة الادارة في تعيين واحد من مركبي القسم كمسؤول عنه ومساعد اداري لسي ابراهيم ..واضاف: اختاروا انتم زميلا لكم ترتاحون له، حتى تكونوا مسؤولين عن اختياركم …نزل سي ابراهيم الى مكتبه وارتأينا وبالاجماع ان يكون اكبرنا واكثرنا تجربة الزميل واستاذي في دراسة فن المونتاج (الصادق بن عايشة) هو الاجدر بهذا التكليف …ضحك سي الصادق وقال (يعمل الله)… دخل كل واحد منّا الى مقصورة المونتاج ليشتغل حتى الواحدة ظهرا موعد انتهاء الحصة الاولى من العمل اداريا …وهذه على فكرة لم امتثل لها يوما… التوقيت الاداري هو خنق للفن… الفنان هو إلهام او لا يكون ..ومتى كان الالهام مرتبطا بناقوس الساعة ..؟؟ الفنان عندي لا يتحاور مع نواقيس الارض ..الفنان عندي هو من يعدّل ساعته على خيوط الشمس ليقطف منها خيطا يفصّل على مقاسه رائعة “الدخول الى الجنة” لاندريه ريو ..في مرحلة اولى وفي مرحلة ثانية عليه ان يستلهم مما بعد الشمس لتكون له سمفونيته الخاصة به … بصمته ….دنياه مع الاخر حتى يلتقي به ليرتقي …
خرج الجميع وبقيت وحدي كعادتي اشتغل على طريقتي ..قد يكون شغلي وقتها الاستماع الى اغنية علّها تُلهمني فكرة ..قد يكون مشاهدة افلام المانية تاتيننا كهبة من الشركات المنتجة لها وهي في جلّها وثائقية وتبقى عندي لحد الان افضل ما اشاهد الاعمال الوثائقية ..كنت الوحيد الذي لا يرتبط بالواحدة ظهرا خاصة واني اقطن على بعد مائتي متر من دار الاذاعة من جهة… ثم واذكّر متى كان الغداء يعنيني ..؟؟ وهي عادة لازمتني لحد اليوم …فجأة فُتح باب مقصورتي من الخارج واذا بالقادم استاذي وزميلي السيد صادق بن عائشة …سلّم عليّ وقال: نشربو قهوة ..؟؟ وباحترام التلميذ لاستاذه ولاحد اطراف اللجنة التي امتحنتني شفاهيا بعد نجاحي في كتابي مناظرة الدخول الى المؤسسة …نزلنا الى “بيفات” الاذاعة واخذ كل منا قهوته (كابيسان بزايد حليب بالنسبة لي ولحد اليوم ايضا هي قهوتي الوحيدة) …_ وتناول هو “اكسبريس سيريه”… يا بوڨلب!…كيف يتجرعها اصحابها …؟؟
نظر اليّ استاذي وقال: تتذكّر انّو الساعة قلتلكم في ذلك العرض “يعمل الله”؟.اجبته: ايه وشكون خير منّك ؟؟ قللي ثمة شكون خير منّي ..قلتلو: والله يا استاذي لا نشوف بكل صدق وانت تعرفني انو ثمة شكون خير منّك ..قال: لانّو بوك الصادق يعرف انو تلميذو صادق… راك انت هو اللّي خير منّي …؟؟؟؟ لم اقدر على النظر اليه خجلا ..نعم كنّا نخجل ممّن علّمنا ..وسنبقى كذلك الى اخر رشفة من الاوكسجين والى اخر شعاع شمس والى اخر قطرة حب …جذبني اليه وقال: شوف ولدي .انا مشاغلي كثيرة ولي مشاريعي السينمائية الخاصة ولا اجد افضل منك لهذا الموقع ..انت اهل له وجميع زملائك يحبونك جدا ..لذلك ساعتذر في المساء وانا من سيبرشحك لهذا التكليف …تصوروا عبدالكريم ذلك الاصغر سنا ..والاتي من صفاقس والذي عاش دهرا من الجفاء، حاول ان يعدّل ذلك الجفاء بسخاء انساني صادق مع الجميع يقبل به الجميع ..؟؟
نعم ودون اي فيتو، قبِل الجميع ان اكون انا من يمثلهم ويسوس امورهم …هذه الواقعة علمتني اشياء هامة في حياتي لعلّ اولها ..قد لا يقبلك البعض في موقف ما في تصرّف ما في اسلوب ما ..ولكن ثق انّ هدفك عندما يكون زرع القرنفل الوردي عوضا عن العوسج ..وان تكون كلماتك حتى ولو تدرجت من حبّة الدواء البسيطة الى “الانتيبيوتك” كحبّة او كزًريقة موجعة ..وصولا حتى الى الصعقة الكهربائية التي يخضّون بها قلب المريض .. بتلك الكلمات، سيُدرك الاخر يوما انك لم تنفصل عن الانسان وعن حب الانسان… اذ هل يًعقل ان نلوم الطبيب على تلك الصعقة الكهربائية والتي اراد بها اعادة نبض القلب لا اعدامه ..؟؟؟ هذا احد دروس تلك الثقة الموضوعة فيّ يومها وجميع الزملاء يهنئون انفسهم قبل ان يهنئوني باختيارهم لي …امّا انا ورغم سعادتي بتلك الثقة ووالله صدقا قبل الكرسيّ كنت اقول واردد: هذه خطوة صغيرة جدا لمشروعي الحلم …هيمالايا …وستعرفون يوما انه لم يكن يوما اطلاقا كما يتوهمه البعض مشروعا انتهازيا ..وصوليا ..قذرا… بل هو مشروع مبني اساسا على الحلم لما بعد حدود السماء …
(نُشر هذا النص أول مرة يوم 8 مارس 2017 ـ اليوم العالمي للمرأة ـ وها انا اهدي هذه الورقة لاجمل نساء الدنيا… عيادة)
ـ يتبع ـ.
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 11 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 12 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 22 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يوم واحد
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟