تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 47

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

منذ اليوم الاول وانا اتخطّى حاجز الرهبة والخوف من عاصمة النور باريس …انهمكت في تجربة فريدة من نوعها طيلة حياتي …دعوني الخّصها لكم في جملة (تجربة كل شيء)..

عبد الكريم قطاطة

صدقا لم تكن نواياي مخبريّة بقدر ما هي محاولة منّي لمزيد المعرفة …الحياة في باريس تمنحك كل الفرص للمعرفة ..الحياة في باريس بدأت معي وانا اخطو اوّل خطوة في دراستي بالمعهد الوطني للعلوم السمعيّة البصريّة بضاحية باريس الشرقية وتحديدا بمنطقة “بري سير مارن”… توجهت صباحا على الساعة السابعة الى المعهد … فوجئت اوّلا بطريقة الاستقبال وانا اضع قدمي بمكتب الاستقبال الخاص بالطلبة الجدد ..الموظّفة هناك لا تنتظر منك التحية .بل هي من تبادرك بالتحية ..الموظّفة هناك لا تكشّر عن وجهها كما يفعل جلّ الموظّفين ببلدنا ..بل تُهديك ابتسامة صادقة فهي التي تنتمي الى امّة (حللت اهلا ونزلت سهلا) ..الموظّفة هناك تاتيك بكل ما في قلبها وفكرها من ايمان بوظيفتها الاستقبالية لتؤدّيها على احسن وجه فاستقبال هذا الطالب الافريقي في مكتبها المُعد للاستقبال يعني حرارة وورودا وعطر ا..

تبادرك بعد مرحبا بك بالقول كيف يمكن لي ان اخدمك ..؟؟. لان العمل عندها قيمة حضارية …تصوروا هذا المشهد في اداراتنا .. الموظف عندنا (احمد ربي كان ما تلّفكش) وواصل حديثه عن مباراة الترجي والنجم وعن الحكم وعن اجتياح الجمهور للملعب وعن النفاق الكبير بين مسيّري الفريقين .. (وهوما زعمة زعمة روح رياضية عالية وبعد يجي الاحد الرياضي يكشفهم على حقيقتهم… توة لهاالدرجة مازالوا يتصورو المشاهد ابله …؟؟ والله دنتو اللي مسخرة …وعن ذلك الذي بقي على قلوبنا ثقيلا جدا يشتكي من ثقله الزئبق رغم انه يُدعى وديع) …

الموظّف عندنا لا يهمه ان كان الحريف امراة حاملا او كهلا بالكاد يقف على رجل ونصف .. المهم ان يكون الحاكم بأمر الله يعزف كيف ما يشاء.. وقت ما يشاء .. وعلى اي مقام موسيقي يشاء .. قد يكون هو ايضا مُضطهدا من احد اعرافه ..قد تكون وزارة الداخلية في حياته الخاصة (زوجته) قد مسحت به القاعة صباحا، فقدم لعمله وهو مقهور مغبونا ناقم … وقد تكون الموظّفة عندنا زوجة سي السيّد الذي ياتي كعادته مخمورا فـ”يتمرقد” كقطعة حبل دون حتّى ان يفهم يوما انه تزوّج من كائن بشري في حاجة لزوج ككائن بشري … هو في حاجة حتّى للمسة واحدة فيها حنّية الكائن البشري والتي كانت تكون كافية لمسح غبار وعناء يوم كامل في حياة زوجته ..هذا المخمور لم يدرك يوما ان زوجته كائن بشري بل هو يرى الجمال في كل نساء الدنيا الا في زوجته ..والتي تصبح مع مرور السنوات قطعة من اثاث المنزل لا غير ثم يسأل البعض: “قداش كثر فساد في عندي ما نقلّك”… توة هاكي برامج ..؟؟ ما يحشموش… ويزيدك عاد هاكي الموضة الجديدة (تقليعة اعلام العار)…

قد يكون الطرح بذلك الاسلوب للمراجعة وهو فعلا للمراجعة ..ولكن اسال من اين تأتي تلك البرامج بتلك القصص ..؟؟ من مدغشقر او الصومال او جزر الواق واق ..؟؟ اليست من تونس ..تونسنا احنا موش تونستان ..؟؟ اليس الاجدر بنا ان نتساءل لماذا وصلنا الى تلك الدرجة المتدنية في العلاقات الاُسريّة ؟؟؟ عوض ان نسبّ التلفزيون واهل التلفزيون واعلام العار ..؟؟ هل وقفنا يوما امام المرآة لنحاسب انفسنا .. لنتحاور بكل صدق وعمق مع ذواتنا .؟؟؟… وتاكّدوا اننا سنجد فينا نسخا من عندي ما نقلك ومن المسامح كريم ومن حكايات تونسية .. قد تكون فيها الفظاعة نسبيا مختلفة ولكن الفظاعة عادة ما تبدأ الحكاية فيها بتفصيل صغير، ثم يتطور حسب معطياتنا التربوية والاجتماعية والنفسية .. فيصل بالبعض الى فظاعة الجرائم ويقف عند الاخر حد الفظاعة المرعبة ايضا والتي هي كفيلة بتدمير الذات وتخريبها… وهي تلك التي نعبّر عنها بالياس او الرضاء بالاقدار في اسلم الحالات وهاكة مغرفتك اش هزت ..يلعن بو ها المغرفة الكلبة …وما ابشع تلك الحالات …

استقبال الموظفة في اول يوم بالمعهد جعلني احس بجهلي ..فرنسا التي استعمرتنا زهاء القرن تستقبلنا بتلك الحفاوة الحقيقية ؟؟؟ نحن دائما نخلط بين البلد واهل البلد و…ساسة البلد … بدات وقتها أعيش اول خطوة اُدركت فيها جهلي ومراهقتي .. لم تكن ماري موظفة الاستقبال استثناء بل ان اول لقاء مع مدير الدراسة ثبّت في داخلي قناعتي بجهلي …السيد جاك دوران وهو مخرج فرنسي مشهور يستقبلنا استقبال الرجال… استقبالا لا حواجز فيه بل الاعمق والاجمل عندما بدأ يسرد علينا تفاصيل الرحلة الدراسية معه ومع زملائه وهو يقول: “انا سعيد بوجودي معكم كافارقة ..قد نعطيكم شيئا من معرفتنا ولكن تاكدوا اننا نحن من سنستفيد اكثر من وجودكم معنا .سنتعلم منكم الكثير لانكم انتم الجذور في تاريخكم وحضارتكم ونحن الاغصان” …

نعم هذا فرنسي ..كنا نقول عنه الاستعماري العنصري المتسلط… لاننا لم نكن نفرّق بين الكائن البشري كانسان وبين قذارة السياسيين … هل تصدّقوني عندما اقول لكم وقتها بدات اتعلم ان الكراهية هي افتك الامراض البشرية على الاطلاق ..؟؟ هل تصدّقون ان تجربتي مع كل الاساتذة الفرنسيين ومع كل من عرفت ومن كل الاجناس والاصقاع علمتني انه ليس من حقّي ان اكره اي جنس اخر … اية ديانة اخرى … اي مخلوق اخر … ووقتها بدا ينمو ويتطّور بداخلي مفهوم كونيّة الانسان ..وها انا بعد قرابة النصف قرن اقولها عاليا وبكل اقتناع وسعادة وفخر: انا لا اكره حتى الشيطان الذي له رب يحاسبه ..فكيف اكره الانسان الذي هو كونيّا اخ لي رغم انفي وانف الجميع .السنا جميعا ابناء آدم وحواء ؟؟؟ ردّوها عليّ ان استطعتم … هي ليست مواقف بلاتونية رومانسية.. حالمة ..صدّقوني وبكل المقدّسات انها الواقع لو تخلّينا ولو للحظة فارقة عن اختلافاتنا العقائدية والفكرية والفلسفية المريضة ..ولعلّ قصّة قابيل وهابيل اتت لتعلمنا الدرس (الخير والشر) منذ بدء الكون ولكننا لم نتعلم …

الدراسة بدأت بنسق عال …7 ساعات يوميا على امتداد 5 ايام اسبوعيا ..وثراء كبير على مستوى البرنامج .. كنا ندرس مواد تبدو ظاهريا لا علاقة لها باختصاصنا من نوع جولة في عالم الاقتصاد والقانون وعلم الاجتماع . _.ولم ندرك الا بعد مدة ان ميداننا يحتاج حتما الى قدر ولو كان يسيرا من الاخذ من كل شيء بطرف ..وكان مسموحا لنا وبكل سلاسة ان نناقش الادارة والاساتذة في جدوى وفاعلية حتى محتوى البرنامج الدراسي ..رغم انه مُعد بشكل عميق من اخصائيين كبار في كل المجالات بعد بحوث ودراسات طويلة ومُعمّقة … انها حرية التعبير وابداء الراي …في بلداننا .. اشرب والا طيّر ڨرنك … واشكونك انتي باش تناقش برنامج دراسي ؟؟؟ هذا منطق الجهة الفاعلة .اما جهة المفعول بها فهو اما بهيم خدمة (وعذرا للبهائم على حشرها في هذه الخانة) لم يبحث يوما عن جدوى او عدم جدوى مادة ما …او وخاصة بعد 14 جانفي هو مرادف لطفل مراهق وللتعبير عن عدم رضاه يكسّر ويحرق ..ويسبّ …

حدث ذلك مرة معي في معهد الملتيميديا سنة 2012 … مجموعة من طلبة السنة الخامسة رفضوا قطعيا الاذعان لقرار الادارة بتكليف زميلة لي بتدريسهم نفس المادة التي ادرّسها (تقنيات السنيرة والاخراج السمعي البصري)… وكالعادة اعتصموا امام الادارة رافضين العودة الى الدروس مطالبين بوجودي .. هاتفتني الادارة راجية ان احضر على عجل ..ولبّيت النداء ..العديد منهم درّستهم منذ السنة الاولى مادّتي التصوير والمونتاج …قلت لهم عند وصولي: من سيتكلم باسمكم؟ ..تقدّم واحد من طلبتي وعبّر عن رفضه وزملائه المطلق لتلك الاستاذة لانهم ادركوا بعد تجربة قصيرة معها انها ذات كفاءة محدودة جدا ..طلبت من الادارة التي كانت تحترمني جدا وتُصغي جيّدا لمواقفي “سي .في” هذه المدرّسة ثم طلبت مقابلتها ..هي فعلا كانت مبتدئة في الميدان لكن غير المنطقي في الامر ان دراستها الجامعية كانت بعيدة عن الاختصاص التي عينتها فيه الوزارة ..وهي معترفة بان لا علاقة لها بتاتا بتلك المادة ..كانت نزيهة جدا وامينة بواقعها ..عندها قلت لها ساتدبّر الامر مع ادارة المعهد ..

تحاورت مع الادارة وقبلت ان اُنهي الاشكال بان اتكفّل بتدريسهم ولو مجانا ..عدت الى الطلبة وقلت لهم هل انتم مستعدون لقبول الحلّ الذي اراه مناسبا للجميع وبصوت واحد جاء الرد نعم … اقترحت عليهم: اوّلا الذهاب حالا للاعتذار للاستاذة ثم العودة اللامشروطة للدروس… امّا عن البقية فانا من سيتكفّل بها … ودون قيد او شرط اعتذروا وانهوا الاعتصام ….ويوم بداية اول حصّة معهم فوجئوا بحضوري وبكل سعادة معهم .. رحبت بهم وقلت: “ما تفرحوش برشة راكم بدلتو سيف بمنجل”… لأن المعروف عنّي اني جدّي لحدّ الصرامة في التدريس وفي حرصي على جدّية طلبتي وعلى انضباطهم معي كجنرال عسكري في تعاملي معهم …لكن في المقابل انا وكيل دفاعهم وبكل صرامة أيضا اذا ما حاول البعض المسّ بحقوقهم …

وفي هذه النقطة بالذات اتذكّر جيّدا حادثة وقعت ذات سنة 2013 مع طلبة البوزار (فنون جميلة).. فصل في السنة الثانية لم يبدا الدروس منذ الشهر الاول للسنة الجامعية ..وعندما كُلفت بتدريسه اعلمت الادارة ان البرنامج المخصّص لذلك الفصل يتطلب تاخير الامتحان النهائي نصف شهر على الاقل، حتى يكون الطالب جاهزا… وافقت الادارة على ذلك واعلمت الطلبة حتى يطمئنوا على اكمال برنامجهم الدراسي ..عند نهاية السنة انزلت الادارة روزنامة الامتحانات ناسية ما اتفقنا حوله وجاء الطلبة مزمجرين غاضبين معتصمين … دخلت باحة المعهد فاقبلوا وبكل تشنج يعبّرون عن استغرابهم من الامر ..نظرت إليهم وقلت: “زايد، تقعدو طول عمركم فروخ” ..”كيفاش يا مسيو” صاح بعضهم فصرخت في وجهه وقلت: “سكّر جلغتك ..وليّد انا نلعب معاكم؟ ..وعدتكم باتمام البرنامج ولن يكون الامتحان قبل اتمامه” …وكعادتي امرت جميعهم بـ (انقرضوا !)… تفرّق الجمع بكثير من الفخر ..احسّوا باني نصرتهم على قرار الادارة الجائر ..وتوجهتُ الى الادارة مًمثلة في مديرها الصديق الشاعر والمفكر والمثقف نزار شقرون ومعه كاتبها العام … وذكّرتهما بالاتفاق المبرم معهما ..وجدا نفسيهما في موقع حرج واقترحا عليّ اقتراحات لم تكن مقنعة … وكنت حازما الى حد رفض مدهما بالامتحان …وقبلا الامر نظرا إلى عنادي و (كسوحية راسي)… ولكن ايضا إلى وجه الحق في موقفي … واتممت لطلبتي البرنامج ثم كان الامتحان بعده ..

انا لست هنا لاستعرض عضلاتي وفتوّتي ..ابدا والله بل لاقول انه لولا دراستي بفرنسا واستفادتي من تعاملي مع ادارة المعهد ومع اساتذتي ما كنت لاكون كما انا ..دراستي علمتني ان اسال عن كل شيء واناقش كل شيء وابدي رايي في كل شيء واعتذر ان اخطات… تماما كما كان يعتذر استاذي ..دراستي علمتني ان الطالب الناجح او الاستاذ الناجح هو الذي وهبه الله نعمة القدرة على الاستماع الجيد وعلى الردود المقنعة لا السفسطائية… وعلى تجاوز الذات عند الخطأ والانحناء لمن يحسسني بعيوبي… ولكن ابدا ان اتراجع عن قناعاتي او قراراتي اذا كنت مؤمنا بجدواها وبعدم وجود من يؤكد نقصا ما فيها …متعة ان تجد استاذا ما (او استاذة) يدعوك لقهوة او لعشاء بمنزله ليعرفك اكثر او لتستمتع معه بحوار ما في موقف ما ..هذا حدث معي في دراستي بالمعهد ..وحتى ان تأتيك استاذتك لتعبّر لك عن رغبتها في معرفتك اكثر كتونسي او كافريقي وتتقاسم معها عشاء بمنزلها… وقد يطول العشاء ليصبح فطور صباح وما بينهما اشياء …فهذا حدث ايضا ..

ولعلّ الامر المدهش والذي رافقني منذ صغري وحتى وصولي الى دراستي العليا بفرنسا، اكتفائي الذي يكاد يكون كلّيا بما اتلقاه في القسم من معارف … مانيش بهيم قراية بالكل… بقية وقتي كان مقسما على ثلاثة اهتمامات: تنس الطاولة الذي تعلمته بالمعهد عن نيجيري جنّ ارقط في تلك اللعبة، والذي كنت اسمّيه المعلّم الكبير ووعدته يوما بان افتك منه هذا اللقب (وافتككته يوما في دور نهائي بالمعهد ومعه هو بالذات!)… ثاني اهتماماتي كان النزول الى باريس كل يوم بعد اتمام الدروس لمشاهدة فيلم سينمائي وكم هي الروائع التي شاهدتها …”سنوات الجمر” للأخضر حامينة (وهو الفيلم العربي الوحيد المتحصل على السعفة الذهبية لمهرجان كان) ….”طيران فوق عش الوقواق” (وعبقرية جاك نيكولسون في اداء دوره الرهيب) ..”بادرو بادروني” الفيلم الايطالي لمخرجين شقيقين وهو ايضا متحصل على نفس الجائزة الذهبية في دورة لاحقة …”خبز وشوكولاتة” … والقائمة طويلة… طبعا دون نسيان فترة وجيزة اكتشفت فيها لاول مرة الافلام البورنوغرافية …صدقا لم تطل لان الحاجة لها اصبحت منعدمة تماما باعتبار (الشيء موجود في الواقع)…ووقتها ادركت ان لا سينما عندنا في تونس مقارنة بما استمتع به يوميا في باريس …

الفاصل الثالث من يومي والذي كان بحق العابا اولمبية بكل المواصفات ..وهي في الحقيقة لم تكن العابا بقدر ما كانت نقاط ضوء هامة في تركيبتي الفكرية وفي علاقتي بالمرأة… تجربتي في باريس اكدت لي كم كنت منحطا متخلفا جهلوتا في رؤيتي للمراة ..تجربتي علمتني احترام هذا الكائن البشري فكريا وجسديا لاني قبلها كنت لا اختلف في شيء عن الحيوان فكريا وجسديا…

شكرا باريس عاصمة النور … نورتني والله …يااااااااااااه كم هي حكايااك كثيرة وجميلة ومثيرة يا باريس النور والحرية والثقافة … يا ربيييييييييييييييييييي كم انا مدين لها .. وكممممممممممممممممممم ما كنت انا لاكون لولاها …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 79

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الشجاعة عندي ان نواجه الخصم وجها لوجه لا ان نكيل له كلّ التّهم في ظهره ونواجهه بابتسامة خادعة، هي النفاق وهي الجبن والخزي والعار …

عبد الكريم قطاطة

لذلك لمّا انهى السيّد عبدالرزاق الكافي مكالمته مع السيّد منصف بن محمود الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية انذاك ليُشعره بقراره المتمثّل في عودتي لبيتي لاذاعة صفاقس… طلبت منه بكلّ لطف ورجاء ان كان لا يُزعجه، ان يُعلم عبر مكالمة هاتفية مديري السيّد محمد عبدالكافي بقراره، حتّى لا اعود اليه بمنطق المنتصر من خلال قرار فوقي ياتيه من اعرافه … اذ انّ في ذلك اهانة لشخصه ..وانا يعزّ عليّ ان يُهان الانسان مهما كانت نوعية الخلاف الذي بيننا …الكرامة كانت عندي وستبقى خطّا احمر ومثلما دافعت عنها عندما يتعلّق الامر بكرامتي، فمن باب المنطقي جدا ان ادافع عن غيري في هذا الباب مهما حدث …

للامانة فوجئ السيّد الوزير بموقفي … سكت لثوان ثمّ وبابتسامة رضا قال لي: (هذا موقف رجولي …وتقديرا لك سافعل) … رفع سمّاعة الهاتف وباختصار شديد وبصوت هادئ قال: (سي محمد مرحبا بيك معاك عبدالرزاق الكافي .. انا توة بحذايا توة سي عبدالكريم قطاطة حكيت انا وياه في الاشكال اللي وقع بيناتكم ويبدو انو موش كبير… واعتقد انو حان الوقت لانهاؤو ولعودة المذيع للمصدح … مازلت كيف كلمت سي المنصف وعلمتو بقرار عودة سي عبدالكريم وبطلب من هذا الاخير انا كلمتك باش تكون على علم … نطويو الصفحة اللي خذات برشة وقت ونعوّل عليك وعليه باش تخدمو في كنف التأخي بما فيه مصلحة الاعلام …ايّا في لمان)… علّق السيّد الوزير سمّاعة الهاتف ثمّ مدّ يده لي بكلّ حرارة وقال … تشرّفت بمعرفتك ونعرفك تهنّيني …اجبت: (شكرا انّك سمعتني وان شاء الله نكون في مستوى ثيقتك) …

خرجت من الوزارة بفخر واعتزاز وسعادة لا تُوصف … للامانة لم تكن سعادة مشوبة بالخيلاء والانتصار على الخصوم بقدر ما كانت سعادة العودة الى المصدح والى اصدقائي المستمعين… كنت دوما اقول لكلّ متدرب عندي في ميدان التنشيط الاذاعي …. المصدح امّا ان يكون حبّا كبيرا غامرا عارما لحدّ الغرق الجميل او لا يكون… بعضهم لم يكن في بدايته يستوعب مثل هذه الكلمات بل كان يستغرب منها … وكثير منهم من غرق في لجج حبّ المصدح لحدّ الهوس …لكن يبقى الاشكال الاكبر في توظيف هذا الهوس بشكل ايجابي ومن زاويتين … الاولى الايمان بالرسالة الكبيرة التي على المنشّط ان يعتنقها من اجل اعلام يرتقي بالذات وبالوطن وبالانسان والا اصبح المصدح والاعلام من صنف هشتكنا بشتكنا …

الزاوية الثانية الايمان وبشكل دائم انّ حبّ المصدح وتحقيق بعض النجاح ستكون عاقبته الفشل متى اصبح المنشّط يعتقد انه اصبح نجما لمجرّد ان ينهال عليه مجموعة من المستمعين بعبارات النفخ والشكر والمديح وعبارات من نوع انت مبدع وانت رائع ..وهو لم يفهم بعد انّه سلك بضع خطوات في سلّم الطريق الصعب والشائك والطويل… ولم يتفطّن انّ عملية النفخ هذه هي تماما كالنفخ في الرماد …كنت دائما اردّد: شرعيّ جدا ان يتوق ايّ منشّط للنجومية …ولكن بداية النهاية ان تصبح لدى المنشّط قناعة كاملة بأنّه نجم لا يُشقّ له غُبار منذ بداياته وهو غير قادر احيانا حتى على صياغة فقرة دون الوقوع في اخطاء لغوية ونحوية بدائية … درب التنشيط ينتهي فقط عندما ننتهي …علاقتنا بالمصدح هي علاقة التلميذ بالدراسة ومدى الحياة …لذلك كنت كثير الانزعاج بالنسبة لي ولمن ادرُسهم فنون التنشيط من كلمات الاعجاب على شاكلة (انت مبدع) …. عن ايّ ابداع تتحدثون ؟؟ هذا هو الفخّ الكبير الذي ينساق اليه العديد من المنشطين وخاصة المبتدئين منهم …

عندما غادرت مبنى الوزارة اتجهت مباشرة الى محطة اللواجات …كنت لا الوي على شيء وكان كلّ همّي ان ازفّ البشرى لعائلتي واصدقائي … بعد اربع ساعات وجدتني بمنزلي… زوجتي كانت اذاك تُقيم بالمستشفى الجامعي قسم الولادات نظرا لاشكال صحّي حتّم عليها الاقامة والعناية الدائمة بها، ووالديّ رحمهما الله كانا في استقبالي … توجّست الوالدة خوفا وهي تعلمني بأنّ سيارة الاذاعة جاءت لتسأل عنّي، وكعادتها بادرتني بالسؤال (لاباس يا وليدي ؟؟ كرهبة الاذاعة اربع مرات تجي وترجع تسأل عليك جيتشي من تونس ؟؟)… طمأنتها بالقول (وراسك لاباس يا عيادة الحمد لله عن قريب ترجع تسمعني في الاذاعة) … (ايّا الحمد لله ما تخافش في جرّتك دعاء الخير مادامنا راضيين عليك) …

وماكادت تُنهي كلامها حتى رنّ صوت منبّه السيارة … خرجت لأجد الزميل السائق …سلّمت عليه وسألت لاباس ؟؟ اجاب زميلي … لاباس سي محمد حاجتو بيك وقلّك دوب ما توصل ايجاني … تبسّمت وقلت … اوكي هيّا نمشيو …كنت قد فهمت قصد سي محمد عبدالكافي … لمّا وصلت وتطلّعت الى نظرات عينيه … سلّمت عليه وقبل ان ينبس ببنت شفة قلت له: صاحبك راجل اقسم لك بكلّ المقدّسات اني لم اقل فيك كلمة سوء … كلّ ما في الامر وبالحرف الواحد قلت للسيّد الوزير وقعنا في سوء تفاهم انا ومديري استغلّه اصحاب السوء ليُعكّروا الاجواء بيننا، وطلبت منه بعد مكالمته مع الرئيس المدير العام ان يبلغك مباشرة بقراره حفاظا على كرامتك وعزّة نفسك …

كان متجمّدا في كرسيّه ينظر اليّ بكلّ تركيز … نهض من الكرسيّ وجاءني معانقا والدمع مترقرق في مقلتيه وقال …الله يهلك اصحاب الشرّ واكاهو … ومدّ يده وقال … )هذا وعد من عند خوك من هنا فصاعدا ما ترى منّي كان الخير) … وللامانة كانت بداية عهد جديد مع الزميل والعرف سي محمد … اصبحنا صديقين جدا لدرجة انه كان يستشيرني عند ايّ تغيير او مع بداية ايّة شبكة، مما جعل البعض يعلّقون على ذلك بالقول وبشكل مازح (الشبكة ما تخرج اللي ما يشوفها عبدالكريم) … كانت فرحة للعائلة والاصدقاء والزملاء في الاذاعة وفي الصحافة المكتوبة كبيرة… وطبعا الصدقة ما تخرج كان ما يشبعو امّاليها وباعتبار انتمائي لجريدة الاعلان لعدد الثلاثاء، ظهر اوّل خبر عن عودة الكوكتيل بهذه الجريدة وبتاريخ 6 جانفي 1987:

“رسمي… كوكتيل عبدالكريم يعود يوم الاثنين القادم

في ظرف اقلّ من شهر نسجّل للاستاذ عبدالرزاق الكافي مبادرة ثانية في اعادة المياه لمجاريها وتحقيق رغبة الجماهير الواسعة… فبعد ان استجاب لطلب الزملاء الذين اتصلوا به في صفاقس لاعادة الزميل مختار بكور للنقل الرياضي (هنا لابدّ من الاشارة الى انّ الزميل الهادي السنوسي هو الذي وقع تكليفه منّا جميعا كي يكون المحاور في قضية الزميل مختار بكور وفعلا نجح في مهمته وعاد الينا بوعد من الوزير باعادة زميلنا مختار)، علمنا انّ السيّد الوزير تدخّل شخصيا في الايام الاخيرة لاعادة شيطان الميكروفون الزميل عبدالكريم قطاطة الى التنشيط الاذاعي …اذن سيعود في الايام القليلة القادمة الكوكتيل الى شبكة اذاعة صفاقس بعد غياب تواصل حوالي السنة وثمانية اشهر، ليزيد في تدعيم البرامج المباشرة … وقد اتصلنا بالسيّد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس الذي افادنا انّ سيادة الوزير قد قرّر اعادة الزميل عبد الكريم الى حظيرة العمل الاذاعي بداية من 2 جانفي، وعلمنا انّ توقيت البرنامج قد تغيّر ليصبح يوميّا من الاثنين الى الخميس من الثانية والنصف بعد الظهر الى الرابعة وذلك لضغوط الشبكة الحالية”

قد يتبادر لذهن البعض مجموعة من التساؤلات حول توقيت البرنامج ومدّته ويوم عودته الذي تأخّر إلى 12 جانفي عوضا عن 2 جانفي …اوّلا وبكلّ موضوعية عندما قرر الوزير اعادتي لاذاعة صفاقس كانت الشبكة جاهزة تقريبا .. لذلك عندما تحاورت مع السيّد محمد عبدالكافي عبّر لي عن انشغاله لعدم وجود مساحة كافية للكوكتيل واستحالة عودته في مكانه المعتاد (العاشرة صباحا)… وطلب رايي في الامر وبكل صدق ونزاهة عبّرت له عن يقيني بأنّه ليس التوقيت ما يخلق نجاح ايّ برنامج بل المحتوى وسترون اني في ما بعد عملت بكل المساحات توقيتا … الاصيل ما بين الثانية والنصف الى الرابعة … المساء من الرابعة الى السادسة … الليل من التاسعة الى منتصف الليل… وصولا الى فجر حتى مطلع الفجر من منتصف الليل الى الخامسة صباحا ….

وللامانة ايضا كان ذلك نوعا من التحدّي من جانبي للذين يقولون (طبيعي انو عبدالكريم نجح في الكوكتيل لانو واخذ احسن توقيت من العاشرة الى منتصف النهار … متجاهلين اني عندما اخذت على عاتقي الكوكتيل في ذلك التوقيت كانت تلك الفترة اذاعيا فترة ميّتة وليس بها سوى برامج اهداءات … لذلك قبلت التحدّي واضفت متحدثا الى الزميل محمد عبدالكافي… ما رايك بما انّ توقيت البرنامج يأتي في الاصيل ان نبدّل اسمه إلى “كوكتال الاصيل” ؟… وللامانة مرة اخرى كان تفكيري ليس مأتاه التوقيت فقط بل صفة الاصالة تعنيني ايضا …لست ادري هل فهم سي محمد الامر كما فهمته ولكنّه وافق دون نقاش….امّا تاجيله ليوم 12 فذلك كان حرصا منّي على استنباط محاور جديدة للكوكتيل بعد ان وقعت سرقة جلّ اركانه القديمة إلى برامج اخرى… وهذا ايمان منّي ايضا بأنّ المنتج والمنشّط غير القادر على الابتكار والخلق مآله الموت الاذاعي السريري …

وجاء يوم 12 وقسمت الكوكتيل الى محورين… نصف الساعة الاولى يحتوي على المقدمة الشخصية اي (الموقف) باعتباري كنت ومازلت اؤمن بالاعلامي صاحب المواقف لكن دون غرور وبكل تواضع… ولا قيمة عندي لذلك الاعلامي عموما الذي يكون (صباب الماء على اليدين او القفاف والانتهازي والذي تشتريه بكسكروت) وهذا وقع …. نعم هنالك من وقع شراؤه بشاطر ومشطور وبينهما كامخ (وهو اسم الكسكروت باللغة العربية القحّة… ما ارزنو وقداش فيه تجوعيب على لغتنا الجميلة) …امّا النصف الثاني للكوكتيل وبمعدّل ساعة فادرجت فيه ركنا جديدا تحت عنوان بكلّ احراج …وفيه اقوم بدعوة ضيف لاطرح عليه بعض الاسئلة الخالية من المجاملة ولكن بكل لياقة وبعيدا عن الاساليب الوقحة التي انتشرت بشكل مقذع بعد 14 جانفي (وقيّد على حريّة التعبير والتي هي في الحقيقة حريّة التبعير)…

وللعدد الاوّل اخترت ضيفا من الوزن الثقيل… ومن يكون غير ساحر الاجيال حمادي العقربي …دعوني احك لكم عن علاقتي بحمادي … انا اعرفه منذ كان يكوّر في البطاحي …حمّادي من ميزاته انّك وانت تشاهده في ايّة تكويرة يستحيل ان تتكهّن بايّة حركة كروية سيقوم بها …ومن عيوبه انّه لا يُجيد الكلام الا برجليه …اتذكّر جيّدا انّي وفي اوّل لقاء طويل معه وانا اقترح عليه لقاء صحفيا مطوّلا بجريدة الايام، وجدته معجبا بي وببرامجي… فاجأني بذلك وفاجأني اكثر عندما قال انه لم يسبق له ان ادلى بحوار مطوّل لايّة جريدة وانّ العديد من الحوارات التي صدرت ببعض العناوين الصحفية كانت وهمية … وبكلّ صدق كان يومها يفضّل ان لا يكون الحوار … لكن لم استسلم واقنعته بأنّه من حقّ الناس عليه ان يعرفوا العديد من التفاصيل واكّدت له انّني لن اقدّم الحوار للنشر الاّ بعد ان يطّلع عليه كاملا …الاّ انّ اجابته اخجلتني واسعدتني … قال حمادي … نعرفك معلّم وعندي ثيقة فيك … وكان الحوار صفحة كاملة في جريدة الايام …

عندما دعوته ليكون ضيفي الاوّل في كوكتيل الاصيل …كان سعيدا بعودة الكوكتيل وكان مراوغا كعادته وبابتسامته الخجولة المعهودة قال … تي اشنوة يا سي عبدالكريم موش لو كان نخليوها مرة اخرى خير؟ …قلت له لا يا حمادي، الحلقة الاولى نحبّها مع معلّم … ومرة اخرى يرواغ ويقول … يخخي انت موش معلّم ؟؟….ودون تطويل مشاور قلتلو يا حمّادي قُضي الامر انت ضيفي في الحلقة الاولى … وبكلّ حبّ وحياء يُجيب حمادي … وانا عندي حكم معاك؟ …. وكان ذلك …وكان يوم 12 جانفي وكان يوم 13 جانفي ايضا …حاصيلو كيف تمشي تقطّع السلاسل وكيف تجي تجيبها سبيبة …اقداااااااااااااااااااار

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 78

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الثلاثية الاخيرة لسنة 86 شهدت مجموعة من الاحداث الهامة … لنبدأ بسبتمبرها حيث انتقلت مجموعة “الايام” الصحفية بجلّ عناصرها وبعد الاستقالة من الجريدة الى خانة صحفية اخرى .. جريدة الاعلان …

عبد الكريم قطاطة

هذه الجريدة كانت، اسما على مُسمّى، عنوانا صحفيا جلّ صفحاته اعلانات … كانت تصدر يوم الجمعة وبرئاسة تحرير للمتميّز جدا الزميل جمال الدين الكرماوي، ربي يشفيه*… جمال هو فنان بكل موازين الكلمة فهو لاعب ممتاز في كرة القدم لعب بالملعب التونسي … وهو عازف غيتار وهو ايضا قلم فينو ومن افضل من عرفت الساحة الصحفية فيانة ونقشا… اشتهر في جريدة الاعلان بمقاله الاسبوعي الو الاعلان …مقال كان ينتظره عشاق الكلمة الرشيقة والاسلوب السمح …

السيّد نجيب عزوز مدير الجريدة اغتنم فرصة انسحاب فيلق الايام من الايام ليضرب عصفورين بحجر واحد… العصفور الاول تمثّل في استغلال تألّق مجموعة الاقلام في تجربتها مع الايام وانتدابها … والعصفور الثاني توسيع دائرة انتشار جريدة الاعلان لتصبح جريدة نصف اسبوعية وذلك بالصدور مرتين في الاسبوع … يوم الجمعة لفريق جمال الكرماوي و يوم الثلاثاء لفريق نجيب الخويلدي … كان ذكيّا جدّا في ادراكه لما قد تخلقه روح المنافسة بين الفريقين واستغلالها ايجابيا … وفعلا نجح في الرهان رغم كلّ عوائق ومشاكل الغرور التي عاشها الفريقان …وفعلا انطلقت التجربة الثانية لاسرة الايام داخل اروقة الاعلان في 30 سبتمبر 1986…

شهر ديسمبر من نفس السنة شهد حدثين اوّلهما عيد ميلاد اذاعة صفاقس (8 ديسمبر) والذي كان بالنسبة للمستمع المتعلّق بالكوكتيل مناسبة اخرى لاحياء مأتم … هاكم ما كتب عبداللطيف الحداد مرة اخرى بجريدة النهار يوم 3 ديسمبر 86 حول الحدث وتحت عنوان “خطاب عاجل الى مدير اذاعة صفاقس .. عيدا سعيدا في غيابنا”:

(سيّدي .. تحتفلون بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الـ 25 وكلّكم فرح وترح واشياء اخرى وذلك من حقّكم طبعا ..اعرف انّ ربع قرن من الحياة والجهد والدأب له وزنه وثقله المُعتبر ولونه الخاص جدا .. اعرف وثانية انّها فرصتكم كاملة لتقولوا هكذا فليذهب المتنطعون الى الجحيم … انّنا نفهمهم وبكلّ تاكيد ونحتفظ ـ مازلنا ـ بأدقّ تفاصيل ذبحة ذلك المطرود منذ عشرين شهرا عبدالكريم قطاطة … انّها 8 ديسمبر اخرى لن يكون فيها فتى اذاعة صفاقس الاوّل هناك ..وانّه امر يُثير فينا كثيرا من الحزن والبكاء … اتُصدّق سيّدي انّ كلّ التقارير التي تصلك عنّا كاذبة ..؟ فنحن لم نعد نُننصت اليكم منذ ماي 85 والسبب بسيط جدا جدا ..وهو انّ اذاعتكم امست بدون الكوكتيل كأيّة قلعة خاوية … ونحن اصدقاؤه ما كنّا عصابة مافيا ولا جماعة كوكايين .. بل انّنا لم نقتل قطّة ولم نحرق قمحة ولم نطالب برأس احد .. فقط نادينا ومازلنا باعادة الكوكتيل وصاحبه الى ساحة الاذاعة…

ونحن ثالثة يا حضرة المدير مازلنا على عهدنا مع صاحب الكوكتيل حبّا وارادة واملا الى ان ينام القمر .. هكذا ذاكرة الناس الطيبين في هذا الوطن العزيز وهذا الجنوب الطيّب لا تنقطع بتلك السهولة المزعومة وتعوّدت ان تخبّئ الحب لمن حفر ويحفر فيها بالمثل فهل تُجبر الكسر وتضع امرا ؟؟… لقد كان لك ومازال كلّ الوقت لتطرح وتجمع وتضرب وتقسم وتكسر وترتّب الاوراق وتُمعن في تجميد تلك الامبراطورية الهائلة في التنشيط، وبث الفرح في البيوت الحزينة والمدن الباردة ولكن عبدالكريم قطاطة عائد الينا غبّا وكفّه مضرّجة بالحبّ والفرح لجما ودما … ذلك حدسنا ورهاننا … لاننا تعلمنا معا انّه حيث البكاء والبكاء والبكاء نتقمّص الكلمة ونحفر المدى حتّى ينبجس الحلم غدا وتمطر السماء .. وحتى يأتي ذلك اليوم الاكيد فهو سيظلّ منّا في العمق وفي تجاويف الذاكرة امّا انتم يا سيّدي فطاب عيدكم في غيابنا… عبداللطيف حداد ـ قصر الحدادة غمراسن)

هنا لابدّ لي من توضيح امر هام … نشري لمثل هذه المقالات يأتي فقط من زاوية التوثيق ولم ولن يكون قصدي التفاخر بما كّتب حولي والله على ما اقول شهيد… ثم هو حرص منّي ايضا على العرفان بالجميل للمستمع وهو يُدلي بشهادته في كلّ ما حدث وذلك اراه واجبا تجاه هذا المستمع وتجاه ما دوّنه من اوجاع وجراح …شهر ديسمبر ايضا شهد سابقة اعلامية هامة … اثر مباراة في كرة القدم بين النادي الصفاقسي وضيفه الترجّي والتي تمّ فيها طرد اللاعب منصف الطرابلسي ثم شطبه مدى الحياة وقع ما وقع … ومن ضمن تلك الوقائع ايقاف الزميل مختار بكّور عن التعليق الرياضي للاذاعة الوطنية … نعم … اذ ارتأت في تعليقه انحيازا للنادي الصفاقسي … وهو امر يصل الى درجة الكفر والردّة في نظر المسؤولين الكبار والذي مازال مثل هذا التصرّف العمودي لحدّ الان يتمرّغ على مسامّ جلودنا رغم انّ 99 في ال 100 من الاعلام العاصمي ولحدّ الان هو مكشّخ وبامتياز …اعني وبنذالة …مع احترامي للاقلّية النزيهة والشريفة … لا علينا سآتي حتما يوما ما وفي الورقات القادمة لهذا الملّف … اذن وقع ايقاف الزميل مختار بكور عن النقل الاذاعي الرياضي رغم انه من اكثر المتعاونين هدوءا ورزانة في اذاعة صفاقس …

امام هذا الوضع ارتأيت ان اغتنم فرصة زيارة وزير الاعلام انذاك السيد عبد الرزاق الكافي لاذاعة صفاقس التي ستحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين، كي انظّم مباراة في كرة القدم بين اعلاميي الجهة وزملائهم من العاصمة… والحرص بعدها على اللقاء بالوزير ومطالبته فضلا لا امرا بارجاع الزميل مختار بكور لسالف نشاطه… تحادثت في الامر مع السيد عبدالعزيز بن عبدالله رئيس النادي الصفاقسي انذاك وعبّر لي عن مساندته المطلقة ماديا وادبيا لحدّ التكفّل بمصاريف اقامة ضيوفنا الزملاء من تونس… وكان الامر كذلك… مباراة ودية بالملعب الفرعي للطيب المهيري… سهرة رائقة شائقة بكلّ المفاهيم …لحدّ الثمالة وبكلّ المفاهيم لاحفاد ابي نواس… ثمّ لقاء مع الوزير واستجابة لرجاء الجميع واعادة مختار بكور الى سالف نشاطه…

اعود بكم الان الى خاتمة الورقة 77 والتي همس لي انذاك وزير الاعلام وهو يسلّمني الكأس … (انت هو سي فلان ؟؟ طلّ عليّ في مكتبي بالوزارة يوم الاثنين المقبل) … عندما ختم كلامه نظرت مليّا في عينيه بعد ان قلت له: حاضر … فقرأت فيهما وداعة ولطفا … ثمّ كان لزاما عليّ ان البّي الدعوة مهما كان الامر …بوزيد مكسي بوزيد عريان …ما الذي سيحصل اكثر ممّا حصل ؟؟… ربّما هي (صحّة راس) … غرور … تنطّع … _ قولوا ما شئتم …فأنا كنت ومازلت هكذا …ثوابتي لن يمسّها احد وقناعاتي ومهما خلقت لي من مشاكل وخصوما لن اتزحزح عنها …والروح ما يهزّها كان اللي خلقها …

يوم الاثنين كنت بمكتب الوزير … استقبلني ببشاشة وابتسامة عرفت مغزاها خاصة بعد انا قال: (مرحبا بيك سي عبدالكريم …تي العريضة متاع 20 الف امضاء امضاء اطول منّك) … ابتسمت بدوري ولم اردّ عليه …ولج للحوار بشكل فوري وسألني: (اشنوة اللي بينك وبين سي محمد عبدالكافي؟؟)… لم اتردّد لحظة واحدة في القول: (سي محمد عبدالكافي عرفي امس واليوم وغدا، والذي وقع سوء تفاهم بيننا استغله اصحاب النفوس المريضة) .. لم يكن موقفي مبنيا على الخوف او هزان القفة لعرفي، ولكن كنت مدركا اوّلا بل متيقّنا بمعرفة والمام الوزير بتفاصيل ما حدث… وثانيا ما كنت ولن اكون من تلك الشريحة التي تغتنم مثل هذه الفرص لتطعن في الظهر الخصوم … لو كان السيد محمد عبد الكافي رحمه الله حاضرا لقلت كلّ ما لديّ في صدري …. امّا اغتنام فرصة غي والتشهير به فذلك الجبن والنذالة بعينها…

نظر اليّ مرّة اخرى السيد عبدالرزاق الكافي بنفس الابتسامة الوديعة … وحمل سمّاعة الهاتف وطفق في تركيب رقم … وماهي الا لحظات حتى سمعته يقول: (عالسلامة سي المنصف بحذايا سي عبدالكريم قطاطة وحكيت معاه ونحبو يرجع لبرنامجو في اقرب فرصة) … فهمت انّ “سي المنصف” هو السيد منصف بن محمود رئيس الاذاعة والتلفزة انذاك … نظر اليّ السيّد الوزير وقال: (انتهى الاشكال سي عبدالكريم؟)… اجبته: (شكرا سيّدي الوزير على الثقة، ولكن لي رجاء لو تسمح) .. (تفضّل سي عبدالكريم) …وانتم لو تسمحون انتظروا معي الرجاء في الورقة القادمة … يخخي موش يقولوا ذوّق وشوّق ..؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كتب المقال قبل وفاة الزميل الكرماوي رحمه الله

أكمل القراءة

جور نار

ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيد؟ (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ذكرنا في الحلقة الماضية بجريدة جلنار الجزء الأول من انتظارات الشعب خلال طرح تحليلي مختصر يشير خاصة إلى أن الانتخابات الرئاسية التي تمت يوم 6 اكتوبر تعد اول انتخابات نزيهة وشفافة لم تشبها عمليات تدليس مثلما وقع في مرحلة بورقيبة، او تهافتا ومباريات بين الولاة للترفيع في نسب التصويت زمن بن على…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

كما كانت هذه الانتخابات نقية من المال الفاسد والتدخلات الداعمة الخارجية (القطرية و التركية) عبر الجمعيات الاخوانية المشبوهة التي توزع حقق الطماطم وارطال المكرونة و الأوراق النقدية لاستغلال أصوات البؤساء وضعاف الارادة من المواطنين، وكذلك تكفير من لا يصوت للنهضة من خلال المساجد وابواقها والتهديد بالسحل وغير ذلك من صفحة تلك الفترة الظلامية المظلمة…

الانتخابات التي شهدتها تونس هذه المرة أعطت الصورة الحقيقية لما يستوجب ان تكون عليه الانتخابات بالعالم الثالث والبلدان العربية جمعاء… كما عبر خلالها الشعب التونسي على رغبته الجامحة والحاسمة لكنس منظومة فاشلة وخطيرة لوثت وطنا جميلا… عبّر الشعب عن ثقته بقيس سعيد متمنيا و معتقدا انه الكفيل بتحسين أوضاع البلاد التي دمرتها عشرية ما بعد 2011.

لقد تناولنا باختصار عددا من انتظارات وتطلعات الشعب خلال السنوات القادمة وذكرنا اهم القطاعات ذات الاولوية مثل الفلاحة و الصحة و التعليم وعلى المستوى الاجتماعي تطرقنا إلى التشغيل و القدرة الشرائية للأسر التونسية والغلاء الفاحش للأسعار كما عرجنا على قطاع الخدمات و عصرنة الإدارة التونسية وفرض قدسية العمل وتنقية القطاعات من كل مخلفات الارتخاء والفساد (انظر عدد جلنار ليوم 8 أكتوبر 2024)…

في هذا الجزء الثاني نبدأ بضرورة تأهيل العمل الدبلوماسي والقنصلي بالخارج و الرفع من الدور المناط بمهامه الكلاسيكية وحسن اختيار التمثيليات حسب الأهداف السياسية والامنية وخاصة الاقتصادية، ودعوة القناصل إلى تحسين العناية بمواطنينا بالخارج ونبذ روح الارتخاء و عقلية اللامبالاة التي تطغى من حين لآخر.. كما على السفراء تأكيد لهتمامهم خارج الوطن بالمعطيات الأمنية نعم ولكن الاقتصادية أيضا، عن طريق رسم منهجية لجلب الاستثمارات لتونس و متابعة التطورات التي من شانها دعم تصديرنا وتنمية مدخراتنا من العملة الصعبة… كذلك حث مواطنينا بالخارج على المشاركة في عمليات ومشاريع التنمية.

بخصوص المتطلبات الأمنية.يبدو أنه من البديهي دعم مؤسسة الأمن ومواكبة كل التحولات الفنية وتحديث التجهيزات ومزيد ضمان اكثر رفاهة لاطارات واعوان الأمن، و تعزيز الاجراءات التشريعية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة…

قطاع الثقافة يعد من القطاعات المظلومة منذ حكم بن علي وسعت منظومة ما بعد الثورة إلى كنس حضور الفعل الثقافي و تقزيم الإبداع والمبدعين… ويكفي الإشارة إلى هرسلة المسرحيين و الاعتداءات على الأساتذة والقناة الوطنية… ولحدود السنوات الأخيرة فإن ميزانية وزارة الشؤون الثقافية (أقل من 1 بالمائة من ميزانية الدولة) تبعث على الاستغراب … فلا إمكانيات لدعم الإنتاج الثقافي من مسرح او سينما او فنون أخرى لتبقى القنوات تلوك مسلسلات السبعينات و الثمانينات…

كذلك هناك احساس تبعا لما ذكرنا بكبح الإبداع والإنتاج الأدبي… وكل ما تفعله وزارة الثقافة اليوم لا يتجاوز “التكرّم” بإقتناء بعض الكتب يخصم جزء من ثمنها لفائدة الضرائب … أين دعم الروايات؟ والسيناريوهات؟ والإنتاج السينمائي؟ وكيف يتم اسناد الدعم على أيدي اللجان او القبول من قبل القناة الوطنية؟؟ كلها اسئلة و مسائل تنتظر مزيدا من التنظيم او الدعم او المراجعة او عدالة الاختيار.

لعل قطاع الطاقة يحتل مكانة أثيرة في أولويات تونس ويفرض تدخلا عاجلا ضمن مخطط واضح المعالم… إذ نحن نستمر في تجاهل الطاقة الشمسية التي حبى بها الله بلادنا والتي يمكن أن تكون أكبر رافد للتشغيل و تصدير الطاقة عوض الترفيع المستمر في اسعار استهلاك الكهرباء و استيراد التجهيزات او المنصات…

كذلك وإثر تحرر قطاع الفوسفات من عبث و تجميد عانى منهما طيلة اكثر من عشر سنوات، يتطلب اليوم هذا المجال مزيدا من الرفع في طاقة إنتاجه و اقتناص مزيد من الأسواق العالمية وتنويعها ..

نمر إلى قطاع السياحة الذي بقي لسنوات طويلة يعزف على وتر واحد، موسيقي كلاسيكية وجب تجاوزها… ذلك أنه اصبح اليوم من الضروري المرور إلى تنويع الوجهات والمواد السياحية. لتشمل الشمال الغربي ومزيد دعم السياحة الثقافية، كالآثار التاريخية المتعددة بجهات جندوبة و القصرين، وقفصة (الحضارة القفصية) ويعين بريمبة بقرية المنصورة قبلي و كذلك توريس… كلها في مجملها وخصوصياتها تمثل ركائز لتنويع المنتج السياحي.

وفي حقيقة الأمر لا يمكننا تناول كل الملفات الوطنية الهامة التي تتطلب الدعم خلال السنوات القادمة مثل القطاع الصناعي والبيئة والعدالة الجبائية والخدمات البلدية ومراقبة انجاز المشاريع المعطلة اصلا منذ العشرية، وكذلك أهمية دعم قطاع العدلية لتسريع التقاضي وتحسين ظروف عمل الفاعلين في المرفق القضائي.

لن انهي هذا الطرح دون أن أشير إلى ضرورة ترسيخ اكثر ما يمكن من مكتسبات الثورة عبر ضمان ديمقراطية حقيقية لكل التونسيين دون استثناء، بالتوازي مع التزام الجميع بمصلحة الوطن ووضوح الرؤيا السياسية ومزيد دعم الحريات الفردية و العامة وحرية الرأي و الصحافة دون أي احتراز ..

الوطن للجميع لكن جميعنا مطالب أيضا بوضع أولوياتها و مصالح شعبها قبل كل الأولويات الأخرى فردية او حزبية، فتونس تستحق دوما الأحسن.

أكمل القراءة

صن نار