جور نار
ورقات يتيم … الورقة 62
نشرت
قبل 3 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
وها انا بصفاقس في اكتوبر 79 …. كمّ الفرح الجماعي في عائلتي في حومتي لدى خطيبتي وعائلتها وخاصة امّها التي لم تكن تنتظر قدرا ابنتها الوحيدة تتزوّج يوما وتبتعد عنها لتستقرّ بعيدا عن صفاقس …
كانت تفضّل في قرارة نفسها ان يفوز بوحيدتها ابن اخيها الذي كان، واعتقد انّه مازال، يحبّها بشكل مهووس .. الله غالب، ليس كلّ من يحب ينال ما ومن يحبّ ورُبّ ضارة نافعة… لأن هذا الحرمان هو الذي اعطى وجعا جميلا للقلم عبر تاريخ القصة والرواية التي كُتبت والتي لم تُكتب في العشق والحب …فماذا عن معظم المبدعين في القصة والرواية والمسرحية والشعر والموسيقى لولا وجع العشق المجنون ؟؟؟؟ (توة عاد ولّى الممنوع والاسود ونستناو السيكلاما والفاروزي زادة) …هل كنّا نستمتع يوما وابن بني عبس يهيم حول ديار عبلة وينشد (يا دار عبلة بالجواء تكلمي)؟… ماذا عن شمشون ودليلة ..؟؟ ماذا عن ابي فراس واراك عصيّ الدمع ..ماذا عن احمد رامي و(ياما حليتلك اهاتي انت والايام عليّ) …ماذا عن (حتى في احضان الحبايب شوك يا قلبي)؟ …
وبجاه ربّي ما تقولوليش انت موش مريڨل وانا موش مريڨلة … ماذا عن القباني وهو يغمس ريشة قلبه في اوجاع الحب… ماذا عن بنت المستغانمي في ذاكرتها او فوضاها او في الاسود الذي لم يلق ببطلتها رغم انّ مجرّد عبارة (الاسود يليق بك) اوقعتها في شراك العشق الموجع …ماذا عن عاشقي التيتانيك لولا تلك النهاية الفاجعة… ماذا عن “ذهب مع الريح” (ذلك الفيلم الاسطوري الرهيب) لولا انّ الحبّ فيه ذهب مع الريح ..ماذا عن ميشال بيكولي ورومي شنايدر في فيلم (آخر اشياء في الحياة) والذي ينتهي بحادث مُميت لحظات قبل انتصار الحبّ … لكأن الحب في جُلّه يُولد توأما مع الالم .. بل ولكأن الحب في جلّه لا طعم له دون ألم … وهو ما اُُطلق عليه كثيرا توصيفة ثنائية العذوبة والعذاب …
في اليوم الاوّل الذي ولجت فيه باب الاذاعة وانا احمل معي مشروع اوّل نواة تلفزية للانتاج، كنت لا اعرف عميقا الا مجموعة اقلّ عددا من اصابع اليد الواحدة …المدير انذاك المرحوم قاسم المسدّي والزميل الهادي المزغنّي (ومعرفتي بهما من خلال فترة عملي بالمؤسسة الام حيث كان يشتغلان هما ايضا بالمركزية ثم انتقلا لاذاعة صفاقس) ..وايضا مختار اللواتي الذي كان زميل دراستي الثانوية بالحيّ (معهد 15 نوفمبر حاليا)… البقية اعرف منهم سماعا اذاعيا لا غير وحتى السماع كان عرضيا ايضا … المرجوم قاسم المسدّي كان سعيدا بدخولي لاذاعة صفاقس وهذا طبيعي جدا ..ليس فقط لان كلينا يعرف الآخر جيدا… بل لأن ولادة مشروع النواة التفزية في عهده كمسؤول اوّل عن اذاعة صفاقس سينضاف لتاريخه المهني … وللامانة ..الجلسة معه لم تطل كثيرا فقد خصًني بثقة عمياء وقال لي بالحرف الواحد: اعرفك قادرا على تحقيق كل ما نصبو اليه معا ..اخدم على روحك ومن جهتي ساوفّر لك كلّ الامكانيات …
ولو تدرون ماهي الامكانيات المُتحدّث عنها ..كاميرا فيلم من تونس جلبها معه واحد من افضل المصورين التلفزيين في المؤسسة وهو ابن حومتي وابن دفعتي واطيب خلق الله (الهادي ملّاك) و”ناغرا” آلة تسجيل الصوت كُلّف بها واحد من امهر تقنيي الصوت في صفاقس الزميل الهادي العكروت .. وطاولة مونتاج فيلم وهي طاولتي التي عملت عليها دائما في قسم المونتاج ..طبعا وسيارة ادارية متى احتجنا للتصوير ..وفقط … شفتو الامكانيات الهائلة …؟؟؟… كنت واعيا جدا بضحالة تلك الامكانيات ولكن اصراري على نحت العمل باظافري كان ايضا كبيرا …
ارتايت في اوّل حلقة من الانتاج بعد ان وقع الاتفاق على ان تكون شهرية (وهذا يعني عمل يومي لا يقل عن 12 ساعة حتىّ نفي بوعدنا الشهري) ..ارتأيت ان اجلس لبعض المثقفين المنتمين لاذاعة صفاقس لاستقراء اوّلي لافكارهم والتي يجب ان تخرج من التصوّر السمعي البحت الى السمعي بصري …واخترت من ضمنهم الزميل محمد الحبيب السلامي ليُعدّ لي تصوّرا نقديا لسلوكياتنا وهو المعروف بذلك الاسلوب …ثم تحادثت مع الزميل عبد الله الوافي حتى يُعدّ لي عملا تمثيليا قصيرا بالاشتراك مع الزميل منصف الوكيل ..في الجانب الغنائي ارتايت ان اصور اغنية من اغاني اذاعة صفاقس تحمل عنوان (يا نسمة جاري) وهي تعدد مزايا الجار .. لكن من جانبي اردتها سخرية سوداء حول سلوكيات بعضنا البعض في الجيرة …
في الحلقة الاولى من انتاج النواة كذلك لم احصر الانتاج في مدينة صفاقس… كنت افكّر في برمجة موضوع واحد على الاقلّ من احدى ولايات الجنوب …لذلك وقع اختياري على الطريقة التقليدية في عصر الزيتون بمطماطة حيث الحمار يدور ليلا نهارا يجرّ (الرحى وسط المدار)… ولمن لا يعرف الرحى هي عجلة حجرية تزن اطنانا… ولمن لا يعرف المدار هو حوض يوضع فيه الزيتون وتنهال عليه الرحى وهي تدور وقائد رحلتها حمارنا المسكين المُعذّب باشغال شاقة لمدة ساعات، وهو يدور حول الحوض في علاقة غرامية مدمّرة مع الرحى …. قمت باعداد المخطط التقني لتصوير هذه المواد حسب دليل برنامج واضح ودقيق المعالم من حيث الشكل والمحتوى، وكانت رحلة مطماطة آخر محطة في دليل العمل ذلك الاسبوع ..
قبل السفر بيوم جاءني احدهم بكل لطف الدنيا ورجاني ان يكون في الرحلة رغم انه لا ينتمي لفريق التصوير او الاعداد …اجبته دون ايّ تردّد وهل مثلك من يُردّ له طلب …دعوني اعود في فلاش باك اسبوعين الى الوراء منذ انتمائي لاذاعة صفاقس رسميا بمشروع نواة الانتاج التفزي … ثاني مكتب دخلت له في اوّل يوم لوجودي بصفاقس بعد مكتب المدير، كان مكتب الزميل الهادي المزغني … علاوة على انه زميل لي في مؤسسة التلفزة كمنتج ومنسق برامج، فقد كان اوّل من شجّعني … وقتها كنت قمت بمونتاج فيلم قصير حول حديقة الحيوانات بالبلفيدير على طريقتي ..دعوته للمشاهدة فاعجبه وبرمجه في برنامجه الاسبوعي التلفزي (من هنا وهناك)… اذن واعترافا بالجميل في زمن كنّا نعترف فيه بالجميل، كان ثاني مكتب ادخله هو مكتبه ..فتحت الباب وفوجيء بي اُطلّ عليه من نصف فتحته ..اهلا اش تعمل هوني يا طفل ..؟؟؟ ضحكت وسلّمت عليه ثم سلّمت على سيّدة كانت جالسة في مكتبه قائلا: اهلا ابتسام ..؟؟ وبابتسامتها المعهودة الملفوفة بشيء من التعجّب والسعادة ..قالت مرحبا ..تعرفني ..؟؟ اجبت اعرفك منذ كنت تلميذة تكتبين القصص والشعر وتقرئينها علينا نحن عشّاقك كتلاميذ مراهقين نتلهّف لا فقط اسماعك بل لرؤيتك …
ازاددت تعجبا وايضا سعادة وهي تسمع كلمة وقحة من نوع (عشّاقك)… ابتسام في آخر مراحل دراستنا الثانوية كانت شعلة من النشاط والحيوية وكنا اذا تناهى الى مسامعنا انه سيكون لها نشاط بالاتحاد الثقافي بصفاقس (مندوبية الثقافة الان) نتسارع صدقا للحضور ..كيف لا وفتاة من معهد الفتيات بباب البحر هي نوارة تلك العشوية …وهي فعلا انذاك كانت محط انظار المعجبين من تلاميذ الاقسام النهائية كلّ يطمع في ابتسامة من ابتسام ..بل ويلهث من اجل ذلك ..انا صدقا لم اتجرّأ يوما على ان اكون من ذلك الفيلق فحتّى ثيابي التي على قدّها (اشي ترقيع واشي تكميش واشي ازرق على اسود) لم تكن لتضعني في مرتبة القافزين والطامعين … يومها كان اوّل حوار مع زميلتي ابتسام المكوّر انذاك … و”الغطاسي” ايام التعليم الثانوي…
ولأن ذاكرتي البصرية على درجة قصوى من الحدّة تذكرتها وهي بمكتب الزميل الهادي المزغني ودون عناء ..وكان ردّ فعلها ايجابيا للغاية بعد ان قدّمني لها الزميل المزغنّي الى درجة انّها عرضت عليّ استضافتي في برنامجها (العاب وانغام مع ابتسام) في حلقته المقبلة …حذّرها سي الهادي بقوله اخطاك راهو “وحيّد” … فكان ان ردّت عليه: وانا اخترتو على خاطرو يظهر وحيّد … ابتسام و لي معها الف حكاية وحكاية في الاوراق القادمة كانت اوّل زميلة عرفتها وافضلهنّ …
قبل الخروج من مكتب سي الهادي سالته عن قريبة مازالت في خطواتها الاولى بالاذاعة… انّها زكيّة بن عياد وهي زوجة ابن خالي والذي بدوره يشتغل تقنيّ صوت ومنذ اليوم الاول من افتتاح الاذاعة قادما من الاذاعة الامّ … زكية وهذا يعرفه الجميع احبّها عشرات المرات اكثر من ابن خالي رحمه الله… هي الطيبة… دماثة الاخلاق… الروح المرحة… وخاصة بنت باب الله… ماذا تريدون عنها اكثر من هذا ؟؟… سالت عن مكتبها فعرفت انها تعمل بمكتب المنتجة الزميلة السيدة القايد… طرقت الباب فجاءني صوتها: (تفضّل) ..فتحت الباب فاذا بها كعادتها …ضحكة السعادة والفرح الغامر من اعماق الحُشاشة …ولكنّها فوجئت ببرودتي وانا انظر الى ذلك الكائن البشري المنغمس في كراسته والتائه في ملكوت الله… ولأنها زكيّة، انهالت عليّ كعادتها وباسلوبها الذي لا زيف فيه متوعدة ثائرة: “تي اشبيك يا عزاء متلّه يعطيك بلحاط (هذه دعوتها التي اصبحنا نتبادلها كلما غبنا عن بعضنا البعض، من جانبي او من جانبها) ..يعطيك بلحاط قداش توحشتك” …ولأنها تضرب في الاعماق بجمالها الفريد وبعمق صدقها لم ابحث يوما عن معنى (بلحاط) … قبلت بها كما هي لأن هناك تفسيرات لبعض الكلمات او التعابير تفسد رونقها …
افقت بعجالة من غيبوبتي وقلت لها هامسا: يا سخطة تي هذا موش ..؟؟؟ لم اكمل تساؤلي حتى قالت: ايه هاكة هو ..؟؟ نظرت اليه… النافع ربّي، ما عبرنيش اصلا، ما فاقش بيّ اللي انا دخلت… مددت له يدي وسلّمت عليه (عالسلامة سي محمد)… ردّ عليّ السلام بنغمة جدّ حنونة: يسلمّك ولدي… وعاد الى عالمه (كراسة وستيلو بيك)… ارادت زكية استدراجه للكلام فقالت له: تي هاكة ولد عمّة عبدالقادر (تعني زوجها)… لم يرفع راسه ولكنه همهم بصوت مسموع: نتشرفو، اما موش بهاكة الراجل المهباط اللي عندك… اقتربت منه وقالت: يا سي محمد الشيء بعيد على بعضو… هاذا قماش آخر وهابط من فرانسا… ولم تُكمل جملتها حتى نهض سي محمد من كرسيه ومدّ يده بحرارة لي وقال: مادام جاي من فرانسا الشيء يولّي شيء آخر …ايّا ايجا نشرّبك قهوة …كنت في قمّة السعادة ..رجل اسمع عنه الكثير، اقرأ عنه القليل في تونس (كيف العادة يحبّونا برشة) ولكن الاهمّ انّي احسّ به وبجماله…
انه الجمّوسي وما ادراك…
خلتني يومها طائرا يحلّق وهو في طريقه الى مقهى الاذاعة باب البحر انذاك، مع علم من اعلام تونس شعرا فنا ادبا وانسانا … كانت قهوة واحدة لتجعل منّا متلازمين كلّما سمحت لي اوقاتي المهنية بذلك… كنّا نشترك في حبّنا المهبول لفرنسا… وفرنسا ان لم تعلّمك اشياء تعلّمك فن الحبّ المهبول وماهي بعض التربّصات القليلة في ذلك الميدان حتى تصبح لديك قناعة بان العشق مهبول او لا يكون… تصوروا بالله معي: يأتي الواحد منّا ليُعبّر عن عشقه لشخص ما، لقصيدة ما، لشاعر ما، لاغنية ما، ويقول بكل برودة اعصاب: باهية يعطيه الصحّة مولاها …توة هذا عشق ..؟؟ انا اجزم انّ التعبير عن عشقك لأي شيء لأي شخص لأي شاعر لأي موسيقي ..لأي ..لأي ..لأي …عليه ان يكون من نوع (يلعن جد والدين بوك العاشر محلاك) وهذه في قاموسي لا تدخل ضمن خانة السبّ ولا تحت طائلة القانون ..وحتى ان دخلت يوما تحت طائلة القانون وحكم عليّ القاضي بالجزاء الذي يراه مناسبا لقوانيننا المعلّبة فاني ساقول له شكرا سيدي القاضي لانك اثبتّ ان الحمار يستحيل ان يلد انسانا ولكن بمقدور الانسان ان يلد حمارا مثلك ..
براف …تتذكّرون ذلك السيّد الذي رجاني بكل لطف ان يرافقني الى مطماطة في رحلتي المهنية لتصوير اسلوب عصر الزيتون التقليدي …؟؟؟ انه هو ..الفنان الانسان محمد الجموسي … وكان لنا ذلك، بعد اعلام المدير طبعا …كانت رحلة لا تُنسى لاّنه يومها اكتشفت جانبا آخر لا اعرفه في الجموسي: النكت “الخضراء” كما يقال عنها اي تلك التي (زايدة حبتين) وليتها كانت ثلاث في الجرأة وفي المسكوت عنه…ت صوّروا فقط ان سائق السيارة الاذاعية زميلي حبيب بيوض اطال الله عمره اوقف السيارة بجانب الطريق لانه اصبح عاجزا عن السياقة من فرط الضحك… صدقا والله هذا ما حدث…
اتممت عمليات التصوير… ارسلت الاشرطة الى المخبر المركزي بتونس العاصمة… قمت بعملية المونتاج وبمعدل 10 ساعات يوميا وشددت الرحال لتونس العاصمة لعملية الميكساج، ثم لعرض العمل على المسؤولين عن المتابعة… كان الموقف الجماعي يمكن تلخيصه في: برافو عبدالكريم …عدت الى صفاقس وانتظرنا ساعة بثّه في اليوم المقرّر لذلك… واسمع يللي ما تسمعش… البعض ينتظر بشوق وتوق ..آخرون وهم موجودون في كل زمان وكان: ايا توة نشوفو هاللي يقولولو سي عبدالكريم اش ماشي يعمل …وصنف حاقد خُلق ليكون حاقدا وبشكل مجاني…
اقول هذا لانّ الحكاية (حكاية وجودي الفعلي في اذاعة صفاقس من طقطق لسلامو عليكو) اخذت زمنيا شهرا واحدا فقط… وحتى اختلاطي بزملائي لم يكن كافيا بتاتا حتى لنتعرّف على بعضنا البعض كما ينبغي …فقط مع تقدّم العمر وبعد العديد من الهزّات، ايقنت انّ جينات قابيل ستوجد في البشر حتّى البعث … …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 9 ساعات
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 9 ساعات
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 19 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يوم واحد
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟