تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 71

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

مع انتهاء شهر ماي 83 بدأت افكّر بجدّية في انهاء عملي بكلّية الاقتصاد والتصرّف بصفاقس… اصبحت عندي قناعة راسخة بأني لا اصلح لتلك النوعية من المهام لا شكلا ولا محتوى… فلا العميد مرتاح لوجودي ضمن اطارات الكلّية، ولا انا (جايني على المضّاغة) اذ أنّنا نختلف جذريّا في كلّ شيء وهو ما سبّب احراجا لصديقي الكاتب العام للكلّية (التوفيق المكوّر)… امّا عن محتوى عملي فهو اداري بحت اي (الروتين يمشي موش على ساقيه بل على ركايبو) وهذا ايضا يتنافى مع طبيعة تركيبتي… ثمّ ممّا زاد في اسراعي بمغادرة الكلّية قرار اعادتي للمصدح… فكيف لعاشق ان يمزج كأس عشقه المجنون المُعتّق، بماء السبّالة …؟؟؟

عبد الكريم قطاطة

ذات صباح صعدت الى مكتب الكاتب العام للكلّية وقدّمت له ورقة كتبت عليها استقالتي ..كانت لا تتجاوز الاربعة اسطر عبّرت فيها عن شكري للزملاء في الكلية وعن استحالة مواصلتي العمل لاسباب شخصية… اتذكّر جيّدا انّي لم اذكر او اشكر العميد في تلك الاستقالة اي كتبت له ضمنيّا انّك لا تعنيني ولم تعنني يوما… صديقي التوفيق قرأ الاستقالة واحمرّ وجهه… لم اتركه ينبس لا ببنت شفة ولا ببنت اختها… سارعت بالقول: الاستقالة هي الحلّ الافضل للجميع لي لك وللعميد انذاك فقط لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي… كان يعرف ما اقول بل كان يدرك انّي على صواب… ولأنه كذلك ولأني كذلك، تعمّقت صداقتنا اكثر بل وحتّى في عديد المشاكسات ولغونا انا وزوجته زميلتي ابتسام كان دائم الوقوف الى جانبي… هو انسان رائع بكلّ المقاييس… وهنا لابدّ من ان اقول كم انا (خايب) في المدّة الاخيرة ونظرا إلى كثرة مشاغلي حيث ابتعدت عنه وعن اجوائه … صدقا مااخيبك يا ولد عيادة ..

مع نهاية شهر ماي اتّصلت بي كاتبة مدير اذاعة صفاقس لتقول لي سي التيجاني طالبك… وجاء صوته هادئا اهلا سي عبدالكريم… ايّا وقتاش تطلّ عليّ ؟؟؟… تواعدنا على لقاء في الغد… كانت الساعة تشير الى الثالثة و5 دق عندما ولجت مكتبه… كان كعادته في كل مرّة دخلت فيها مكتبه بعدها، جالسا على كرسيّه الفاخر… قلّ ان نهض من على مقعده ليستقبل ابناء الدار … انا لم آخذها مطلقا من زاوية المسؤول الذي ولتثبيت صورته كسلطان ذي وقار وعلى الضيوف ان يقفوا امامه وهو على كرسيّ عرشه دون ان يتزحزح… بل وربّما لشقاوتي كنت ارى في تصرّفه ذاك تغطية على قصر قامته حيث يصبح اشبه بـ(كعبة زلّوز بوقلبين) عندما يقف فلا هو منتصب القامة ولا هو مرفوع الهامة… قلتلكم ولد عيادة خايب… و على فكرة تقولشي عليّ انا طولي نعناعي !…

في لقائنا ذلك اليوم “ما نغنغش”… لم يعد مطلقا لتلك الرسالة التي اغضبته وهو ما جعلني ارى فيه نوعا من الابتعاد عن الترهات او ضربا من الحكمة والرصانة… رحّب بكلّ وقار وثقة وقال: انت مستعدّ للعودة الى المصدح؟… قلت تمام الاستعداد ..قال اسمعني جيدا وخاصّة افهمني جيّدا… ستعود بداية من الاثنين 13 جوان… ستعود للكوكتيل ولكن وفي مرحلة اولى سيكون الامر بالتداول مع زميلتك ابتسام وبشكل مسجّل لا على الهواء… لم يقلقني صدقا التداول مع ابتسام ولكن كانت صدمتي واضحة عليّ وهو يتحدّث عن تحويل البرنامج من مباشر الى مسجّل… وكان شديد الانتباه لصدمتي حيث قرأ نوعية ابتسامتي الحزينة من جهة وصمتي العميق وعيناي تتشبثان بارضية المكتب… بادرني دون انتظار بالقول: انا قتلك اسمعني وافهمني واعطيني ثيقتك وتوة تشوف … احسست بصدقه واحسست بعد فترة لم تطل انه كان حكيما …

ذات يوم وبعد سنوات صارحني بأن الحاشية كانت شديدة في حرصها على عدم اعادتي للمصدح، وانّه كان عليه ان يتفادى في بداياته الصدام مع تلك الحاشية… فاختار الحلّ الانسب ظرفيّا: تسجيل البرنامج لمدّة… انذاك يمكن لنا ان نحذف كلّ ما يمكن ان يُقال ويتعارض مع ما يجب ان يُقال… قال لي: (لم اكن اعرفك كثيرا قبل مجيئي كمدير للاذاعة… كنت اسمع عنك الكثير … بباهيك وخايبك… ولكن كان هنالك احساس في داخلي يقول انّك ضحية لدسيسة … وكان عليّ ان اكون إلى جانبك خاصة والسلط العليا قررت اعادتك، وقلت ساغامر .. امّا ان نربح الرهان معا او ان نخسره معا) …لم يمهلني في ذلك اللقاء كثيرا وختم بالقول: (اقبل الامر كما هو ستعرفني اكثر) …

للامانة كنت حزينا جدا وفي نفس الوقت سعيدا جدا… حزين لأني لم اتصوّر يوما ان اقدّم برنامجا محنّطا ودون حضور المستمع صوتا… وسعيد لأنه وفي كل الحالات عودتي تعني ضربة موجعة جدا لخصومي… كان يوم 12 جوان 83 موعدا لن انساه… موعد تسجيل البرنامج… دخلت الاستوديو ووجدت امامي زميلي الفني وصديقي جميل عزالدين رحمه الله في انتظاري… كان في قمّة السعادة… عودة عبدالكريم بالنسبة له كزميل وكأخ فرحة لا تُقاس بسلّم ريشتر… وانطلق اللحن المميز للكوكتيل وموسيقاه “بول ستار” التي اقدّم عليها التحيّة الاولى والتي لازمتني في كلّ برامجي لحدّ يوم الناس هذا .. انّها واحدة من بصماتي ومن لا بصمة له لا وجود له اذاعيا …

كان عليّ ان اكون اذكى من الرقابة في كلّ كلمة اقولها… وهاكم نصّ تحيّة العودة (كلماتي كانت مصحوبة بمؤثرات صوتية فيها اصوات امواج البحر): {{{ سيداتي آنساتي سادتي اسعد الله صباحكم واهلا وسهلا ومرحبا … لعلّّكم تستمعون الى ما يصاحبنا من ايقاعات تغرّدها سمفونيّة البحر … البحر هذه اللوحة الرائعة التي تتحدّى كل اللوحات … البحر هذه الجوكندا الازليّة التي لا تتجاوز في جمالها ليونار ديفنتشي وجوكندته فحسب بل تتجاوز كل الرسامين مجتمعين … البحر هذه الجوكوندا التي نلجأ اليها في فرحنا وترحنا … في همّنا وغمّنا … في املنا ويأسنا … نضمّه نعانقه .. نرحل معه ويرحل بنا .. نقبّله ويلثمنا …نراقصه ويناجينا … البحر هذه الجوكندة التي يرى فيها البعض الهدير ويرى الآخر فيها الوشوشة … هي ثورة في اعين البعض وهي همسة في اعين اخرى … هي ازيز وهيجان وصخب من منظار … وهي نوتات موسيقيّة ناعمة ورقصة “سلو” غجرية من منظار آخر… هي .. وهي .. وهي ..

قد يتجنّى القلم فلا يفي بوعوده كي يكتب بغزارة وطلاقة عنها ولكن الا يمكن ان نقول ببساطة عن هذا… الجوكندة انّها الحياة ؟؟؟ … الحياة بجواهرها واصدافها .. الحياة بطموحاتنا وخيباتنا … الحياة بحالكها ومشرقها … الحياة بخلودها وفنائها .. الحياة بكلّ متناقضاتها التي لا مفرّ لنا من عيشها ومعايشتها … واليوم ونحن نفتح صفحة جديدة من كتاب اذاعي مشترك يحمل كهويّة “كوكتيل من البريد الى الاثير”… لا يسعنا الا ان نؤمن منذ خطّ الانطلاق بأنه برنامج اذاعي زرع في عروقه السيد التيجاني مقني مدير اذاعة صفاقس مشكورا نبض الحياة… وعلينا جميعا ان نرعى نبتته بعطائنا المشترك…علينا ان نزوّد هذه النبتة بفيض الفكر وبمداد القلم وخاصّة بروح مؤمنة بأن لا اذاعة دون مستمع… وبأن لا منتج او منشّط اذاعي مهما كان اختصاصه يعمل في برجه العاجي دون الالتفات يمنة ويسرة الى محيطه .. الى الآذان التي تتلقفه .. الى المستمع كمنتج ومستهلك .. وربّما وهو الاهمّ ان يعمل دون ان ينفصل عن انسانيّته كانسان والانسان يعني الطموح للمساهمة في خلق غد افضل …

…هنا فقط يُهيّأ اليّ انّنا نعطي معنى لكينونتنا وصيرورتنا … الغوص في جوكندة الحياة يعني سفينة وشراعا وملاّحين … كوكتيل من البريد الى الاثير هي السفينة التي اقترحها عليكم … شراعنا في هذه السفرة هو الايمان بانتاج مسؤول … والملاّحون هم انتم …فهل نبدأ الرحلة معا ..؟؟؟ ادعوكم بكل شوق وحب الى شدّ المجاذيف لنركب البحر معا … لنعانق البحر معا .. لنرسم على شاشته الوان حياتنا ولنكتشف اخيرا انّ بحرنا هو الجوكوندة التي لا تعادلها جوكوندة … }}}

ينتهي النص وتليه اغنية مسلسل وقال البحر من كلماتها التي تقول (اه من هدير البحر لمّا يثور )… دعوني اقل لكم انّي حاولت في الورقة ان التزم بثلاثة عناصر هامة … اوّلها تثبيت المستمع كطرف فاعل في البرنامج الاذاعي من جهة، وتحيّة شكر ضمنية له على وقفته الحازمة عند تعرّض البرنامج للايقاف …ثاني العناصر ان اراوح بين روح الالتزام بالمسؤولية كمنتم لمؤسسة، لكن دون التخلّي عن ثوابتي وقناعاتي… ثالثها طابعي الاستفزازي لخصومي …كنت اقول لهم دون ان اقول (اضربولي عالطيارة)… كنت متاكدا جدا انّ جلّهم سيركزون في جوسستهم في الحلقة الاولى على الاغنية التي ختمت بها النصّ… وكان حدسي في محلّه اذ أنّه وبعد اوّل لقاء مع السيد التيجاني مقني قال لي مبتسما …الغناية متاع هاكة المسلسل اش اسمو هو ؟؟ قلت له مبتسما وقال البحر ..ايه هاكة هو يا سي عبدالكريم الاغنية متاعو ما عجبتش برشة جماعة… قلت بكل براءة خبيثة ..انت سمعتها ؟؟؟ قال لي لا ..اما عندي ثيقة فيك ..ربي يعينك …

وقتها بدأت اتلمّس نوعيّة ملاحظاته عرفت انه كان يريدني فقط ان اعرف انّ الحاشية ما زالت تشتغل ليلا نهارا وانه (باعثها) وهذا ما معنى عندي ثيقة فيك …دعوني في الختام احكي لكم ما حدث مباشرة بعد اتمام قراءتي للمقدمة واطلاق سراح الاغنية… انا كعادتي التزم جدا بدليل برنامجي بشكل مفصّل ومقنّن فالاغنية عندي لم تنفصل يوما عن وجودها كعنصر فاعل في البرنامج الاذاعي… البرنامج الاذاعي عندي لوحة سمفونية من جملة نوتاتها الاغنية… لذلك وهذا يعرفه جميع الفنيين وكلّ من تدرب عندي التزم والزم الاخرين ليس فقط بعنوان الاغنية بل بمدتها بالثواني لا بالدقائق وبالمقطع الفلاني الذي يجب ان يكون… الان هناك منشطون يدخلون الى برامجهم ويطلبون من الفنيين ان يبثوا لهم ما يعنّ لهم من اغان (تي حُط اللي يعجبك المهم نعملو جوّ)… نعم … هكذا البرنامج الاذاعي طاح قدرو لهذي الدرجة … توة هاذوما يستحقو يكونو قدام مصدح ؟؟؟ تي اصلا هذا هو اعلام العار الحقيقي …

اذن رغم انّ دليل برنامجي واضح من الفه الى يائه واُمكّن الفنّي من نسخة منه حتى يقوم بالتنفيذ، فاني احرص دوما على تلك الطلّة على الفني امام كونسولاته … لأبدي بعض الملاحظات او الرغبات وفي جلّ الاحيان لتبادل بعض الكلمات البريئة جدا … (اكيد عرفتوهم ؟؟ والله كنّا عالم صايع بشكل!)… يومها خرجت الى غرفة الفني المرحوم جميل عزالدين ففوجئت به يرتعش مصفرّ الوجه …سالته بخوف وانزعاج: اشبيك جميل لاباس؟؟؟ نظر اليّ والدموع في عينيه وقال: اشبيني ..؟؟؟ ما تعرفش اشبيني ؟؟؟ يخلي كذا من كذا … انا نرعش وخايف عليك وانت موش هنا .. من انا طين تخلقت انتي …؟؟ عانقته طويلا وقلت له: من طين تييييييييييييييت …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التقصي عن أمراض السكري وضغط الدم… وليس عن أعوان التلفزة!

نشرت

في

محمد الزمزاري:

انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.

الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.

طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.

وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.

أكمل القراءة

صن نار