كلّ نار
المشيشي يكتفي بالفُتات … و يختار غلق الملفات بالمسكّنات …
نشرت
قبل 4 سنواتفي
من قبل
محمد الأطرش Mohamed Alatrashهل تورّط المشيشي في ما صرّح به بعد الإعلان عن حزمة القرارات المتعلقة بأزمة “الكامور” بتطاوين؟؟ هل أصبح سجينا لخطإ اتصالي فظيع قد يكون سببا في خروجه من الباب الخلفي لقصر الحكومة في قادم الأشهر؟؟ المشيشي أخطأ أو أجبره من هم حوله على الخطإ حين أعلن أن الحكومة ستعتمد نفس التمشّي مع كل ولايات الجمهورية، و أخطأ أكثر حين ذكر بعض الولايات و لم يذكر البعض الآخر …
المشيشي سقط في نفس الفخّ الذي سقطت فيه بعض القوى السياسية والأحزاب المعارضة لسياسات بن علي مباشرة بعد 14 جانفي، فهذه الأخيرة خرجت و أغرقت وسائل الإعلام بقراءات وتحاليل كاذبة عما وقع في البلاد، لإيهام الشعب بأنها وراء تلك الأحداث، و أنها الحاضنة الشرعية لها، و الحال أنهم فوجئوا بكل ما وقع منذ السابع عشر من ديسمبر، و لم يتكهنوا أبدا بما آلت إليه الأمور، و لم يكونوا يوما ليحلموا بها، فجميعهم أحزابا و منظمات وعلى رأسهم اتحاد الشغل هرولوا قبل خروج بن علي بيومين إلى الجلوس معه بحثا عن حلّ للأزمة و تهدئة للأوضاع…
فالمشيشي لم يكن أبدا وراء اتفاقيات “الكامور” و لم يكن في حكومة الشاهد التي أعلنت عن تلك الاتفاقيات، و أمضت عليها مع بقية الأطراف لكنه أراد أن يستحوذ على ثمارها، من خلال تنفيذ الجزء الأكبر منها ليستثمرها في قادم الأيام … فالمشيشي أدرك أن مجرّد تنفيذ ما فشل في تنفيذه الشاهد و من سبقه سيحسب له و لحكومته، رغم أنه يدرك جيدا أن حكومته لن تكون قادرة على تنفيذ كل النقاط المتفق عليها في الاتفاقية الممضاة بين الطرفين…
أدرك المشيشي منذ جلوسه على كرسي القصبة أن البلاد مقدمة على مرحلة حرجة اجتماعيا بسبب الأزمة الاقتصادية و تبعات وباء الكوفيد 19، كما أدرك أن أي توسّع لرقعة التحركات الاجتماعية سيكون خطيرا على استقرار البلاد، و قد يعصف بحكومته لو أخفق في كبح جماح بؤر التوتّر الاجتماعي و إطفاء الحرائق التي تندلع هنا و هناك… فهو قرأ درس “الكامور” جيدا و تأكد أن التمادي في استعمال الحرية قد ينقلب إلى فوضى يصعب التحكّم فيها …و درءا للوصول إلى ما لا تحمد عقباه، أقدم المشيشي على ما صرّح به و ورّط نفسه في استنساخ التمشّي الذي اعتمده بــ”الكامور” على كل الملفات العالقة ببقية الولايات… و بدأ في البحث عن المسكّنات و المهدئات حسب طبيعة كل ملف من الملفّات…
يدخل ملف فتح معبري رأس جدير و ذهيبة ضمن استراتيجية المشيشي لإطفاء الحرائق و توزيع المسكنات و المهدئات، فالإبقاء على هذه المعابر مغلقة، سيكون سببا في اندلاع أكبر حريق اجتماعي قد تعجز الحكومة عن إطفائه، و هو الذي يوفر أكثر من نصف موارد الشغل بولايتي تطاوين و مدنين … و المشيشي لم يكن ملزما بحضور فتح المعبر لكنه فعل ذلك في إطار حركة اتصالية يريد استثمارها لاحقا … ففتح معبري ذهيبة و رأس جدير سيُلْهي أهالي هذه المناطق الحدودية لمدّة قد تتجاوز فترة العواصف الاجتماعية المنتظرة لشهري ديسمبر و جانفي، و قد يساهم فتح معبر ذهيبة في التخفيض من حدّة توتر مخلفات ملف “الكامور” الذي لن يغلق بمجرّد تنفيذ بعض بنوده …
و قد يصبح ملفا عنقودي التبعات و الإسقاطات و قد يعود “أهالينا” كما يفاخر بتسميتهم المشيشي إلى غلق الفانة من جديد لو تعمّد المشيشي عدم تنفيذ كل بنود الاتفاق … و قد ينتقل المشيشي في قادم الأيام إلى ولاية أخرى محمّلا ببعض المسكنات و المهدئات و قد تكون ولاية القيروان الأقرب لغلق بعض الملفّات العالقة، فسياسة الاستثمار في الملفات العالقة و التي لم تنجح الحكومات السابقة في غلقها أسالت لعاب المشيشي وحكومته، و قد تكفي لتكون برنامج هذه الحكومة لسنة 2021، فالمشيشي سيكسب كثيرا من سياسة جني ثمار الملفات العالقة بكل ولاية …
فهذه الملفات هي في الأصل قرارات مجالس وزارية لكل الولايات أشرفت عليها الحكومات السابقة، و قد ينجح المشيشي في إطفاء العديد من الحرائق التي لو اندلعت في توقيت واحد لشكّلت خطرا على حكومته في قادم الأشهر، فالحكومة لن تكون مطالبة بفتح ملفات جديدة بل سيصبح هدفها المعلن و غير المعلن غلق كل الملفات العالقة و بعض هذه الملفات يعود تاريخه إلى آخر مجلس وزاري أشرف عليه الرئيس بن علي رحمه الله …
اختار المشيشي هذه الاستراتيجية بالصدفة، فهو لم يكن ينوي فعل ذلك و الاعتماد على هذا التمشّي، لكن نجاحه المزعوم و النسبي في “الكامور” و بعض من هم حوله خارج مبنى القصبة أوعزوا إليه بأن يستثمر في أخطاء من سبقه … و يأتي اختيار هذا التمشّي بعد أن تأكد ساكن القصبة أنه لن يكون في مأمن من نيران الأحزاب و مجلس باردو إن عوّل على برنامج جديد لحكومته قد تكون أغلب نقاطه غلق الملفات العالقة…
فالاكتفاء باستراتيجية غلق الملفات سيكفيه شرّ كل التحرّكات لمدّة لا تقلّ عن ستة أشهر و سيعبر مرحلة القلاقل و الهزّات الارتدادية الاجتماعية وسيشمل كل الولايات، فهو لن ينتظر دعما من الأحزاب التي بدأت منذ أسبوعين في المطالبة بفتح ملف التعيينات و اقتسام الكعكة، و قد يكون بعضها وراء تأجيج نار التحركات الاجتماعية الاحتجاجية…و اختيار المشيشي لتمشّي غلق الملفات العالقة في جميع الولايات و بؤر التوتّر الاجتماعي قد يقطع الطريق أمام هذه الأحزاب، و يكون سببا في الإيقاع بينها و بين قواعدها، و قد يكفيه شرّها تحت قبّة المجلس لأشهر أو أكثر…
خلاصة القول…المشيشي أدرك أن الكذب خارج “الشهر الحرام للكذب” و أقصد أفريل غير مباح و قد يكلّفه غاليا في مرحلة كالتي تمرّ بها البلاد و بقية بلدان العالم …كما أدرك أنه لا يمكن أن يعمل بما قاله وزير الدعاية الألماني في عهد أدولف هتلر “اكذب حتى يصدقك الناس”…و قرر فقط الاكتفاء بإنجاز ما تخلّد بوعود الحكومات السابقة ليكسب مساحة زمنية قد تصل به إلى الصائفة القادمة …ولسان حاله يقول….غلق الملفات…يُغلق الأفواه…حتى إشعار آخر…
تصفح أيضا
“إنه ليوم صيفي، فما أجمل الشمس تنير الدنيا وتدفئ الأركان الباردة وتحيي العظام وهي رميم … لقد اغتنمنا الفرصة هذا الصباح فأخرجنا المفارش حتّام تتخلص من رطوبة الشتاء” …
ومضى صاحبي صلاّح باراشوك السيارة إلى داخل ورشته، ومضيت أسأل نفسي عن الشتاء والصيف وأيّ صيف؟ نحن في بداية شهر فيفري والمفترض أنها سحب ورعود وتهاطلات وإنذارات حرس وطني وحماية مدنية وقبلهما مصلحة الأرصاد … لا … لم يقع شيء من هذا، عدا مطرتين متوسطتين وبعض ثلوج بعين دراهم وتالة وهضابنا الغربية … ورافقت ذلك رحلات سياحية لأبناء المدن وصور سعيدة على فايسبوك … انتهى التصوير بانحسار السماء عن طقم نضيد من الزرقة القاتلة … فلا غيوم، ولا عواصف، ولا ثلج ولا مطر بعد هذا …
أيّ كرب نعيش يا ربّاه …
حتى السدود فرحت أياما قليلة وبدأت في ردم جفافها المنذر، غير أن الأمتار المكعبة الأولى بقيت هناك تنتظر المزيد ولا مزيد … وعاد خوف العطش إلى القلوب، وهل هناك شرّ من العطش؟ شعوب بكاملها هُجّرت أو اندثرت عبر التاريخ جرّاء هذا التهديد أكثر مما فعلته الحروب … عمائر خضراء مترامية راحت نضارتها إلى الأبد وتحوّلت إلى صحارى … ونحن من هاتين الفئتين تحديدا، مصنّفون ضمن أكثر الشعوب هشاشة مائية وتعرّضا لهذا الموت الذي لا حياة بعده … فحتى هجرة القرون الخوالي لم تعد ممكنة، بعد أن أقيمت دول ورُسّمت حدود و أُشهِرت تأشيرات دخول …
قبل بلوى العطش، ابتلانا الدهر بطوائف سياسية مجرمة تستوي عندها الدولة والفريسة، الوطن ودار الجيران، الرأس وحائط مبنى بعيد … ارتقت ظهورنا كالدواب طوال 12 سنة ففعلت كالذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى … على طول تلك المدة، شهدنا أعواما سِمانًا ومواسم خير ومطر عميم … منذ 2011 والسماء كريمة معنا كرم شعبنا وأريافنا ومدننا الداخلية وعواصم جنوبنا وشمالنا … لكن طبقة قطران السياسة وزفتها أهدرت جود السماء كما أهدرت عطاء الأرض وسكّانها …
بالعكس … فقد حوّلت عطاء ملايين الأصوات التي رفعتها عاليا، صيّرت ذلك خنجرا في الصدور و ذريعة لسرقة رزقنا وتقاسم أسلابنا والإفلات من محاسبتنا … تماما مثلما حرّفت مسار الماء من رواء للبشر والشجر، إلى فيضان ماحق وكوارث طبيعية ونداءات استغاثة من كل جنب … سدودنا المذكورة أعلاه بناها إما الاستعمار أو “الاستبداد” كما تشتمون في خطبكم الكثيرة، أما أنتم فلم تنجزوا ولو … طبعة جديدة من كتاب “السد” للراحل محمود المسعدي !
لو قيّض لنا أن نقيم صلاة استسقاء جديدة وسط هذا الجفاف، فلن نقول فيها سوى: اللهمّ هات سحبا سوداء و سيْلا عرِما، وابعثْه فقط حيث يسكن من خانوا تونس وأكلوا أخضرها ويابسها … اللهمّ اشوِ أكباد أمّهاتهم كما فُجِعتْ أمهات من حرقوا وغرقوا جرّاء سياسات النكبة … أما نحن، فلنمُت بعدها من الظمإ … المهمّ بعد أن نرى جثث الجناة تطفو أمامنا كأسماك نافقة لفظها البحر .
أشهد أنّا عشنا مثل هذا اليوم من 12 سنة … ليس المقصود هنا 14 جانفي الذي قيل ويقال ويمكن أن يقال عنه الكثير الكثير … لا، لسنا في معرض ذلك اليوم المثير للجدل … بل اليوم الذي يليه، أي 15 جانفي 2011.
يوم السبت 15 من الشهر الأول لسنة 2011 هو برأيي أهمّ يوم في تاريخ تونس كلها و لا مبالغة … لامبالغة ولا هزل … والأسباب متعددة أولها أنه اليوم الوحيد تقريبا في تاريخنا الطويل، الذي لم يكن يحكمنا فيه أحد، لا من داخل البلاد ولا من خارجها … ومن ينظر إلى تاريخنا منذ إنشاء الدولة التونسية في 814 ق م، يرى أنه كانت على رأسنا دائما دولة ورئيس دولة مهما كان الاسم والصفة … سواء في دولتنا القرطاجية الوطنية التي تحولت إلى امبراطورية حكمت العالم القديم طيلة 500 عام … أو تحت الاحتلال الروماني الذي جاء بعد خسارة الحرب الثالثة واستمر قرونا … عقبته مراوحات بين الحكم الوطني والتدخل الأجنبي إلى حدود الأسبوع الثاني من سنة 2011 !
إذن لم نعرف زمن “سيبة” كما عرفتها شعوب أخرة جارة و غير جارة في معظم فترات تاريخها … كما لم نعرف ـ ويا للغرابة ـ هذه السيبة حتى عند هروب رئيسنا الأسبق أبو سيرين رحمه الله ومعه كامل الطاقم الموالي الذي اختفى إما جسديا أو معنويا … كما تبدّى ذلك في لجلجة آخر “وزير أوّل” حمل عندنا هذه الصفة وهو المحترم (ولكن الضعيف) محمد الغنوشي …
إذن حدث هروب فشغور فظهور لبضعة وجوه بين عشية 14 وليلها الطويل … هرب المرحوم، وشغر كرسيه، وظهر سي محمد ووراءه ثلاثة باشوات من البرلمان والمجلس الدستوري إلخ … ولن نعود ثانية للحديث عن الربكة التي حصلت بين مادتين في دستور ذلك الوقت (57 و58 أو 56 والله نسيت) … وحصل اختصام شكلي فُضّ بسرعة حول من يمسك الدفة الآن … ولكن الجمهور كان لاهيا عن كل هذا، مخطوف الأنفاس بتعاقب الأحداث والجزيرة تقنبل علينا أخبارا ونعيا وظفرا واحدا وراء الآخر بعدد دورات شريطها المتحرك أسفل الشاشة …
مع المغرب كلمني الزميل عامر بوعزة من إذاعة المنستير على المباشر وقال لي بصفتك كذا وكذا، ما تقول في هذه الهزّات المتلاحقات؟ … أجبته في حماسة أغبياء السوق: ما حدث هو ثورة … صُدِم الرجل وهو يسمعني أكيل الشتائم يمينا وشِمالا كالمخبول فلم أترك إنسا ولا جنّا إلا حدفته بماء النار … القلب مطفطف فلا لوم … وأكيد أن الزميل (الذي عوقب) يلعنني إلى هذه الساعة وكله ندم على أنه فتح الميكروفون لأحد المختلّين عقليا …
الصحيح أننا كنّا أكثر من عشرة ملايين مختلّ … نعم … وعلى “الحكماء” الذين يشربون اليوم قهوتهم الساخنة بأعصاب باردة، أن يعيدوا في ذاكرتهم تلك اللحظات، تلك الأيام، تلك الأعوام … بعيدا عمّا فعله السرّاق الجدد من فظائع، بعيدا عن قدرنا الذي يجعلنا دوما نترحّم على السواد القديم قياسا إلى المداد الذي يجيء بعده، بعيدا عن المخطط العالمي لإسكانهم عنوة فوق رؤوسنا، بعيدا عن هجمة الظلام التي أنستنا السكرة خطرها المتربص … صغارا آه قد كنّا وقد كان … كل الشعوب زمن الثورات تجيش عندها العواطف فتعمى منها الأبصار والبصائر … ولكن ذلك ظرفي، ولا بدّ للعين أن تعود للانفتاح، ولكن بعد ماذا؟
نمرّ … من الغد صحونا فماذا رأينا؟ كانت الشوارع شبه مقفرة إلا من حطامات هنا وهناك، حجارة متناثرة بمختلف أحجامها، علامات طريق مقلوعة، كتابات ورسوم على الحيطان، عجلات مطاطية محترقة، مؤسسات حكومية مخروبة أو سوداء من أثر النار … لم يكن هناك بوليس واحد، لم يكن هناك أعوان بلدية، لم تكن هناك قباضة مالية تجبي الناس، تقصد شركة الكهرباء لخلاص فاتورتك فيعترضك باب حديدي موصد … فقط بضعة مواطنين متوجسين كانوا يتنقلون بتردد، والعلامة الوحيدة على وجود دولة هي لفرق الجيش المرابطة في مواقعها بالطريق العمومي منذ أيام بعد …
فجأة أفاق البلد على أنه لم يعد هناك من يحرس، ومن ينظف، ومن يدير الشأن العام … عرفنا قيمة مرافقنا، عرفنا دور الشرطة الأنبل بكثير من القمع والمنع وخموس وعاشور، عرفنا قيمة الملك العام الذي لي ولك وليس رزق بيليك، عرفنا خاصة خاصة قيمة بعضنا البعض، قيمة بني وطنك وبني مدينتك و بني حيّك … عرفنا قيمة إناء شفّاف عالي الهشاشة ولكن لا ثمن يعوّضه، اسمه بلادك، اسمه ملاذك، اسمه تونس الخضراء …
مئات الدروس في التربية الوطنية، ألاف الخطب الرسمية، أكداس من أغاني الإذاعة طوال عقود حول حب الوطن و العلَم وتاريخ مقاومة الاستعمار، أفلام عمار الخليفي عن الفلاّقة والزعماء ومعارك التحرير … هذه كلّها لم تفعل فينا سوى أنها كرّهتنا في الوطنية المفروضة كدواء المستوصف … ولكن لحظة خواء وصفاء كالتي عشناها صبيحة 15 جانفي، نفذت إلى قلوبنا كأشعة ليزر … هناك حبّ لا ينكشف إلا ساعة نخاف على من نحبّ، وأعتقد أننا يومها شعرنا بخوف مرعب على بلد ملقى بين أيدينا كطفل في حالة إغماء … فهرعنا مفزوعين صارخين صوتا واحدا: اللطف كل اللطف عليك يا حبيبنا …
بلجظة … الذي كان نائما في منزله هبّ راكضا إلى العمل، الحافلات دارت محرّكاتها وخرجت لنقل المسافرين، المستشفيات صار جيشها الأبيض يقرن الليل بالنهار ولا يرتاح، المدرّسون فتحوا المؤسسات التربوية وأقسموا على إنهاء العام الدراسي في أفضل الظروف، أفواج من الشباب تجنّدت لتنظيف الشوارع، لجان من المواطنين تكوّنت في كل حومة عند سماع أخبار نهب واعتداءات، وحملت ما ملكت أيديها من هراوات وربضت بمدخل كل نهج في صقيع الليل، اشتعلت مواقد في الهواء الطلق لتدفئة فرق الحراسة، جاد كل بما لديه من أغذية وأغطية للمتطوعين الأشاوس، تبودلت المواد الغذائية بين الجيران وأُغِيث من نقصت عنده مجانا ومحبة …
وتحررت لغة الكلام … وسائل الإعلام لأول مرة صارت في ايدي الصحفيين، والخبر صار مقدسا، والمواطن البسيط صار هو الخبر … وافتكّت سيدي بو (زيد) مكان سيدي بو (سعيد) في معالمنا الأهمّ وصورتنا السياحية عبر العالم … وصار الانتماء إلى تونس الأعماق أشرف ألف مرة من التبرّج بأصل تركي أو أندلسي وعائلات مزعومة … ومن رحم مأساة بلغت ذروتها يوم انتحار ذلك الشاب حرقا، ولد كائن، جديد علينا صدقه ومداه اللانهائي: الأمل …
كل هذا حدث في يوم، تلته أيام تشبه الحلم … قبل أن يهبط على جماجمنا جحفل من جنود المظلات تجشّأت بهم مطاراتنا من عواصم الغرب … وعاد إلينا قفير نحل نسيناه تقريبا وهو يطِنّ من منافيه الذهبية، فإذا به يضع أقدامه على هذه الأرض ويصفّر نهاية الفسحة، نهاية الفاصل، نهاية حلم يصعب تكراره … وتلك قصة أخرى
“صاح الأوّل: شيّات
وصاح الثاني: شيّات
وصاح الثالث: شيّات
… و رحت أشيّت مع شعبي”
إذن لا مناص لي اليوم من أرافق عموم العملة التونسيين في شغل مسح الأحذية، أحذية لاعبي منتخب المغرب، وأفرح رغما عنّي بنصر لا دور لنا فيه ولا عائد … بالعكس، فقد يستغلّ جارنا البعيد هذا الإنجاز ليضيفه إلى صورته السياحية والاستثمارية، و يزيد من تحويل وجهة قُصّاد تونس، المتناقصين بطبعهم … و قد يقرّب الحدث السعيد بينهم و بين شعب الجزائر على حساب شعبنا الغفلان، كما حدث لنا دائما مع كافة الأشقاء الأشقياء … و قد بدأت بعدُ إشارات المودّة تطفح من مواقع التواصل الجزائرية التي كانت بالأمس القريب تبخّر برائحة المغاربة، ودون تمييز … و لعلها مصداق لنظرية الشيطان العبقري “هنري كيسنجر”: ديبلوماسية البينغ بونغ …
طبعا هذا الكلام سوف لن يرضي جلّ من قد يطّلعون عليه … و لكن ماذا تريد؟ لا بدّ من استشفاف عقبات الطريق خلف ستارة يوم ضباب … ونحن على ما يبدو دخلنا منذ أيام في حالة ضباب و شراب و سكر واضح و انتشاء بفتوحات إخواننا المغاربة في كرة القدم … ربما هي غريزة الدم الأخوي دون ريب، و ربما هي تعويض عن خيبتنا الداوية في نفس المسابقة، و ربما ـ و هذا الأخطر ـ كتعويض عن بؤسنا اليومي الذي لا فرح فيه ولا بارقة أمل … و يوم أمس فقط، كان أمامنا في الشارع رجل عجوز يجرّ كرّوسة بها قارورة غاز منزلي … و كان رهاننا عليه كالآتي: هل يكون عائدا بالقارورة ملأى عودة الظافرين، أم مازال هائما يطوف على الدكاكين و محطات البنزين هل من غاز للّه يا محسنين !
كاد الفقر يكون كفرا، و أنا أعرف أني قد كفرت أكثر من مرة منذ بداية المقال، بل منذ بداية السنة، بل منذ بداية العشرية … و من منّا لم يفعل ذلك؟ … بالمستقبل، بالرزق، بعشاء الليلة، بالأمان، بالصداقة، بالأخوّة، بالجوار، بنخبنا كل طوائفها و هي تردح علينا سنينا دون إنتاج مفيد … كل من يأتي منهم ينسيك رداءة من جاء قبله، وفي كل فشل يتبارى عندنا المبررون مع المتهربين مع المتراشقين بالتهم مع الباحثين عن تيس فداء … نزلوا بنا إلى درك أسفل في كل شيء، فتضاءل اهتمامنا و طموحنا و تفكيرنا وكلامنا و شعورنا و أخلاقنا … أصبحنا منحطّين في عصر الانحطاط هذا، و كم أحسد الشعراء الذين ما زالوا يكتبون شعرا، و الموسيقيين الذين ظلّوا يجترحون نغما، والصنائعية الذين ما فتئوا ينمنمون نقائش فنية على الذهب أو النحاس أو الجبس … إذ ليس زمننا زمن فنّ، بل نجح حكّامنا في إرجاعنا إلى حقبة المغاور و جلود الحيوان …
فهل يغنيني بعد هذا أن تفوز المغرب بكأس العالم؟ … يمكن أن يكون ذلك على الأقلّ لو جاء من حظ تونس، و لكن … مِن أيّة الطُرْقِ يأتي نحوك الكرَمُ …؟
السيد معتمد سليمان… ما هكذا تساق الجرارات!!
حدث في رزق البيليك… المرجان الأحمر ينزف دما
سليانة: غدا… أدب الطفل في ملتقى عبد القادر الهاني
اختتام الدورة الثامنة لمنتدى المؤسسات Enicarthage
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
استطلاع
صن نار
- فُرن نارقبل 5 ساعات
السيد معتمد سليمان… ما هكذا تساق الجرارات!!
- منبـ ... نارقبل يوم واحد
حدث في رزق البيليك… المرجان الأحمر ينزف دما
- ثقافياقبل يوم واحد
سليانة: غدا… أدب الطفل في ملتقى عبد القادر الهاني
- اقتصادياقبل يومين
اختتام الدورة الثامنة لمنتدى المؤسسات Enicarthage
- اقتصادياقبل يومين
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
- صن نارقبل يومين
بعد 61 عاما… هل يكشف ترامب عن معطيات جديدة حول مقتل “جون كينيدي”؟
- داخلياقبل يومين
النفيضة: وقفة احتجاجية لأهالي “دار بالواعر”… على خلفية سقوط تلميذ من حافلة
- صن نارقبل يومين
حرب أوكرانيا… رسالة روسية في شكل صاروخ قادر على الدمار الشامل