ظاهرة الاستجداء علمونا من الصغر أنها فعل شائن و أفهمونا في الكبر أن القانون يعاقب عليها … و كم رأينا في الشوارع من حملات تقوم بها الشرطة و البلديات لزجر المتسولين من أي مكان، خاصة في المواقع التي يمر بها السياح و الأجانب عامة … و لكن للزمن تقلبات عجيبة، فها أن الحكومات التي كانت تمنع التسول، هي نفسها التي صارت تمارسه باسم بلادنا، و تجعل منا في نظر الدول الأخرى شعبا من الشحاذين …
و بما أن الأمر أصبح موضة رسمية و الناس على دين ملوكهم كما قال ابن خلدون … بما أن هذا كهذا، لا بأس من العودة إلى أصول المهنة و بعض من سوابقها … و لها كما سنرى، سوابق و تاريخ و صفحات عدة في مدونة الأدب … و كتبت عنها طائفة ضخمة من الكتّاب عندنا و في العالم، من تحليل و تعداد و تصنيف و أمثلة، فضلا عما استقاه الفن الروائي من شخوص و أحداث قادمة من عمق هذه الظاهرة … و عربيا، تعرض كثيرون للتسوّل و المتسولين … و لكننا اخترنا منهم خاصة علَمين لمعا في توصيف ما نسميه الآن بمجتمع قاع المدينة، و منه فئة المتسولين أو أهل الكدية كما كانوا يلقبونهم في ذلك الزمان … العلَمان هما الجاحظ و الهمذاني، فلنبدأ بالجاحظ …
في كتابه “البخلاء” و تحديدا عند فصل عنوانه حديث خالد بن يزيد، ينقل الجاحظ نص وصية تركها أحد أصدقائه البخيلين لابنه (الأبخل منه !) و ينبهه إلى أنواع الساعين إلى النيل من ماله بشتى الطرق و الحيل … و يعلمه و يعلم كافة الناس أنه هو نفسه ـ أي خالد بن يزيد ـ لم يجمع ثروته إلا بعد المرور بهذه التجارب و ممارستها، و أنه صار كما تقول أنت ملقحا ضدها … و يعدد بن يزيد أصناف المتسولين، و منهم المخطرانيّ، و الكاغانيّ، و البانوان، و القَرَسيّ، و المشعّب، و الفلّور، و العوّاء، و الإسطيل، و المزيديّ، و المستعرض، و المعدّس إلخ …
فالمخطرانيّ ـ حسب الجاحظ ـ هو الذي يأتيك في زي ناسك، و يريك أنه كان يشتغل مؤذنا و لكن ملكا مستبدا قطع لسانه، ثم يفتح فاه كأنه يتثاءب، فلا ترى له لسانا البتة. و لسانه في الحقيقة كلسان الثور، , و أنا (أي الجاحظ) أحد من خُدع بذلك. و لا بدّ للمخطرانيّ أن يكون معه واحد يعبّر عنه، أو لوح أو قرطاس قد كتب فيه شأنه و قصته.
و الكاغانيّ، هو الذي يتجنّن و يتصارع و يُزبد، حتى لا يُشكّ أنه مجنون لا دواء له، لشدة ما يُنزل بنفسه، و حتى يُتعجّب من بقاء مثله على مثل علّته.
و البانوان، هو الذي يقف على الباب و يسلّ الغلق، و يقول: “بانوا”، و تفسير ذلك بالعربية: يا مولاي.
و القرَسيّ: الذي يعصب ساقه و ذراعه عصَبًا شديدا، و يبيت على ذلك ليلة. فإذا تورّم اختنق الدم، مسَحه بشيء من صابون أو دواء للجلد، و قطر عليه شيئا من سمن، و أطبق عليه خرقة، و كشف بعضه. فلا يشكّ من رآه بأن به الإكلة (الجرب)، أو بلية تشبه الإكلة.
و المشعّب: الذي يحتال للصبيّ حين يولد، بأن يُعميه أو يجعله أعسم (معوجّ الأطراف) أو أعضد (مصابا في العضد)، ليسأل الناس به أهله. و يقوم أبوه و أمّه حتى بكرائه لمتسولين آخرين.
و الفلّوْر: من يحدث نفس العاهات و لكن بأعضائه التناسلية … نعم !
و العوّاء: الذي يسأل بين المغرب و العشاء، و ربما طرّب(أي غنّى) إن اكان له صوت حسن و حلق شجيّ.
و الإسطيل: هو المتعامي، و إن شاء أراك أنه منخسف العينين، فإن شاء أراك أن بهما ماء، و إن شاء أراك أنه لا يبصر
و المزيديّ: الذي يدور و معه دريهمات، و يقول: هذه دراهم قد جُمعت لي في ثمن قطيفة، فزيدوني فيها رحمكم الله، و ربما حمل معه صبيا على أنه لقيط، و ربما طلب في الكفن.
و المستعرض: الذي يعارضك و هو في هيئة و في ثياب صالحة، و كأنّه قد هاب من الحياء، و يخاف أن يراه معرفة، ثم يعترضك اعتراضا، و يكلمك خفيّا.
و المعدّس: الذي يقف على الميت يسأل في كفنه، و يقف في طريق مكة على الحمار الميت، و البعير الميت، فيدّعي أنه كان له، و يزعم أنه قد أحصِر (أي أعاقه موت الدابة عن مواصلة الحجّ). و قد تعلّم لغة الخراسانية و اليمانية و الإفريقية، و تعرّف تلك المدن و السكك و الرجال. و هو متى شاء كان إفريقيّا، و متى شاء كان من أهل فرغانة، و متى شاء كان من أيّ مخاليف اليَمن …