ظاهرة “الكرونيكورات” غزت مشهدنا بقوة و شملت كل من هب و دبّ … و يعرّفنا الكاتب بهذا الشكل الصحفي النبيل، الذي صار لعبة بين الأرجل
نشرت
قبل 4 سنوات
في
لنتّفق أولا أن “الكرونيك” أو العمود الصحفي، هي شكل من الأشكال الصحفيّة كما نقول الريبورتاج و التحقيق و الاستجواب و المقابلة…و كل شكل صحفي له قواعد و أسس تجعل منه ذلك الشكل دون سواه ، فلا يمكن أن نكتب تعليقا و نقول أنجزنا ريبورتاجا و لا يمكن أن نجري استجوابا و نقول قمنا بتحقيق، كذلك الأمر بالنسبة إلى الكرونيك فلها قواعد و أسس و أسلوب كتابة تميّزها عن بقيّة الاشكال الصحفيّة… و لنتّفق ثانيا أن الكرونيكور هو بالأساس و مبدئيّا صحفيّ، مهمّته الكتابة الصحفيّة و يمكن أيضا أن يكون شخصا قادرا على الكتابة و الإجادة فيها … و بالتالي، لا يمكن أن تكون المسألة ضمن (حكّ راسك ولّي كرونيكور)ǃ
و لنتّفق ثالثا أن الكرونيك هي نصّ مكتوب سواء تعلّق الأمر بالصحف أو بوسائل الإعلام المسموعة و المرئيّة، و ليست كلاما مرتجلا أو وليد اللحظة و الظرف … قد يكون ذلك، فالارتجال فنّ و قدرة فائقةعلى التعبير مباشرة في حديث مسترسل و مفهوم لكنّه ليس بالكرونيك من الناحية التقنية و الشكلية… و لنتّفق رابعا أن الكرونيك ليست شكلا صحفيا جديدا أو مستحدثا و كذلك الكرونيكور فكلاهما وجد مع ظهور الصحافة المكتوبة. و العبارة مشتقّة من كلمة kronos وهو إله الزمن عند الإغريق و منها عبارات مثل chronologie و chronomètre… فالكرونيكور هو الذي يكتب عن الأحداث اليوميّة ذات علاقة بزمن محّدد و ينتهي دورها بمرور ذلك الزمن.
نأتي الآن إلى تعريف الكلمة و أفضّل عدم تغييرها أو محاولة إيجاد الترجمة العربيّة المناسبة لها، فهي من المصطلحات التي رسخت في الأذهان بشكلها المتداول و المنطوق المعهود … لكن بقليل من البحث وجدت أن الكرونيك يقابلها تقريبا في الصحافة المكتوبة العمود الصحفي و أنّ الكرونيكور هو كاتب العمود ( column – columnist ).و كذلك قد تعني كذلك مقال الرأي ، و هي مساحة حرّة تعبّر فقط عن وجهة نظر صاحبها و لا تعكس بالضرورة الخط التحريري لوسيلة الإعلام … و هي على رأي عميد الأدب العربي طه حسين الذي تخصص في فترة ما من حياته (منتصف العشرينات من القرن الماضي) بكتابة مقال العمود من الجنس الأدبي مرّة في الأسبوع و لسنوات عديدة في اليوميّة المصرية “السياسة ” في مرحلة أولى ثم في صحف أخرى في مرحلة ثانية في فترة الثلاثينات …
عنوان العمود الذي كان ينشره كل أربعاء “حديث الأربعاء ” (اقتداء بـ “أحاديث الإثنين” للناقد الفرنسي سانت بوف)، و هي كتابات أثارت جدلا كبيرا وقتها و جُمعت فيما بعد في كتاب شيّق من أجزاء يحمل ذات العنوان … يقول طه حسين “مقال العمود يحقق الصلة بين الشعب و حياته الواقعة العامة “…و يعلّق المفكّر و الكاتب الكبير المصري جابر عصفور على تلك المقالات بقول يكاد يلخّص فيه فنّ كتابة الكرونيك، إذ ذكر في مقال له بجريدة البيان الإماراتيّة لسنة 1998 ” و تمضي الاحاديث ما بين التصريح و التلميح، الحقيقة و المجاز، التاريخ و القص”.
و انطلاقا من هذا الكلام فإنّ السؤال الذي يطرح هنا ماذا نكتب و كيف نكتب؟… هناك اتفاق لدى أهل الإختصاص ممن تحدّثوا عن الموضوع أنّ الكرونيك تتكوّن من ثلاثة عناصر: أولها الخبر الحقيقي الذي حدث و ليس خبرا من نسج الخيال، و ثانيا أسلوب كتابة يحتوي على عناصر انفعاليّة جادّة و تلقائيّة يفرضها الموضوع و تسلسل الافكار و ليست مصطنعة مثل السخرية و الإعجاب والنقد الشديد إلخ، و العنصر الثالث هو الذاتية أي أنّ ما يأتي في نص الكرونيك هو شخصي و يعبّر عن رأي صاحبه فقط و عن تجربته الخاصة ارتباطا بالحدث و موضوعه …
على هذا الأساس و بما أن الأمر يتعلق بإبداء الرأي في علاقة بالمتلقّي، فإن ذلك الرأي يجب أن يكون صادقا و نابعا من قناعات إيجابيّة و اطلاع متخصص ينفع النّاس و يزيد من بصيرة عقولهم و يضع أمامهم الواقع كما لم يشاهدوه من قبل … دون “روتوش ” بلغة سلسة و سهلة و نافذة إلى الأحاسيس، تحرّكها و تثير مكامنها و تدفعها إلى ردّة الفعل بالقبول أو الرفض، و تطرح أفكارا تشرح، و توضّح، و تبيّن، و تحلّل، و تعلّق بأسلوب صارم أو ساخر، أو ناصح ، يمدح حين وجب المدح و يوبّخ حين يجب التوبيخ ، و تعاتب و تُعلم و تعلّم و لا خوف في ذلك من لومة اللائم ، ما دام الصدق هو الأساس، و التبصير و الإصلاح هو المبتغى … فالكرونيك هي في تقديري كل هذا، هي فنّ لا بدّ من إتقانه و ملكة تكتسب و لا تهدى و هي بالتالي صعبة الإدراك …
الكاتب الفرنسي الكبير غي دي موباسان Guy de Maupassant و كما عميد الأدب العربي كتب مقال العمود في صحف فرنسيّة كثيرة و تحدّث عن هذا الفن بقول أحاول أن أكون أمينا في ترجمته: “يجب على الكرونيكور أن يكون دائما الأفضل لدى القرّاء و يسعى لنيل إعجابهم أو إقناعهم….. و إنّه من الصعب على محرّر صحيفة كبرى أن يجد كاتب عمود، كما هو الحال بالنسبة للناشر في أن يعثر على روائي “