تابعنا على

جور نار

أغنياء الحرب … النسخة التونسية

نشرت

في

تتوالى الوجوه كالطلقات، كالصعقات، كأيام السجن للمساجين … كل مرة يعرضون عليك سحنة لا تدري من أين جاءت وما موجب الإتيان بها … ومرة بعد مرة، تألف العيون تلك الأشكال الفضائية، وتحوّلها إلى إنس من خيار الجنس، بل من نجوم وأقمار تُحفظ ملامحها وأصواتها ويُستشهد بأقوالها … ولو كان بالسخرية منها على مواقع التواصل الاجتماعي.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
<strong>عبد القادر المقري<strong>

إلى زمن غير بعيد، كانت الشهرة شأن النبغاء دون غيرهم … مهما كان مجالهم … الذي في الفن والذي في الأدب والذي في الكرة والذي في قراءة الأخبار … نعم … في الستينات والسبعينات كان قاسم المسدّي نجم النجوم واوّل من زاحم المطربين وفتيان السينما في حصد المعجبات، فقط بعرض النشاط الرئاسي وأنباء الشرق الأوسط … كان للحقيقة وسيما أنيق الهندام عذب الصوت ثابت الجملة … وزير دون وزارة، في زمن كان فيه الوزراء لا يظهرون طويلا ولا كثيرا … فالزعيم يغار جدا من معاونين يضيئون أكثر من اللزوم … بينما المذيع لا يمكن منعه ولا تقصير وقت ظهوره أو تكرار تصدره أمام الكاميرا كل ليلة …

لست واثقا تماما من الملف العلمي لمذيعي تلك الفترة وعامة محترفي الشاشة أو الميكروفون … ولكن عندما كبرنا قليلا واشتغلنا مهنة الفضول الصحفي، أنعم علينا الحظ بالاقتراب من بعض من لحقنا بهم أحياء من نجوم صبانا وشبابنا … صالح جغام، أحمد العموري، محمد حفظي، محمد بن علي، بوراوي بن عبد العزيز، عبد الحفيظ بوراوي، بشير رجب، محمد بوغنيم، عادل يوسف، عز الدين الملوّح وغيرهم … لست واثقا كما قلت من الشهادة الأكاديمية لكل من هؤلاء، ولكن القاسم مشترك … الثقافة الواسعة، أناقة الكلمة والمظهر، مسار مهني طويل يسبق شهرة كل واحد وخمود عريض في ظل كبار آخرين عاصروهم ولم نعاصرهم … كانوا أساتذة عربية إذا جادلتهم لغة، ونحاة فرنسية إذا جنحت معهم إلى حيث فولتير، وعفاريت تقنية إذا خطر ببالك استعراض شيء مما تلقيته في المعهد، ومحللي سياسة من الطراز الأوّل إذا عنّ لك استذكار نقاشات المركّب الجامعي، وكنوزا من المعلومات لو تساءلت أمامهم فقط عن عضو حكومة مضى أو بصدد التعيين …

و العجيب العجيب أنهم بتلك الأسماء الكبيرة والنجومية المطلقة والقامات التي كان يرتعش لها وزراء ومدراء ورجال أعمال … بكل هذا، اكتشفنا أن مرتباتهم كانت متوسطة إن لم نقل أقل، ومعظمهم يعيش في شقة إيجار أو منزل متواضع ولا يملك سيارة … لذلك فسكنى سوادهم إما في حي “لافاييت” قرب الإذاعة توفيرا لثمن الركوب، او في ضاحية جنوبية يمرّ بها قطار حمام الأنف … وقد كاد الراحل صالح جغام يُجنّ ذات مرة حين علم أن ناقدا في جريدة من الجرائد، كان يتقاضى أجرا أعلى من أجره هو … “يشتمني يوميا ويقبض على شتائمه لي أكثر مما أقبضه على عملي وتعبي” … هكذا صرخ العزيز صالح !

ما جرّني لكل هذا ليس تجوالا بقنديل الذكريات … لا … بل تبدّل الأحوال في هذه الضفّة وتلك، ضفّة نجوم إعلام اليوم،و ضفّة الوضع الذي يعيشونه مقارنة بما كان عليه الأسلاف … دكتور مصطفى الزغل، أستاذ الاقتصاد العظيم برّد الله ثراه، ألقى علينا محاضرة ذات مرة عن العُملة وقيمتها عبر العصور، ختمها بقاعدة ذائعة هي: (العُملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) … ودليله على ذلك أن الإنسانية انتقلت في مبادلاتها من معدن الذهب، إلى نقود من الفضة، إلى نقود النحاس، إلى النيكل (مثل الدورو) إلى الورق … ولو بقي سيدي مصطفى إلى اليوم من أهل الدنيا، لرأى أن النقود صارت مجرد نقرة على ملمس تلفون، أو مضاربة على عُملة إلكترونية لا تعرف عنها إن كانت موجودة أم غير موجودة، ومع ذلك تبيع وتشتري ولها أسعارها وبورصاتها، مثل “البيت كوين” …

في الإعلام أيضا هبط علينا قانون الاقتصاد ولكن بأيّة طريقة ! مع التقاعد والموت والإبعاد خاصة بعد هوجة 14، اختفت القامات العريقة المتأصلة، وحلت محلها جيوش كأن أغلبها مستورد من غلمان أبي نواس وقيان زرياب … مع فارق جوهري… فحسب كتاب (الأغاني) الشهير، كانت جواري الأمس مدرّبات في الشعر والنثر وضرب العود، فضلا عن رخامة الصوت … أما ندماء اليوم، فيؤتى بهم وبهنّ من لا أدري أين، أناس كنبات الفُطر بلا ورق ولا جذور … يكون الواحد منهم عابر سبيل من العابرين، وفي ظرف 24 ساعة يصبح حديث المجالس ومربي الأجيال وصانع رأي عام … إفتاء في السياسة وإفتاء في الثقافة وفي الرياضة وفي الاقتصاد وفي الدين وفي الأخلاق في نفس الوقت … أنت لست أمام “إعلاميين” وهي الصفة التي يتبادلونها كسروال العسكري … بل أنت حيال الموسوعة البريطانية الشاملة … الشاملة لكل ما حفل به مجتمعك المريض من سقط الأمتعة …

وزاد على النافسة تكاثر القنوات وانتشارها ثم اختفاؤها بضربة سحر … فتراهم يهاجرون جماعيا من عمارة إلى عمارة، أو من ضاحية لضاحية، أو من هنشير يؤوي هذه القناة إلى هنشير آخر لباعث قناة أخرى … وقصة أصحاب التلفزات الخاصة والمزارع الجديدة معبوكة أخرى قد يأتي أوانها … وأصبح هناك حديث جاد عن “ميركاتو” لهؤلاء الإعلاميين الذين جادت بهم السماء كضفادع يوم ماطر … وهم خليط مذهل من المانكانات وبائعات الهوى والمزاودية والبلطجية والوشاة والمخبرين وأعوان اللوبيات ومرتزقة الأحزاب وفاشلي المسرح وساقطي الكرة وهواة التسكّع وما إليه … يجلبهم إلى البلاتوه مرة منشط من طينتهم، ومرة صاحب العقار، ومرة عشيقة صاحب العقار، ومرة صديق في الريجي، ومرة قوة خارجية … وكل ذلك لا يحتكم بالضرورة إلى مهنة أو خبرة أو جدارة علمية أو عراقة في ممارسة الصحافة أو أدنى وشيجة بمهنة المتاعب …

وبما أن الحديث حديث ميركاتو، فلا غرابة أن تكون هناك صفقات وأصداء حركة يتم تداولها بشكل واسع لتكريس نجومية احتلّت بعد مكانها وصارت أساطير … ولا غرابة أيضا أن تتناسب الأجور مع حجم النجم وحرارة اللهفة التي تسحق في طريقها أي معترض … فصرنا نسمع عن كاشيات بالحصة لم يكن يتقاضاها مدير الإذاعة والتلفزة في شهر، وصارت هناك أنصبة في دخل الإعلانات، وريع آخر يأتي من حساب لذلك النجم (ة) على إنستغرام وغير ذلك وغير ذلك وغير ذلك …

وحدها الحروب كانت تفرز هذا الصنف من الكائنات الطفيلية التي تعتاش على الجثث والأنقاض والسوق السوداء وتزويد ثكنات الاحتلال … ويبدو أننا اليوم نعيش بين هذه الخرائب وتحتها، وويلك ويلك إن دخلت معهم في منافسة أو طالبت بحقوق أو اقتربت مجرد الاقتراب …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

نحن الشعب الذي لم يقرأ الدرس جيّدا…

نشرت

في

محمد الأطرش:

اليوم هو ذكرى شرارة الثورة الوطنية الحقّ… الثورة التي أهدتنا الاستقلال: ثورة الثامن عشر من جانفي 1952…

تلك الثورة التي نسيناها في زحمة موجة الحقد والكراهية التي طغت على أغلب سكان هذا البلد وجعلتهم يبحثون عن مسح كل ما صنعه أجدادنا وأهلنا من أجلنا… لا أحد يمكنه أن ينكر على من قدموا أنفسهم فداء للوطن لنعيش بعدهم أحرارا في وطننا، تضحياتهم ووطنيتهم… أقول لا أحد يمكنه أن ينكر على آبائنا وأجدادنا ما فعلوه من اجل هذا الشعب، وحده الحاقد على كل شيء قديم والذي يرى أن كل شيء دونه لا شيء… ينكر ذلك ويرفض الاعتراف به… لذلك علينا أن نشكر كل جيل وكل عهد ومرحلة عاشها شعب هذه البلاد فلكل مرحلة دروسها ولكل مرحلة فشلها ونجاحاتها وزلاتها وذكراها وبانيها وصانعها وظالمها ومظلومها وسجانها وجلادها ومستبدها وعادلها وفاسدها وحاميها و”حراميها”…

علينا جميعا نحن من لا نزال نذكر ما عاشته هذه البلاد أن نراجع أنفسنا… ونراجع بعض احكامنا… وأقوالنا وشهاداتنا… فلسنا من الملائكة ولا أحد منّا معصوم من الخطأ… فجميعنا أخطأ في حق جميعنا أو بعضنا… وجميعنا ظلم بعضنا أو بعض بعضنا… وجميعنا استبد على الآخر… وجميعنا سرق عرق ومجهود الآخر… وجميعنا رفض الحقّ للآخر… وجميعنا رفض الآخر وأقصى بعض الآخر… وعلينا اليوم قبل ان نغرق في موروث صنعناه بأحقادنا وسنتركه فتنة غدا لأبنائنا، أن نقتنع أن المراجعات والاعتراف بالخطأ ليست ضعفا ولا يمكن اعتبارها هزيمة بل هي في خلاصة القول عودة إلى العقل… وصحوة ضمير… فجميعنا شئنا أم أبينا أخطأنا من بورقيبة ورفاقه، وصولا إلى لحظتنا هذه من ساعتنا هذه من يومنا هذا من شهرنا هذا من عامنا هذا… لا احد معصوم من الخطأ ولا أحد كتب اسمه في قائمة الملائكة ولا أحد يمكنه أن يفاخر بأنه أجدر واقدر واشرف من غيره…

أربعة عشر سنة مرّت منذ أرسل إلينا العمّ سام باقة أشواك خالها بعضنا ورودا من ربيع سيُنْسي العرب كل العرب صيفهم الحار وشتاءهم القارس وخريفهم الذي تساقطت فيه كل أوراق اشجارهم… نعم أرسل إلينا العمّ سام باقة أشواك جرحت أيادينا حين احتضنّاها فرحا وطعنتنا بخناجر أشواكها من قرطاج إلى دمشق مرورا بطرابلس والقاهرة وصنعاء حين ائتمنّاها على أنفسنا ومصيرنا ومستقبل أبنائنا… باقة أشواك خلناها فرحا فأوجعتنا وأيقظت قابيل الذي يسكننا وأبكت مرّة أخرى هابيل الذي لا يزال بعضنا يلاحقه ليقتله مرّة ومرّات… ومنذ ذلك اليوم ونحن نقرأ الدرس تلو الآخر… ونعيش الوجع تلو الوجع…

بعضهم قرأ الدرس جيدا… وبعضنا يرفض ولا يريد ان يقرأ عمق الأشياء وخلاصة الدرس ومعانيه… وبعضنا قفز على اللحظة وخرج علينا فاتحا شاهرا سيفه صارخا مولولا “أنا ربكم الأعلى ودوني أنتم الأخسرون”… وإلى يومنا هذا يواصل بعضنا ايهامنا أنهم أقدر ممن سبقهم… وأنهم أشرف ممن حكم قبلهم… وانهم أجدر ممن ينافسهم…وأن الجميع أهل فساد وأنهم “الواحد الأحد” الذي لا يمكن ان يضاهيه احد ولا أن ينافسه احد… هكذا نحن… وهكذا غرقنا في بئر تعنتنا ورفضنا لبعضنا البعض… وعدم اعترافنا بأننا لسنا من الملائكة وأن خصومنا ومنافسينا والآخر ليسوا أعداء لنا وليسوا حتما من الشياطين…

لذلك أقول إنه حان الوقت لنعلن على الملأ وامام الجميع وعلى مسمعهم جميعا أن هذه المرحلة تتطلب منّا جميعا واعي ما أقول جميعا، ولا استثني أحدا… أقول وأكرّر، تتطلّب منّا مراجعة كاملة لما عشناه وما أخطأنا فيها وما فعلناه… علينا ان نعترف جميعا بما اتيناه من خير… ونعترف جميعا بما فعلناه من سوء… فمن نحن حتى لا نقول أننا أخطأنا في أمر ما؟… أخطأنا في قراءة الدرس… وفي قراءة التاريخ… اخطأنا في حق بعضنا البعض… اخطأنا في تاريخ البعض… أخطأنا في حكم البلاد…

من نحن حتى لا نعترف بأننا ظلمنا… وبأننا أقصينا بعضنا البعض… وأننا رفضنا الآخر وبعض الآخر… من نحن حتى لا نقول ونعترف بأن ما اتيناه يمكن اعتباره استبدادا… وظلما… وانتقاما… علينا ان نترك “الجبن” جانبا… فمن الشجاعة أن نراجع ما أخطأنا فيه… ومن الشجاعة أن نعترف بحق البعض علينا… ونعترف باننا أسأنا قراءة التاريخ وما يعنيه… والأحداث وما تستدعيه… ومن حقّ الوطن علينا، والشعب والأجيال القادمة أن نراجع بعض ما أخطأنا فيه … وما اسأنا فيه… كما وجب أيضا أن نفاخر بما نجحنا فيه… وما تميزنا فيه… وما يمكن ان نكبر به…

لذلك وأكثر من ذلك علينا ولأول مرّة شكر هذه المرحلة من يوم تلقينا باقة أشواك العمّ سام التي طعنتنا من قرطاج إلى دمشق… إلى يومنا هذا وجراحنا تنزف حقدا وكراهية وسوء تسيير وضعف تدبير… فأنا اليوم اقولها عاليا شكرا للعمّ سام فلولاه لما عرفنا حجمنا الحقيقي ولما عرفنا حجم العملاء والخونة في هذه الأمة… شكرا للعمّ سام فلولا باقة اشواكه لما كشفنا وجوهنا الحقيقية تجاه بعضنا البعض… فجميعنا طعن جميعنا وجميعنا ظلم جميعنا وجميعنا يحقد على جميعنا وجميعنا يحسد جميعنا وجميعنا يتآمر على جميعنا… شكرا للعمّ سام فلولا باقة اشواكه لما عرفنا أن بعض هذا الشعب مريض ولا يحتاج إلى أسباب ليحقد ويكره بعضه الآخر…

شكرا للعمّ سام فلولا باقة اشواكه لما عرفنا حجم الفساد الذي يعيشه العرب من المحيط إلى الخليج مرورا بالخاصرة وأفخاذ العرب ومؤخرتهم ايضا… شكرا للعمّ سام ولباقة اشواكه التي أيقظتنا من سباتنا فعرفنا من الظالم ومن المظلوم… من الوطني ومن الخائن… من المستبد ومن العادل والديمقراطي… شكرا للعمّ سام وباقة اشواكه فلولاه لما عرفنا أن العرب كل العرب يبدعون في صناعة جلاديهم ويعشقون الضرب على قفاهم… شكر للعمّ سام وباقة اشواكه فلولاها لما عرفنا أن بعضنا لا يمكن ان يعترف بك ويحبك ولا يقبل بك أبدا… شكرا للعمّ سام فلولا باقة اشواكه لما عرفنا أننا شعوب أصابها الجهل في مقتل… واننا شعوب تفكّر بنصفها الأسفل… وأننا أشدّاء على بعضنا رحماء على الآخرين…

أخيرا أقول… شكرا للعمّ سام وعائلته وأصهاره ومن يخدمونه من الخونة والعملاء وباعة الأوطان… فلولا باقة أشواكه لما أيقنت أن الحقّ وإن طال سباته لا بدّ أن يستيقظ يوما على أنين حَمَلَتهِ، وأنّ الإنسان مهما عاش على ظهر الأرض فمصيره في بطنها… وكفاك حقدا وكرها وقتلا يا قابيل … فنحن الشعب الذي لم يقرأ الدرس جيّدا…

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 102

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في علاقات الواحد منّا مع الاخرين في محيطه وبقليل من الحدس بعد المعاشرة، يتفطّن الى نوعين من الاحاسيس ..فهو مع البعض يشعر بالتناغم بالراحة بالصدق حتّى بمجرّد تحيّة او نظرة او ابتسامة ..وفي المقابل يشعر مع البعض الاخر بنوع من التوجّس والريبة …

عبد الكريم قطاطة

منذ بداية سنة 2001 احسست ببداية تغيير في علاقة المرحوم “عبدالقادر عقير” بي… ولانّني من طبعي اعتمد دوما قناعة نصف الكأس الملآن في تعاملي مع الاحداث والاشخاص، فسّرت ذلك التغيير كما اسلفت بعوامل ظرفية قد يمرّ بها الشخص في حياته فتعكّر مزاجه مع الاخرين … لكن وفي نصف الكأس الفارغ لاحظت ومنذ سنة 2000 دخول زميلين في محيطه بشكل متواتر… ومن واجبي تجاهه، نبهته لأمرهما لاني اعرف معدنهما وخاصة محدوديّة كفاءتهما… شكرني على النصيحة ولكن لم يعمل بها بتاتا… بل كان موقفه عمليا مفاجئا جدا لي … وكنت اشتمّ رائحة الغدر بالنسبة لما سيحدث في نهاية المطاف …

وجاء التاكيد عندما اعلمني زميلي في مكتب الاستقبال بانّ احدهما كلفه وبامر من المدير ان يمدّه يوميا باسم وطبيعة كل شخص يريد مقابلتي… وجاء التاكيد الثاني من زميل في غرفة الهاتف ليقول لي إن احدهما اتصل به وطلب منه ودائما بامر من المدير ان يمدّه يوميا بقائمة كل المتصلين هاتفيا بعبدالكريم… ورجاني الزميلان ان لا اوقعهما في شراك الادارة خوفا من ايّ عقاب محتمل… ووعدتهما بالكتمان ولم يعرف ايّ كان ولحدّ هذا اليوم شيئا عنهما… عندما علمت بالامر استبقت الاحداث برسالة كتبتها للسيد عبدالقادر عقير هذا نصّها:

وحده الله يشهد انني اكتب لك لا خوفا ولا طمعا ولكن عشقا سرمديا لاذاعتنا الحبيبة اذاعة صفاقس… سيّدي الكريم عبدالقادر عقير… عديد المرات حاولنا معا ان نضع اليد في اليد من اجل خير هذه الاذاعة رغم بعض الاختلافات… لكن يبدو وحسب ما يصلني من اصداء يبثها اتباعك انّ الاختلاف قُدّر له ان يصبح خلافا وللاسف… اتباعك يشيعون انّ راس الحيّة هو عبدالكريم وانّ مخططا جاهزا لاقصائه واقصاء من لهم صلة به… ويشيعون ايضا انّ امرا رئاسيا ورد لايقاف برنامجه في الشبكة القادمة… ويشيعون ويشيعون وانا اجيبك: لماذا تجهدون انفسكم في وضع مخططات لاقصائي ؟ الم اقل لكم انني مستعد لاراحتكم من هذا العناء وذلك بالانسحاب من دفة المسؤولية ان كان ذلك في صالح اذاعتنا؟ ثم تتحدثون بواسطة اتباعكم عن امر رئاسي بايقاف برنامجي… هل ليس للرئيس مشاغل لهذا البلد سوى اقصاء برنامج اذاعي ما ؟ الم تدروا انكم بما يبثه اتباعكم تصنعون منّي بطلا رغم انفكم وانتم الذين تريدون القضاء على راس الحيّة ؟ …

وها انا اجدّد لكم طلبي… ان كنت مقلقا وخطيرا لهذه الدرجة فعلى عكس ما يخيّل لكم وبشرف عزّة نفسي وعزّة شرف زيتونة الاثير، انا دوما مستعدّ للتخلّي عن المسؤولية من اجل صالح الاذاعة وبكلّ جدية وصدق … ولكن دعني اسالك … هل بموقفي هذا سيتم القضاء على المنزلقات التي وصلت اليها اذاعتنا تسييرا وانتاجا وعلاقات ..؟ هل يضمن انسحابي هذا تفادي عديد التجاوزات لاتباعك التي اصبح يعرفها الخاص والعام ؟ هل يضمن انسحابي تطورا ايجابيا لبرامجنا التي شهدت تراجعا كبيرا على عكس ما يروجه لك البعض ..المصدح وقعت استباحته بمن هب ودبّ وبنفس الاسماء التي تلقى التشجيع على عكس اخرى التي لا تلقى الا التنكيل؟ هل يضمن انسحابي تطوير العلاقات بين ابناء المؤسسة التي اصبحت تكتلات وقبائل نتيجة لما يزرعه اتباعك من حقد وضغينة واكاذيب واراجيف في صدرك؟

سيدي الكريم اعيد عليك القول هذه المرة كتابيا .. جلّ المنتسبين للاذاعة ينتظرون رحيلك على احرّ من الجمر لانّك وللاسف اعتمدت على (شلّة) لا تحظى بالاحترام والتقدير واصمّت مسامعك عن الحقيقة … هم لاحظوا انك منذ مدة اصبحت المعاملات بين الموظفين لا تتسم بالعدالة في رخص غيابهم .. في اوقات دخولهم وخروجهم للادارة .. في اعداد منح الانتاج والاعداد المهنية ..فهل وراء هذه الحالة عبدالكريم ايضا ؟ ان كان كذلك فهذا يعني انّ عبدالكريم خطير ولكن يعني ايضا انهّ قدير ومستطيع ..

سيّدي الكريم لنكن صرحاء ..كم مازل بيننا ؟ شهر ؟ سنة ؟ 5 سنوات ؟ ليس مهمّا ما سيقوله الناس وانت بيننا .. المهم ما سيقوله الناس عندما تغادر هذه القلعة .. ولكن بحقّ فلذات كبدك لا تدع الاخرين والمحسوبين على عبدالكريم يدفعون حساب عبدالكريم … عبدالكريم في الخمسين من عمره وسيكتب عني التاريخ كما سيكتب عنك… ولكن ما يعرفه عني الاخرون وانت منهم اني احب بلدي لحدّ النخاع واحب اذاعتي لحدّ النخاع وهذا يعرفه الكبير والصغير ولا يمكن لايّ كان ان يمسح تاريخي بجرّة قلم .. رجاء لا تقرا خطابي لك على انه تهديد ووعيد ..اقرا خطابي على انه كلمات من صديق يريد ان ينبهك لعديد الاشياء والتي اهمها أني لست ماكرا شريرا كما يصوره لك البعض… ولكني لست غبيا ايضا ولست شيطانا حتى افجّر ما بحوزتي من حقائق لاني مازلت مؤمنا بانّ الاصلاح ممكن.. ساواصل بذل جهودي كي تبقى اذاعة صفاقس اعلى من الجميع… وساواصل سعيي الدؤوب للوقوف ضدّ كل الكلاب التي تريد نهشها…

اختم بما انطلقت به في رسالتي هذه اكتب لا طمعا ..فانا لا تهمني الطموحات السخيفة التي رمتها على مسامعك تلك الشلة والتي مفادها اني اعمل على ازاحتك لتولّي منصب ادارة اذاعة صفاقس… والغريب انك بدات تصدّق مثل هذه الحماقات… واكتب لا خوفا لاني لا اخاف الا الله .. اخيرا ارجو ان اجد فيك صوت العقل وانت تقرا مخطوطي بخطّ يدي حتى يبقى شاهدا عليّ وعليك… وفقنا الله جميعا فيما فيه خير اذاعتنا وهي على بعد امتار من الاحتفال بعيد ميلادها الاربعين…

صفاقس في 20 نوفمبر 2001

ولم اتلقّ ردّه لفترة طويلة بل جاء في مكتوب رسمي وبتاريخ 24 ديسمبر 2001 وياله من ردّ ..بل يا لها من ردود… كان مسلسلا باتمّ معنى الكلمة… غفر الله له ولكل من غادرنا وعاصرنا في تلك الحقبة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

الشرخ يتوسع بين المكتب التنفيذي و”المعارضة النقابية”

نشرت

في

محمد الزمزاري:

يعتزم شق نقابي حشد العمال بساحة محمد علي يوم السبت 18 جانفي القادم وهو اليوم المصادف لذكرى تاسيس الاتحاد العام التونسي للشغل…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويبدو أنه زيادة عن الخلافات الحادة صلب المكتب التنفيذي بين أغلبية مسيطرة و تيار يعارضها، وعن ماخذ المعارضة النقابية السابقة واللاحقة والمراحل التي تميزت بالحدة وبشبه انسداد كامل أمام التوصل إلى حلول تحفظ صورة الاتحاد النضالية وتدفعه للعمل من أجل مصلحة الطبقة الشغيلة بعيدا عن العقليات البيروقراطية او الجمود او الركود… وهي خلافات لا تستجيب لأهداف المنظمة الشغيلة ومصالح العمال، بل تفسح المجال لارباك وتقسيم الاتحاد قصد الإجهاز عليه وهي أهداف انطلقت مع حكم الاخوان حين استفحلت الاعتداءات وتجييش وسائل اعلام “الذباب الازرق” في كل مكان للتهجم على المنظمة ناعتة إياها بـ”اتحاد الخراب”…

هذه المنظمة العتيدة التي كان لها دور مفصلي في الكفاح الوطني ضد الاستعمار ثم في الدفاع المستميت عن الطبقة الشغيلة، لطالما تعرضت لمؤامرات ومحاولات اختراق وتكوين نقابات صفراء وأخرى تنادي بالتعددية النقابية ..وكلها محاولات تستهدف العمل النقابي و تؤسس لخدمة الراسمالية الفاسدة ..

وقد عاشت بلادنا خلال حكم الاخوان مضاعفة اعداد أصحاب الملايين والمليارات، في حين ازداد الفقراء فقرا وتآكلت الطبقة الوسطى وديست الحقوق وتردت قيمة العمل الشريف… ولعل مازاد الطين بلة هو التصريح (ان ثبتت صحة هذا الخير) بأن ميزانية الاتحاد راكمت ديونا تقدر بـ 40 مليون دينار…

وذلك ما ترى فيه المعارضة النقابية دليلا جديا على وجود سوء تصرف او شبهات فساد سيما أن مداخيل المنظمة النقابية سواء من الاشتراكات التي تصل إلى 800 الف او المداخيل الأخرى المتعددة، تغطي النفقات ومن المفترض أنها تحقق فوائض. وترتفع الدعوات اليوم لإجراء محاسبة دقيقة سواء داخل المؤتمر او خارجه…

إن الوضعية الحالية التي يمر بها الاتحاد من صراعات لن تخدم هذه المنظمة العتيدة التي واجهت كل ضروب الحصار و السجون و الظلم و الاعتداءات واليوم تفرز خلافات داخلية مؤسفة.

أكمل القراءة

صن نار