جور نار

أغنياء الحرب … النسخة التونسية

نشرت

في

تتوالى الوجوه كالطلقات، كالصعقات، كأيام السجن للمساجين … كل مرة يعرضون عليك سحنة لا تدري من أين جاءت وما موجب الإتيان بها … ومرة بعد مرة، تألف العيون تلك الأشكال الفضائية، وتحوّلها إلى إنس من خيار الجنس، بل من نجوم وأقمار تُحفظ ملامحها وأصواتها ويُستشهد بأقوالها … ولو كان بالسخرية منها على مواقع التواصل الاجتماعي.

<strong>عبد القادر المقري<strong>

إلى زمن غير بعيد، كانت الشهرة شأن النبغاء دون غيرهم … مهما كان مجالهم … الذي في الفن والذي في الأدب والذي في الكرة والذي في قراءة الأخبار … نعم … في الستينات والسبعينات كان قاسم المسدّي نجم النجوم واوّل من زاحم المطربين وفتيان السينما في حصد المعجبات، فقط بعرض النشاط الرئاسي وأنباء الشرق الأوسط … كان للحقيقة وسيما أنيق الهندام عذب الصوت ثابت الجملة … وزير دون وزارة، في زمن كان فيه الوزراء لا يظهرون طويلا ولا كثيرا … فالزعيم يغار جدا من معاونين يضيئون أكثر من اللزوم … بينما المذيع لا يمكن منعه ولا تقصير وقت ظهوره أو تكرار تصدره أمام الكاميرا كل ليلة …

لست واثقا تماما من الملف العلمي لمذيعي تلك الفترة وعامة محترفي الشاشة أو الميكروفون … ولكن عندما كبرنا قليلا واشتغلنا مهنة الفضول الصحفي، أنعم علينا الحظ بالاقتراب من بعض من لحقنا بهم أحياء من نجوم صبانا وشبابنا … صالح جغام، أحمد العموري، محمد حفظي، محمد بن علي، بوراوي بن عبد العزيز، عبد الحفيظ بوراوي، بشير رجب، محمد بوغنيم، عادل يوسف، عز الدين الملوّح وغيرهم … لست واثقا كما قلت من الشهادة الأكاديمية لكل من هؤلاء، ولكن القاسم مشترك … الثقافة الواسعة، أناقة الكلمة والمظهر، مسار مهني طويل يسبق شهرة كل واحد وخمود عريض في ظل كبار آخرين عاصروهم ولم نعاصرهم … كانوا أساتذة عربية إذا جادلتهم لغة، ونحاة فرنسية إذا جنحت معهم إلى حيث فولتير، وعفاريت تقنية إذا خطر ببالك استعراض شيء مما تلقيته في المعهد، ومحللي سياسة من الطراز الأوّل إذا عنّ لك استذكار نقاشات المركّب الجامعي، وكنوزا من المعلومات لو تساءلت أمامهم فقط عن عضو حكومة مضى أو بصدد التعيين …

و العجيب العجيب أنهم بتلك الأسماء الكبيرة والنجومية المطلقة والقامات التي كان يرتعش لها وزراء ومدراء ورجال أعمال … بكل هذا، اكتشفنا أن مرتباتهم كانت متوسطة إن لم نقل أقل، ومعظمهم يعيش في شقة إيجار أو منزل متواضع ولا يملك سيارة … لذلك فسكنى سوادهم إما في حي “لافاييت” قرب الإذاعة توفيرا لثمن الركوب، او في ضاحية جنوبية يمرّ بها قطار حمام الأنف … وقد كاد الراحل صالح جغام يُجنّ ذات مرة حين علم أن ناقدا في جريدة من الجرائد، كان يتقاضى أجرا أعلى من أجره هو … “يشتمني يوميا ويقبض على شتائمه لي أكثر مما أقبضه على عملي وتعبي” … هكذا صرخ العزيز صالح !

ما جرّني لكل هذا ليس تجوالا بقنديل الذكريات … لا … بل تبدّل الأحوال في هذه الضفّة وتلك، ضفّة نجوم إعلام اليوم،و ضفّة الوضع الذي يعيشونه مقارنة بما كان عليه الأسلاف … دكتور مصطفى الزغل، أستاذ الاقتصاد العظيم برّد الله ثراه، ألقى علينا محاضرة ذات مرة عن العُملة وقيمتها عبر العصور، ختمها بقاعدة ذائعة هي: (العُملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) … ودليله على ذلك أن الإنسانية انتقلت في مبادلاتها من معدن الذهب، إلى نقود من الفضة، إلى نقود النحاس، إلى النيكل (مثل الدورو) إلى الورق … ولو بقي سيدي مصطفى إلى اليوم من أهل الدنيا، لرأى أن النقود صارت مجرد نقرة على ملمس تلفون، أو مضاربة على عُملة إلكترونية لا تعرف عنها إن كانت موجودة أم غير موجودة، ومع ذلك تبيع وتشتري ولها أسعارها وبورصاتها، مثل “البيت كوين” …

في الإعلام أيضا هبط علينا قانون الاقتصاد ولكن بأيّة طريقة ! مع التقاعد والموت والإبعاد خاصة بعد هوجة 14، اختفت القامات العريقة المتأصلة، وحلت محلها جيوش كأن أغلبها مستورد من غلمان أبي نواس وقيان زرياب … مع فارق جوهري… فحسب كتاب (الأغاني) الشهير، كانت جواري الأمس مدرّبات في الشعر والنثر وضرب العود، فضلا عن رخامة الصوت … أما ندماء اليوم، فيؤتى بهم وبهنّ من لا أدري أين، أناس كنبات الفُطر بلا ورق ولا جذور … يكون الواحد منهم عابر سبيل من العابرين، وفي ظرف 24 ساعة يصبح حديث المجالس ومربي الأجيال وصانع رأي عام … إفتاء في السياسة وإفتاء في الثقافة وفي الرياضة وفي الاقتصاد وفي الدين وفي الأخلاق في نفس الوقت … أنت لست أمام “إعلاميين” وهي الصفة التي يتبادلونها كسروال العسكري … بل أنت حيال الموسوعة البريطانية الشاملة … الشاملة لكل ما حفل به مجتمعك المريض من سقط الأمتعة …

وزاد على النافسة تكاثر القنوات وانتشارها ثم اختفاؤها بضربة سحر … فتراهم يهاجرون جماعيا من عمارة إلى عمارة، أو من ضاحية لضاحية، أو من هنشير يؤوي هذه القناة إلى هنشير آخر لباعث قناة أخرى … وقصة أصحاب التلفزات الخاصة والمزارع الجديدة معبوكة أخرى قد يأتي أوانها … وأصبح هناك حديث جاد عن “ميركاتو” لهؤلاء الإعلاميين الذين جادت بهم السماء كضفادع يوم ماطر … وهم خليط مذهل من المانكانات وبائعات الهوى والمزاودية والبلطجية والوشاة والمخبرين وأعوان اللوبيات ومرتزقة الأحزاب وفاشلي المسرح وساقطي الكرة وهواة التسكّع وما إليه … يجلبهم إلى البلاتوه مرة منشط من طينتهم، ومرة صاحب العقار، ومرة عشيقة صاحب العقار، ومرة صديق في الريجي، ومرة قوة خارجية … وكل ذلك لا يحتكم بالضرورة إلى مهنة أو خبرة أو جدارة علمية أو عراقة في ممارسة الصحافة أو أدنى وشيجة بمهنة المتاعب …

وبما أن الحديث حديث ميركاتو، فلا غرابة أن تكون هناك صفقات وأصداء حركة يتم تداولها بشكل واسع لتكريس نجومية احتلّت بعد مكانها وصارت أساطير … ولا غرابة أيضا أن تتناسب الأجور مع حجم النجم وحرارة اللهفة التي تسحق في طريقها أي معترض … فصرنا نسمع عن كاشيات بالحصة لم يكن يتقاضاها مدير الإذاعة والتلفزة في شهر، وصارت هناك أنصبة في دخل الإعلانات، وريع آخر يأتي من حساب لذلك النجم (ة) على إنستغرام وغير ذلك وغير ذلك وغير ذلك …

وحدها الحروب كانت تفرز هذا الصنف من الكائنات الطفيلية التي تعتاش على الجثث والأنقاض والسوق السوداء وتزويد ثكنات الاحتلال … ويبدو أننا اليوم نعيش بين هذه الخرائب وتحتها، وويلك ويلك إن دخلت معهم في منافسة أو طالبت بحقوق أو اقتربت مجرد الاقتراب …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version