تابعنا على

جلـ ... منار

أهل القمة.. وأهل غزة!

نشرت

في

عبد الله السنّاوي:

بين مشهدين سياسيين تابعهما العالم فى اللحظة نفسها تبدت تساؤلات ومفارقات.

في المنامة عقدت قمة عربية اعتيادية بظروف استثنائية خيمت عليها أشباح الإبادة والتجويع بقطاع غزة ومخاوف ارتكاب مجازر أبشع بحق مليون ونصف المليون نازح إذا ما جرى اجتياح رفح الفلسطينية.

وفي لاهاي التأمت جلسة أخرى لمحكمة العدل الدولية تنظر بطلب من جنوب إفريقيا في اتخاذ تدابير احترازية طارئة لوقف حرب الإبادة على غزة ومنع اجتياح رفح.

عبد الله السنّاوي

أفضل ما ينسب إلى القمة العربية ارتفاع منسوب لغة الخطاب فوق ما هو معتاد، لكن لم تصحبه مواقف وسياسات قابلة للتنفيذ والتأثير في حسابات وموازين مسارح القتال والدبلوماسية.

افتقدت دعوات القمة إلى مؤتمر سلام دولي، أو إرسال قوات دولية للأراضي المحتلة حتى إعلان “حل الدولتين” لأية آليات تفضي إليها.

بدت معلقة في فراغ الإنشاء السياسي دون أية أوراق ضغط.

في نفس اللحظة بدا الكلام القانوني أمام محكمة العدل الدولية محددا ومنضبطا، أهدافه واضحة وحججه ماثلة.

إذا ما صدر قرار من العدل الدولية بوقف الحرب فهو إنجاز له تداعياته الكبيرة على المقاربات الدولية من الحرب على غزة.

بدت جنوب إفريقيا مستعدة للمضي قدما في معركتها ضد نظام الفصل العنصري بفلسطين المحتلة جولة بعد أخرى رهانا على دعم شعبي عالمي غير مسبوق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة بمنع اجتياح رفح.

بالمفارقة بدا العالم العربي مستنفدا، أوصاله السياسية شبه مقطعة، وقدرته على إسناد قضاياه المصيرية شبه محدود رغم ما يلهمه الصمود الفلسطيني من موجات احتجاج وتضامن يساعد على بناء مواقف وسياسات فاعلة ومؤثرة.

كيف وصلنا إلى هنا؟

لم يحدث ذلك بين يوم وليلة.

لم يكن هناك تنبه حقيقي في العالم العربي إلى حجم الخطر ومواطنه حتى داهمته نكبة (1948) وهزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين.

تحت صدمة النكبة جرت مراجعات واسعة لأسبابها، تطرقت لأوجه الخلل في بنية المجتمعات العربية بالفحص والتشريح، وانتقدت الفكر العربي على نحو غير مسبوق، نشأت حركات سياسية من فوق أنقاضها، وجرت تغييرات جوهرية بنظم الحكم.
لم يعد هناك شيء على حاله والتغير شمل كل ما كان يتحرك في العالم العربي.

أية مراجعة على شىء من الجدية تكتشف بيسر أن القضية الفلسطينية كانت نقطة المركز التي تجري حولها التفاعلات الصاخبة وتصطدم الإرادات المتنافسة، أو محور كل حركة وفكرة وحوار ينظر إلى المستقبل.

كانت ثورة (23) يوليو (1952) أحد تجليات ما بعد النكبة.

بخط يده كتب الضابط الشاب “جمال عبدالناصر” فى مذكراته الشخصية تحت وهج النيران في فلسطين: “لم تكن حربا، فلا قوات تحتشد، ولا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط قتال، ولا استكشافات، ولا معلومات!”.

تبدت المفارقة التراجيدية في القصة كلها أن بعض ما انتقده عام (1948) تكرر معه عام (1967).

كان ذلك جرحا لم يفارقه حتى رحيله رغم حرب الاستنزاف وتضحياتها وإعادة بناء الجيش من تحت الصفر ليحرر سيناء بالقوة.

ما بين النكبة والنكسة بدا التناقض فادحا بين ضيق النظام واتساع المشروع.

في ضيق النظام نشأت ظواهر بالغة السلبية نحرت بنيته ومهدت للإجهاز عليه مثل تغول بعض المؤسسات الأمنية كأنها “دولة داخل الدولة” بتعبير “عبدالناصر” نفسه.

بعد النكسة دعا إلى “المجتمع المفتوح” و”دولة المؤسسات” و”الحوار مع الأجيال الجديدة” التي ترفض أسبابها وتطلب توسيع المشاركة السياسية، لا قمعها والزج بها خلف قضبان السجون، غير أن العمر لم يطل به لوضع برنامجه الجديد تحت التنفيذ.

على النقيض تماما كان مشروع “يوليو” رحبا في أفكاره وسياساته، اتسع لقضايا عصره التي تبناها وخاض معاركها في محيطه العربي وقارته الإفريقية وعالمه الثالث.

بعد حرب السويس (1956) خرجت مصر، المستعمرة السابقة، كقوة توضع في كل حساب وباتت عاصمتها القاهرة أحد المراكز الدولية التي لا يمكن تجاهل رأيها.
للأدوار تكاليفها، فلا يوجد دور مجاني فى التاريخ.

من السويس حيث تأميم قناتها وخوض حرب غير متكافئة مع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بالإضافة لإسرائيل، إلى دمشق حيث أول وآخر مشروع وحدوي عربي لم تغب القضية الفلسطينية عن حركة الأحداث الكبرى.

قاتلت مصر حتى تمكنت من عبور الهزيمة العسكرية في السادس من أكتوبر (1973) غير أن نتائجها السياسية تناقضت مع بطولاتها العسكرية، وأن الذين عبروا على الجسور لم يكونوا هم الذين جنوا جوائزها.

كان أخطر ما تمخضت عنه اتفاقية “كامب ديفيد” عزلة مصر عن عالمها العربي، وتآكل أوزانها في إقليمها وقارتها وعالمها، وسيادة لغة تستهجن الانتماء العربي، أو أي دفاع عن القضية الفلسطينية.

بدت تلك نكبة سياسية كاملة أسست لغياب أية مناعة في العالم العربي.

كانت الحرب الأهلية اللبنانية عام (1974) إحدى تبعات الخروج المصري من الصراع العربي الإسرائيلي.

احتلت بيروت من القوات الإسرائيلية عام (1982)، لكنها نهضت لتقاوم بسلاح أبنائها في حروب تتالت حتى الآن.

وكان الاجتياح العراقي للكويت مطلع تسعينات القرن الماضي مصيدة أخرى أذنت بانهيار النظام الإقليمي العربي وعجزه شبه الكلي عن مواجهة تحدياته.

أفسح المجال تاليا لاحتلال بغداد عام (2003).

بانهيار مشرق العالم العربي دخل الأمن القومي كله في انكشاف تاريخي توارت خلفه القضية الفلسطينية وبات مطلوبا التخلص من صداعها.

بدا الحديث يتصاعد عن شرق أوسط جديد وتعاون إقليمي دون ربطه بتسوية القضية الفلسطينية، قضية قضايا المنطقة.

ثم جاءت اتفاقية “أوسلو” لتعلن نكبة أفدح بآثارها السلبية على وحدة الشعب والقضية.

في كل أزمة مصيدة وعند كل منحنى نكبة.

بتداعى الانهيار في النظام العربي أمكن الحديث عن توسيع “كامب ديفيد” ودمج إسرائيل في معادلات المنطقة دون أدنى التزام بأية تسوية للقضية الفلسطينية.

كل شيء مقابل لا شيء.

اختلت المعادلات والحسابات حتى وصلنا إلى احتلال الجانب الفلسطيني من معبر رفح بالدبابات وطرح سيناريوهات متعددة لإدارته تحت الحماية الإسرائيلية في خرق صريح لاتفاقية “كامب ديفيد”.

كان الرفض المصري حاسما والدعم العربي حاضرا في هذه القضية، غير أن ذلك لا يكفي لردع التغول الإسرائيلي.

لا بد أن تلوح مصر بتجميد “كامب ديفيد”، وأن نكف عن التأكيد بمناسبة وبدون مناسبة أنها خيار استراتيجي!

كأى اتفاقية بين طرفين، الالتزام لا بد أن يكون متبادلا.

التهاون فى لغة الخطاب يغرى بخرق كل القواعد والاستهانة بكل الاعتبارات.

إذا ما كانت هناك قيمة تاريخية للسابع من أكتوبر (2023) فهو إحياء القضية الفلسطينية من تحت رماد النسيان المخيم والتراجع الفادح.

لو أن العالم العربي على شيء من التماسك والمنعة لأمكن دعم وإسناد أهل غزة بأكثر من بيانات الشجب والإدانة، ودعوة الآخرين في العالم أن يفعلوا شيئا دون أن نقدم نحن على أي شيء تستحقه التضحيات الهائلة، التىي تبذل حتى ترفع فلسطين رأسها وتؤكد أحقيتها بتقرير مصيرها بنفسها.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

نتنياهو وأوشفتز… ورقة الشفقة ومذكرة الاعتقال

نشرت

في

صبحي حديدي:

ذكرت تقارير صحفية إسرائيلية، تضافرت مع أخرى بولندية، أنّ رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يعتزم السفر إلى بولندا للمشاركة في إحياء الذكرى الـ80 لتحرير معسكر أوشفتز النازي، جنوب بولندا، والذي اقتحمه الجيش الأحمر السوفياتي في 27 كانون الثاني (جانفي) 1945.

صبحي حديدي

قرار نتنياهو نجم عن خشية جدية حيال احتمال مبادرة قاضٍ بولندي ما إلى طلب توقيفه، تنفيذاً لمذكرة الاعتقال التي أصدرتها بحقه المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة؛ خاصة أنّ نائب وزير الخارجية البولندي صرّح بأنّ بلاده موقّعة على النظام الأساسي للمحكمة، وتلتزم به. رئيس دولة الاحتلال سوف يغيب أيضاً عن الذكرى، وسيكون وزير التربية هو ممثل الكيان الوحيد، في محفل دولي يُنتظر أن يتقاطر إليه عشرات من زعماء الغرب والعالم.

هذه الواقعة ليست سوى نزر يسير من أثمان مستحقة جراء حرب الإبادة الإسرائيلية، المتواصلة ضدّ قطاع غزّة منذ 443 يوماً متعاقبة؛ أفلتت دولة الاحتلال من العقاب في تسعة أعشارها، بسبب تواطؤ الدول ذاتها التي ترفع راية شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي، ولا ترى في جرائم الحرب الإسرائيلية سوى حالة “دفاع عن النفس”. لكنه ثمن ليس بالرخيص على الاحتلال ومجموعات الضغط الصهيونية في طول العالم وعرضه، بالنظر إلى المكانة الرفيعة التي حظيت، وتحظى، بها ملفات الهولوكوست واحتكار موقع الضحية عموماً؛ وهذا المعسكر تحديداً، دون سواه أو بصفة امتيازية، في استدرار عطف الشعوب والرأي العام، والضغط على الحكومات والهيئات والمؤسسات استطراداً.

كانت أوشفيتز وصمة عار، وجريمة نكراء بحقّ الإنسانية جمعاء، وصفحة دامية سجلت محطات انحطاط سوداء في قلب الفكر السياسي الأوروبي وفصوله التنويرية الزائفة والعنصرية؛ لكنّ إعفاء الصهاينة من التوطئة لها، والتواطؤ فيها وعليها مع النازيين، لا يضيف الإهانة إلى جراح الضحايا اليهود أنفسهم فقط؛ بل يواصل إنتاج وإعادة إنتاج السيرورة الشنيعة لانقلاب الضحية الإسرائيلية إلى جلاد ضدّ الضحية الفلسطينية.

في سنة 1993 أحيت الإنسانية الذكرى الخمسين لانتفاضة غيتو وارسو، بحضور إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، الذي حرص قبيل سفره على تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى “غيتو فلسطيني” قسري. وأمّا مارك إيدلمان، اليهودي الوحيد الذي نجا من ذلك الغيتو، فقد أعلن أنه سئم المقابلات الصحفية والتصريحات الجوفاء: “ما جدوى غربلة الماضي إذا كنّا قد فشلنا في تعلّم دروسه؟ الغرب ما يزال يضع الخطط الستراتيجية في المرتبة الأولى، ويفضّلها على الأرواح البشرية. ما يجري في يوغوسلافيا اليوم هو انتصار لهتلر وهو في قبره، والغرب يكرّر أخطاء الماضي مثل تكراره بلاغته الكاذبة ونفاقه الفاضح!”.

فكيف لو أنّ إيدلمان عاش إلى أيامنا هذه، وأبصر جرائم الحرب الإسرائيلية والتجويع والتطهير العرقي وقصف المشافي والملاجئ والمساجد والكنائس، بأيدي أحفاد ضحايا غيتو وارسو ومعسكرات أوشفتز وتريبلنكا وبوخينفالد وداخاو…؟ أو إذا شاء فتح فضائح اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب الـ “ماباي”، حزب بن غوريون)؛ الذي تعاون مع النازيين خلال سنتَي 1944 و1945، لشحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، مقابل تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين؟

وقد يجد نتنياهو بعض العزاء في السفر إلى بلد مثل الولايات المتحدة لا يعترف بالمحكمة الجنائية إلا إذا طالت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو إلى بلد مثل هنغاريا يعترف بالمحكمة ولكنه يلقي بمذكراتها إلى سلّة المهملات، أو حتى إلى فرنسا بلد حقوق الإنسان التي صادقت على المحكمة ولكنها أفتت بأنّ نتنياهو يمتلك حصانة ضدّ قراراتها…

يبقى الأصل، مع ذلك، أنّ مذكرة الاعتقال أسقطت الكثير من امتيازات ورقة أوشفتز واحتكار موقع الضحية.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

دمشق وما بعدها… “سايكس ـ بيكو” الجديدة؟

نشرت

في

عبد الله السنّاوي

إثر سقوط دمشق في قبضة “هيئة تحرير الشام”، التى تدمغ دوليا بالإرهاب، تبدت مخاوف وتساؤلات عما إذا كانت المنطقة العربية كلها، لا سوريا وحدها، على وشك إعادة رسم خرائطها من جديد.

عبد الله السنّاوي

أشباح التفكيك تخيم على الشرق العربي كله، العراق ولبنان والأردن في عين الإعصار، والقضية الفلسطينية على المحك، أن تكون أو لا تكون، ومصر غير مستبعدة إذا ما جرى تهجير قسري من غزة إلى سيناء.

عادت مجددا إلى واجهة الأحداث اتفاقية “سايكس- بيكو” (1916)، التي استهدفت عند ذروة الحرب العالمية الأولى تقاسم النفوذ في المشرق العربي بين الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية عندما بدا أن الإمبراطورية العثمانية توشك أن تنزوي للأبد.

فى عام (1920) سلخ ما سمى بـ”لبنان الكبير” من الأراضى السورية بذريعة حماية الأقلية المارونية، ثم نزع “لواء الإسكندرون” في مقايضة فرنسية تركية قبيل الحرب العالمية الثانية مباشرة.

بإرث التاريخ: استهداف سوريا وجودا ودورا لا يتوقف.

بحقائق اللحظة: سلخ حلب غير مستبعد إذا ما توافرت الظروف المشجعة.

دخلت إسرائيل على خط توزيع المغانم.

بتصريح واضح وصريح أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنه بصدد بناء “شرق أوسط جديد”، خرق اتفاقية (1974) لفض الاشتباك مع سوريا، التى وقعت إثر حرب أكتوبر (1973). استولى على المنطقة العازلة، وجبل الشيخ بالغ الأهمية الاستراتيجية. جرد سوريا من قوتها العسكرية، طائراتها وأسطولها البحري ومخازن سلاحها ومراكز أبحاثها بمئات الغارات دون أدنى إدانة من حكامها الجدد. توغلت قواته إلى (25) كليومترا جنوبي دمشق ليعلن أنه طرف مباشر في لعبة تقاسم النفوذ، التي بدأت باتصالات ومشاورات وضغوطات دولية وإقليمية تتصاعد وتيرتها.

لم تكن هذه المرة الأولى، التي تطرح فيها مخاوف التقسيم على نطاق واسع ومنذر بتداعياته وعواقبه على مستقبل الوطن العربي ومصيره.

عند سقوط بغداد عام (2003) طرحت نفس المخاوف، لكنها الآن أخطر وأفدح. يقال عادة: “ويل للمهزوم”. وقد تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب في جنباته، لكن الهزيمة شملت بالوقت نفسه الوطن العربي كله.

كان احتلال بغداد نقطة تحول مفصلية استدعت مشروعات الشرق الأوسط الجديد وسيناريوهات التقسيم لصالح إعادة تمركز إسرائيل في قلب تفاعلاته.

الآن: خرج الدور الإسرائيلي من ظلال الكواليس إلى مقدمة المشهد. لم يكن غامضا الهدف الحقيقي من احتلال العراق. كان تحطيمه على رأس الأولويات بالنيل من وزنه الجغرافي الاستراتيجي في مشرق الوطن العربي والاستيلاء على موارده النفطية، حتى لا تكون هناك في المنطقة قوة عسكرية واقتصادية قادرة على منازعة إسرائيل.

تتجاوز الأدوار التركية والإسرائيلية تصفية الحسابات مع النظام السوري، ومنع تهريب السلاح عبر الحدود للمقاومة اللبنانية، إلى إعادة رسم معادلات النفوذ.

لم يكن ممكنا الادعاء بأن صدام حسين هو الديكتاتور الوحيد، ولا نهايته شابهت السيناريو السوري، حيث كان السقوط مدويا بلا طلقة رصاص واحدة! عند سقوط بغداد طرح سؤال: مَن التالي؟ انطوى ذلك السؤال على اعتقاد بأن النظم العربية جميعها استهلكت أدوارها ووجوهها، وأصبح وجودها عبئا استراتيجيا مخيفا على حقوق المواطنين العرب في العدل والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، فأمن الحاكم فوق أمن المواطن، وبقاء العروش فوق حقوق المواطنين.

السؤال نفسه يطرح مجددا فى ظروف مختلفة: أين الضربة المقبلة؟ عند احتلال العراق طرحت سيناريوهات “الشرق الأوسط الجديد”، التى بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية “كوندوليزا رايس”، المجال العام في الدول العربية، خشية إعادة رسم خرائطها بإثارة النزعات الطائفية أو العرقية، أو الغزو المباشر إذا اقتضى الأمر.

بثمن باهظ دفعه العراق، لم يأخذ سيناريو التقسيم مداه، فشل إعلان دولة كردية بالانفصال، ولم تنشأ دولتان على جثته، إحداهما سنية والأخرى شيعية، لكنه ما زال يعاني حتى الآن من مغبة ما حدث.

في الحالة السورية الحسابات تختلف. لم تسقط دمشق بغزو أجنبي، لكن الدور الخارجي واضح ومؤكد. بدا ملفتا ما صرح به زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولانى أنها لم تحصل على تمويل، أو سلاح من أية دولة، وأن القوات التي وصلت إلى دمشق “سورية خالصة”.

كان ذلك تدليسا على الحقيقة ومحاولة يائسة لإخفاء القوى، التي أعدت المشهد وهندسته لأهداف سياسية تدخل في صميم مصالحها، تركيا وإسرائيل تحديدا.

لم يكن بشار الأسد هو موضوع الصراع، كما كتبت طويلا وكثيرا. إنها سوريا دورا ووجودا قبل أي اعتبار آخر. استحق “الأسد” السقوط حين رهن بقاءه على قوة الآخرين لا على قدرات شعبه وإرادة الحياة والمقاومة فيه.

في الأزمة السورية وصلت المفارقات الأمريكية إلى ذرى غير معتادة في السياسات الدولية.

دعا الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” إلى محاسبة أركان نظام “الأسد” على ما ارتكبوه من جرائم بشعة بحق معارضيهم.

هذا كلام له منطق متماسك يسوغه، لكنه يفتقد أدنى احترام لأية قيمة إنسانية وقانونية إذا ما وضع في سياق واحد مع رفضه القاطع لمذكرتي إيقاف “نتنياهو” ووزير دفاعه السابق “يوآف جالانت” بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة والتلويح بعقاب المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرتهما. كانت تلك مفارقة كبرى فى النظر إلى العدالة الدولية.

المفارقة الثانية، الاستعداد المبكر لرفع اسم “هيئة تحرير الشام” من قائمة الإرهاب الأمريكية دون أدنى استبيان لحقيقة مواقفها ومدى التزامها بقواعد الدول الحديثة.

إنها المصالح الاستراتيجية، التي تأخذ ما تريده إسرائيل في كل حساب، ولا تأبه بما يحقق أية مصلحة عربية.

إذا لم يستفق العرب في الوقت بدل الضائع فإن أشباح “سايكس- بيكو” الجديدة سوف تأخذ مداها تقسيما فوق الخرائط.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

شيء من الثقة

نشرت

في

وفاء سلطان:

يقول الاستراتيجي والباحث في مجال العلاقات العامة، البروفيسور الأمريكي David Horsager

Everything takes longer and costs more

when trust is low

(كل شيء يأخذ وقتا أطول ويكلّف أكثر، عندما تضعف الثقة)

وفاء سلطان

عندما تضعف الثقة؟!!

فما بالك عندما تنعدم، على صعيد العلاقات العامة والشخصية، ومنذ زمن ضارب في عمق التاريخ،

ولم يعد أحد يستطيع أن يحدّده؟!

المراقب لمجتمعاتنا من خارجها، وطبعا هو الأصدق لأن السمكة لا ترى الماء الذي تسبح فيه، يراه مستنقعا من الجثث المتناحرة، وأشرس أنواع التناحر تلك التي تقع بين الموتى،

فالأحياء لا يتناحرون، لأنهم يدركون قيمة الحياة، ولديهم ما يخشون أن يخسروه!

نعم نزعتك العدائية والهجومية تكون على أشدها عندما لا تملك شيئا تخاف عليه،

وليس إلا الموتى من يفقدون كل شيء

أيضا، وللوهلة الأولى، يرى ذلك المراقب أسبابا دينية وطائفية وعرقية وإثنية وسياسية (وسمها ما شئت) وراء ذلك التناحر، لكنه عندما يدقق أكثر بغية أن يغرز رأس الدبوس في قلب المشكلة، يراه تناحرا بين الإنسان ونفسه،

لأن كل الأسباب السابقة مجتمعة سلبته الثقة بينه وبين تلك النفس!

إنسان سوريا تحديدا، بغض النظر عن أصله وفصله، أصبح مخلوقا شبه بشري، ومجردا من أي أثر للثقة بغيره، ناهيك عن ثقته بنفسه

لا يمكن أن يستعيد ثقته بغيره أو بنفسه إلا إذا فتح قلبه للكون ولكل من فيه

ومن المستحيل أن يقدر على فتح قلبه ما لم يقفل على إلهه داخله

دع إلهك يغيّرك،

وليس من شأنك أن تحشره في حلقوم الآخرين..

الأوطان تحتاج إلى ثقة أبنائها، ولا يمكن أن تتوفر الثقة

عندما تتصارع الآلهة

أكمل القراءة

صن نار