تابعنا على

جور نار

الآتي… الذي قد يواتي (9)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

فاعلو العشرية السوداء كابروا وما زالوا يكابرون في تقييمها… أصلا لا يعتبرونها سوداء ولا فاشلة ولا أجرموا ولا أخطؤوا ولا تابوا… بل هم مثل مغنيات الدرجة الرابعة اللائي حين يسألهن سائل عن أكبر عيوبهنّ يقلن: طيبة قلبي…

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

هم يرونها مرحلة انتقال ديمقراطي، ومرحلة حرية غير مسبوقة (ولا ملحوقة) ويرون أنهم إن أخطؤوا ففي التعامل الديمقراطي المفرط مع خصومهم… وينسبون تلك الأخطاء إلى قلة خبرتهم، وإلى تركة ثقيلة، وإلى مؤامرة خارجية لم ترضها “التجربة التونسية الفريدة في كامل المنطقة” … وما زالوا يتحدثون عن ثورة ويرون أنفسهم ثوريين وعن استبداد قاوموه وظلّ متربصا إلخ … ولكن وعلى طريقة ناعورة الريح والباطنية التي ينتهجونها، لا غرابة في أن يباغتوك فرديا أو جماعيا، بتغيير الدفة 180 درجة… وقد لمسنا عينات من ذلك في الزمنين القريب والأبعد… هؤلاء حادث عارض في تاريخنا الطويل، حادث مؤسف مهلك يقطر دما، ولكنه يبقى عارضا… وأهمّ منه ومنهم، سؤالنا المضني عن البلد بعد أن يلفظهم نهائيا كسائر الأوبئة التي قاومناها من رمد الستينات إلى كورونا السنين الأخيرة… بعد هؤلاء، كيف يستعيد التونسيون تونس، ويضمنون فعلا أن لا عودة إلى الوراء … إلى عشرية الظلام وكذلك إلى عشريات بائسة أخرى أوصلتنا بالحتم إليها؟…

نظامنا التونسي كان محدودا وكنا نعرف حدوده… لذلك اشتغلت جامعات وجامعيون على تحرير الفكر وصياغة إنسان جديد … كان القرمادي وبكار وبوحديبة واليعلاوي وجعيط والزغل والهرماسي والشرفي والشنوفي وبالعيد وغيرهم، يجهدون النفس لكي يصنعوا نخبة جديدة أفضل منهم… تماما كما يتعب الآباء كي يكون أبناؤهم أحسن حالا… لذلك وحتى حين كان بعضهم ينشط في الحزب الحاكم ويذلّ نفسه كي يبقى في مكانه، كان في ذات الوقت يدرّسنا معاني الحرية والكرامة والرأي المستقلّ… وكشهادة للتاريخ… عبد الوهاب عبد الله مثلا كان كسياسي، جزءا من المنظومة وقل فيه ما تشاء… ولكنه كجامعي كان يسند أضعف الأعداد لمن يتملّق أو يدبّج الكذب والزور، وكان يبتهج حين يجد طالبا شجاعا يقدّر العلم ويصدع بالحقيقة، فيكافئه بأفضل عدد … كان يدرّسنا القانون الدستوري، وكنا نخلط أحيانا بين هذه المادة وبين الحزب الدستوري فإذا أستاذنا الجليل بالمرصاد … والمعصار أيضا… وإليه تنسب تلك الجملة تجاه طالبة مغناج ذات امتحان (تريدين موعدا؟ إذن فليكن في سبتمبر)…

مستقبل تونس أن يصبح اليمين يمينا واليسار يسارا وأن يحافظ كل على لونه وخصوصياته ويعمّق ثقافته هناك إن لم يعمق مصالحه… الوسط كذبة كبيرة وادعاد أكبر وجبن أكبر وأكبر… لماذا يضطروننا إلى تعريف ما هو معروف، بل التذكير لمن غزا رؤوسهم زهايمر؟ … لماذا يخجل اليميني من أن يقول أنا مع امتلاك الأفراد للثروات، أكثر ما يمكن من الثروات؟ ومع أقل ما يمكن من الدولة وأكثر ما يمكن من حرية المبادرة بلا قيود ولا حدود ولا أوراق؟ ومع جولان رأس المال بين المدن والولايات والبلدان بأقل ما يمكن من رسوم أو ضرائب أو جمارك أو إجراءات حمائية؟ … هذا رأيهم ـ أي اليمين ـ في كل العالم، وليس رأيي …

ولِمَ يخجل اليساري من القول أنا يساري على منهج ماركس ولينين وماو والثورة الثقافية؟ لماذا خفت صوت المتكلمين باسم الاشتراكية (ولم نقل “شيوعية” أستغفر الله !) … بل وأصبح حتى طارحو البرامج الديمقراطية الاشتراكية (وهو تيار محترم في كل الدنيا، وكان لنا منه في تونس حزب عريق اختفى الآن) … استبدل هؤلاء الاشتراكية بالمجتمع وأصبحوا يتحدثون عن الديمقراطية الاجتماعية … هل كانت موضة ستينات وسبعينات ثم انهارت مع الاتحاد السوفياتي؟ هل كانت قناعات أم تبعية لسفارات؟ … الاشتراكية نظام له أيضا قدره ومزاياه ولولاه لبقيت روسيا مزرعة شاسعة للفقر وفلاحة التخلف والعبودية، ولما أصبحت الصين دولة متطورة مهابة بعد أن كانت سوقا محتلة وحقل أفيون…

قلت لماذا يخجل اليساريون ويتبرؤون من الصفة ومن مفردات فكرها؟ ليست المسألة إيديولوجيا بقدر ما هي شرائح وطبقات تبحث هي الأخرى عمن يتبناها ويبرمج للدفاع عن مصالحها… السياسة مصالح، أوكي؟ … إذن فإذا كان اليمين مجندا في أي مكان للدفاع عن طبقة البورجوازية وكبار الأثرياء ومن يلحقهم من رجال دين وثقافة وإدارة وقانون ودبلوماسية وأشغال عامة وتهيئة ترابية إلخ … فمن يتولى الدفاع عن مصالح من في غير هذا الصف؟ العمال مثلا وصغار الفلاحين وصغار الموظفين والباحثين عن شغل والأقليات وسكان الأحياء الفقيرة المكتظة ومدن الداخل المهمشة؟ ومن يدافع عن القطاعات غير المنتجة عاجلا ولكنها تستثمر على البعيد في الأجيال والقيم والبيئة السليمة ومستقبل كل هذا؟ من يدافع عن قطاعات اجتماعية كالتربية والثقافة والفنون والأسرة والمرأة والطفولة والمسنين والمشردين وذوي الاحتياجات الخاصة؟

الكل طبعا يزعم تبني هذه الملفات ويصدع رؤوسنا بذلك في كل مهرجان انتخابي… ولكن عند الممارسة يعود الجميع إلى قواعدهم ولا يصح إلا الصحيح… لذلك لم تتحرك حالنا كثيرا ولم يتحقق من المكاسب إلا القليل مما يمكن أن يسقط لأقل هبة ريح … فيما في البلدان التي يلتزم فيها كل لون سياسي بمربّعه الطبقي والمصالحي، تجد إنجازات مهمة جدا اجتماعيا حين يصعد اليسار في هذا البلد الأوروبي أو ذاك، وتجد إعفاءات ضريبية واكتساحا للأسواق ودفعا لطاقة الإنتاج حين يتبوأ اليمين سدة الحكم … حتى في البلاد التي لا تعترف أصلا بصطلح اليسار بل وتجرّمه حرفيا كالولايات المتحدة وبريطانيا، تتناول أحزاب ذات ميول اجتماعية (كالديمقراطيين في أمريكا، والعمال في بريطانيا، والاشتراكيين لزمن طويل في فرنسا وإسبانيا وغيرهما) …

لقد تلعثمنا طويلا في السبعين سنة الأخيرة وجربت نخبنا كل الإيديولوجيات والنعرات والولاءات والزعامات والنرجسيات… ولم ينتج عن ذلك سوى الخراب الذي وصلنا إليه، ولم يحدث ذلك الاستقرار الذي لطالما تشدق به إعلامنا الرسمي … لم يستقر أحد في السلطة ولا في معارضتها … نصف جماعة برسبكتيف التحقوا بحزب الدستور وجزء من الدساترة أعلنوا التمرد في 71 ولا حديث عن نقابيين عديدين باعوا الذمة ولا عن رابطيين أصبحوا خصوما لحقوق الإنسان … بعضنا يقرؤها انتهازية وبعضنا يراها تصفية في سباق وبعضنا يحكي عن خبزة الأولاد… ولكن ذلك لم يكن ممكنا بهذه السهولة لو رُسمت حدود بائنة عميقة بين فكر وفكر… حدود تمد عروقها منذ الطفولة والسلالة والمنطقة بكاملها… في أوروبا وأمريكا هناك عائلات تصوّت لليمين منذ الجد الرابع أو الخامس، كما هناك ولايات معروفة تقليديا بميولها العمّالية أو الاجتماعية ويستمر ذلك لقرن وأكثر…

لذلك لم يعش أي حزب في بلادنا أطول من عمر باعثه أو رئيسه المزمن… وتكاثرت عندنا الأحزاب والتيارات ولو أحصينا ذلك منذ حركة الشباب التونسي إلى اليوم لأرسينا ربما على آلاف … ما بين علني وسري ونظري وفعلي ومقيم ومهاجر وجامعي ومدني وذي عدد كبير وما لم يتجاوز أفراده عبوءة سيارة لواج… أمم أمم، كما قال مظفّر… غير أن الدوّامة قد يأتي يوم وينتهي دورانها ونرتطم أخيرا بشاطئ الأمان أو حجر الوادي… وقتها سيكون مطروحا علينا أن نعود إلى الأصول والاختيار بين لونين أو ثلاثة على الأكثر…

وبالنظر إلى تاريخنا المعاصر وما اعتملت فيه من اجتهادات، يبدو أن القسمة ستكون بين تيار دستوري لو يجد من يطوّره ويعطيه مصل الحياة ليحمل راية الفكر اليميني الليبرالي … وهو الأقرب لذلك منذ قيامه سنة 1920 على أساس أنه “حر” لا بمعنى التحرر بل بمعنى الليبرالية حيث كانت ترجمة اسمه بالفرنسية آنذاك (Parti Libéral Constitutionnaliste)… ومن جهة أخرى، نشأ في نفس المدة تيار اشتراكي ونقابي من رموزه محمد علي الحامي ومختار العياري وعلي جراد وبلقاسم القناوي وغيرهم ممن أسسوا لحركة تقدمية تداخلت في بعض الأحيان مع الطيف الدستوري حين كان الفرز وطنيا لا طبقيا … ونعرف كيف انتهى “شهر العسل” الوطني مع قمع الحزب الشيوعي وحظره سنة 1963، ثم مع مؤتمر بنزرت الذي جرّم التعددية رسميا بعد سنة، ثم مع انشقاق اتحاد الشغل برمّته سنة 1977… وها أن التياران ما يزالان على قيد الحياة (الدساترة واليسار) إلى اليوم رغم أعاصير الزمن … وهو ما يثبت أن تونس لم تهضم بعد كل هذه الحقب سواهما، شأنها شأن اي بلد آخر في الحقيقة…

ولكن وبما أن المحن تراكمت والجراح أثخنت بما يكفي، وبما أن العودة إلى الأصول هي البوصلة التي يعود إليها كل ملاّح تائه، فإن من هذه الأصول التي يعاد إليها وقد ذكرناها منذ قليل، الفرز الوطني… أحادية الولاء للنجمة والهلال… نعم، حدث ذلك أيام الاستعمار، وها هو يعود بقوة أكثر في زمن تهديدات أبعد من الاستعمار القديم خطرا وخطورة… وهذه هي الأرض التي سيقف عليها ورثة الحركتين الدستورية و اليسارية، ودونها لاجدوى من أي بناء … وطنيون أولا، دستوريون وماركسيون وقوميون وحتى زرادشتيون بعد ذلك، لا يهمّ… وهذا أيضا ما نجده في المشهد السياسي لأي بلد ديمقراطي ودولة عصرية تحترم ذاتها في عالمنا الحديث… وهذا ما تصاغ به الدساتير وتملى الشروط وينطق القضاء ويقع القبول أو الإقصاء… من الدولة والمجتمع أيضا…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

هل يقود ترامب العالم… وهو في حالة سكر؟!

نشرت

في

محمد الأطرش:

غريب أمر ساكن البيت الأبيض!

دونالد هذا وفي مكالمة هاتفية مع فلاديمير بوتين استغرقت ساعة ونصفا، صدم الأوروبيين وأذهلهم وسحب البساط من تحت اقدامهم وهم يغطون في نوم لا يعلمون…

دونالد اتفق مع فلاديمير على فتح مفاوضات فورية تهدف إلى نزع فتيل الحرب بين روسيا وأوكرانيا وسيكون ذلك في لقائهم المرتقب في الرياض خلال الأيام القليلة القادمة… دونالد هذا لم يُعلم الاتحاد الأوروبي ولو بالإشارة… ولم يلتفت حتى إلى ما يردده قادة أوروبا حين صرحوا وأعادوا وكرروا أنه “لا يجب التفاوض بشأن أوكرانيا دون الأوكرانيين”… والأغرب من هذا أيضا هو ما قاله وزير دفاع العمّ سام في وقت سابق من نفس اليوم الذي التقى فيه دونالد بفلاديمير هاتفيا… وزير دفاع الماما أعلن أن بلاد العمّ سام لا تعتبر انضمام أوكرانيا إلى الناتو أمرا “واقعيا”… وأضاف أنه من الوهم التفكير أن كييف ستستعيد ولو شبرا واحدا من الأراضي التي احتلتها أو استرجعتها روسيا منذ عام 2014، ولن ننشر قوات أمريكية في أوكرانيا لضمان أمنها بعد إعلان نهاية الحرب الدائرة حاليا بين الطرفين الروسي والأوكراني…

إذن، ذهلت أوروبا مما يفعله دونالد وصدمت من سرعته في تنفيذ ما جاء به في برنامجه الانتخابي… ألم يصرخ عاليا بأنه عائد إلى البيت الأبيض من أجل “أمريكا أولًا”… لكن هل سينجح الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال يصرّ على أن يكون له مقعد في كل مفاوضات تخصّ الصراع الجاري بين موسكو وكييف، في الحفاظ على دوره في الصراع الروسي الاوكراني رغم محاولة ترامب وبوتين سحب البساط من تحت أقدامه لغايات لا يعلمها غير ساكن البيت الابيض؟ … وماذا سيكون موقف كييف من كل ما أتاه دونالد هل ستقبل بالأمر وتتخلى عن الاتحاد الأوروبي لذي دفع من أجلها حوالي 50 مليار يورو كمساعدات عسكرية وغيرها منذ بداية الصراع العسكري بينها وبين ساكن الكرملين…؟؟ ماذا لو استسلمت كييف لما يريده دونالد وفلاديمير وهربت بجلدها من صراع قد يعيدها إلى حاضنتها الأولى روسيا صاغرة لا تقوى على شيء؟؟ والسؤال الخطير هل بإمكان الأوروبيين مساعدة كييف وضمان أمنها والوقوف في وجه بوتين بعد انتهاء الصراع الحالي دون مساعدة واشنطن، وهل للأوروبيين القدرة على ارسال جنودهم دفاعا عن كييف إن اشعلت روسيا فتيل الحرب مرّة أخرى؟؟؟

جزء كبير من الدول الأوروبية متخوف من التقارب الأمريكي الروسي الأخير فقد يكون على حساب امنهم واستقرار القارة العجوز… فدونالد قد يضمر شرا بالاتحاد الأوروبي ويحاول تفتيته بعد ان نجح من سكنوا البيت الأبيض قبله في تفتيت الاتحاد السوفييتي… ولا غرابة في ذلك فشعار دونالد اليوم وغدا “أمريكا أولًا”، يتجاهل أوروبا وتحالفه معها… كما أن التقارب بين الكرملين والبيت الأبيض قد يبعد موسكو بدورها عن بيكين… وهو هدف قد يكون في قائمة أهداف دونالد التي يضمرها للعالم ولكنه أيضا سيضعف حلف الناتو وقد يجبر الدول المكوّنة للاتحاد الأوروبي على إعادة النظر في سياساتها الدفاعية… فهي لا تقوى على حماية نفسها دون العمّ سام وقد تختار الانصياع إلى سياسات الابتزاز التي قد ينتهجها دونالد لإنقاذ اقتصاد الماما الذي وصل إلى وضع مخيف… فبعد أن أظهر دونالد لامبالاته مما قد تعانيه أوروبا اقتصاديا نتيجة للضرائب التي ينوي فرضها على صادراتها… وبعد أن وصل الأمر إلى دعوة صريحة من بوتين لدونالد لزيارة موسكو واستعداد موسكو أيضا لاستقبال المسؤولين الأمريكيين في إطار ما يبذله الجميع من جهود لإيقاف الحرب بين موسكو وكييف… وبعد ما جرى ويجري في ملف تهجير سكان غزّة… هل يمكن القول بأن دونالد مقدم على تغيير المشهد السياسي والاقتصادي العالمي جملة وتفصيلا، محاولا بذلك إعادة الماما إلى مجدها السابق وسطوتها التي فرضتها على الجميع منذ الحرب العالمية الثانية؟

خلاصة ما يجري، نحن أمام تطوّر سريع ومخيف وخطير للخريطة الجيوسياسية الجديدة للعالم… فهل ما يفعله دونالد هو استهداف لروسيا أم لأوروبا أم للصين؟ أم هو استهداف للجميع لتبقى الماما فوق الجميع…؟؟ وكأني بدونالد يبتز الجميع بشعار “ادفعوا بالتي هي أحسن لأحميكم”… ألم يفاخر بحماية دول الخليج من حاكم قُم … ألم يفاخر بحماية أوروبا من ساكن الكرملين أيضا؟؟؟

 أخيرا …ألا يمكن التأكد من حالة دونالد، ألا يمكن أن يكون في حالة سكر؟!!

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة رقم 106

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

قبل سرد تجربة ذاتية عشتها في اواسط 2003 لابدّ من الاشارة الى امر في منتهى الاهمية… ما دوّنته في كل الورقات منذ اولاها الى اخرها هو مجرّد محاولة لتوثيق ما عشته وما عاشه جيلي… والورقة هذه عدد 106 ونظرا إلى خصوصية ما سيرد فيها لا تخرج عن هذا الاطار…

عبد الكريم قطاطة

اذن لن اكون فيها لا منظّرا ولا عالما ولا مفتيا… ساتحدّث عن علاقتي بالله وبالدين وبرجال الدين كيف نشأت وماهي القناعات التي وصلت اليها… مرّة اخرى هي تجربة شخصية للتوثيق والاطلاع فقط… ومهما كانت مواقفكم في تعاليقكم فانا لن اجادل ايّ واحد منكم… ساحترم كل الاراء واقف عند ذلك الحدّ… دعوني في البداية اذكّر انّي وقبل مارس 2003 كانت علاقتي بالدين هشّة للغاية (عبادات ومعاملات)… لعلّ مردّ ذلك تاثّري بمن درّسوني في سنة الباكالوريا حيث كانوا في جلهم اما يساريين او قوميين… انا كنت من الذين يعيشون فترة الحيرة بين الشك واليقين… وحياة اللهو التي عشتها كانت تميح بسفينة فكري الى عدم الخوض في كينونتي دينيّا… ولكن كنت ميالا الى الفكر اليساري رغم امتلائي داخليا بوجود الله… وكنت اكتفي فقط بذلك…

يوم وقعت تسميتي على رأس مصلحة الانتاج التلفزي وكما اسلفت في الورقة الماضية ابتعدت عن اجواء الاذاعة وعن ناسها عموما… ويمكن القول اني عشت لمدة 6 اشهر دون مشاحنات مع مديري سي عبدالقادر رحمه الله… لم اناقش معه كل حقوقي (كرئيس مصلحة) التي حرمني منها كالخط الهاتفي المباشر… رغم انّ زملائي في قسم الهاتف كانوا لا يتأخرون لحظة واحدة في تمتيعي بايّ رقم اطلبه، متجاهلين توصيات المدير وأتباعه بحرماني من الهاتف وبمدّ الادارة باسماء كل من يتصل بي… كذلك تم حرماني من جريدتي اليومية التي توقف مجيئها… وحتى المكتب المخصص لي كمن سبقوني في رئاسة مصلحة الانتاج التلفزي، وقع غلقه ووجدتني في مكتب هو حجما كالحكّة ومكانا بجانب المراحيض… لم اناقشه في قراراته لانّ همّي الوحيد انذاك ان اعيش بعض السلام الداخلي…

بعد مرور اسبوعين على انتقالي من مبنى الاذاعة ومن مكتبي هنالك الى مبنى وحدة الانتاج التلفزي وشبه مكتبي هنالك، اصبحت عاطلا عن ايّ نشاط… ولكن بمرتب رئيس مصلحة لا مهامّ ولا شغل له… ذات يوم وانا في مكتبي ذاك خطرت ببالي فكرة اردت من خلالها قتل الوقت لا غير لانّ اصعب عمل في حياة الفرد ان لا يعمل… قال يومها عبدالكريم الباهي لعبدالكريم الخايب: ألست ابن شعبة الآداب ؟ الم تكن من الذين اكلت وبِنَهَمٍ شديد مجموعة من الكتاب كغاوي مطالعة؟ الم تبدا علاقتك بكتب المطالعة منذ الخامسة ابتدائي؟ الم يقل فيك استاذك سي محسن الحبيّب اطال الله عمره وهو مدرّسك سنة الباكالوريا كلاما كثيرا في كتابه (وقال قلمي)، وتحدث عنك بفخر واعتزاز كاحد تلامذته النجباء حيث كنت تلتهم الكتب التهاما مما جعل ذخرك زاخرا معرفيا .؟

وواصل عبدالكريم الباهي حديثه مع عبدالكريم الخايب بالقول: انت فعلا طالعت عددا لا يُحصى من الكتب فما ضرّك لو اطلعت على كتاب الله؟ واستجاب عبدالكريم الخايب لهذا المقترح وبسرعة عجيبة… كان في مكتبي كتاب قرآن ولست ادري ما السرّ في وجوده… اخذته وكنت في تلك الآونة على جنابة وقررت ان اطالع القرآن الذي لم اعرف منه سوى قصار السور وانا ادرسها في الابتدائي او اتلوها مع والدي وانا طفل ليلة 27 من رمضان حتى امتّع البطن بالزلابية والمخارق… وفتحت المصحف كمطالع لكتاب قيل عنه الكثير … وكانت البداية طبعا وبعد الفاتحة بسورة البقرة… من عاداتي انّي عندما ابدأ مطالعة ايّ اثر أنني اركّز جدا على كل ما ياتي فيه… ولا اترك شاردة ولا واردة لاُحسن في ما بعد عملية النقد والتحليل…

يومها وانا اقرأ سورة البقرة كنت لا شعوريا كما ذلك العطشان الذي انغمس في شرب الماء… كما ترون لم اصف الماء بالعذب او الزلال… كنت فقط اشرب الماء ولكن دون تمحيص… وصلت الى الصفحة 24 والى الآية الكريمة 155 التي تقول { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشّر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انّا لله وانّا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم واولائك هم المهتدون } صدق الله العظيم… في اللحظة التي قلت فيها اولئك هم المهتدون فُُتح باب مكتبي لتًُطلّ عليّ سكرتيرتي انذاك نعيمة المخلوفي رحمها الله، ولتنزعج مما وجذتني عليه وسألت بحرقة (يا عرفي اشبيك لاباس ؟) استغربت من سؤالها وأجبت: اشبيني لاباس.. قالت: اذن علاش تبكي لاباس؟)… اندهشت ثانية ولم اصدّق الا وانا امسح دموعي قائلا: (لاباس لاباس والله… تذكرت وفاة اخي الحبيب الذي توفّي سنة 2000)..

لم تمكث معي طويلا بعد ان اطمأنت عليّ وغادرت واغلقت باب مكتبي… تركت كتاب القرآن على حدة ومسكت رأسي بيديّ وطفقت افكّر في ما جرى ..كيف جرى ؟ لماذا جرى ؟ كيف انخرطت في بكاء لم اشعر اطلاقا به ؟؟ لم ابق طويلا على تلك الحالة… نهضت من الكرسيّ وتمتمت: (يا ربّي انا جايك)…وقصدت منزلي الذي لا يبتعد عن مقرّ الاذاعة سوى 200 متر تقريبا… وتطهّرت وصليت لربّي ركعتين وفي كل سجدة كنت اردّد نفس الكلمات (يا ربّي انا جايك)… يومها تذكرت استاذي العزيز سي رشيد الحبيّب رحمه الله الذي كان يدرّسنا سنة الباكالوريا مادّة التفكير الاسلامي والذي حدثنا عن الفقيه ابي حامد الغزالي الذي عاش فترة كلها حيرة بين الشك واليقين… الى ان قذف الله في قلبه نور اليقين والذي يصفه البعض ومنهم استاذنا سي رشيد رحمه الله بالنور الشعشعاني…

كنا انذاك وخوفا من استاذنا الرهيب بجديته وكاريزمته نقبل بما يقول ولكن كان في داخلنا كثير من الاستهزاء بذلك النور الشعشعاني… يوم قلت لربّي (يا ربّي انا جايك) فهمت انّ نور الايمان هو اعظم نور لانّ من عاشه وبعمق يعيش الامان والسلام الداخلي… هذا هو مجرّد استنتاج لما عشته منذ ذلك اليوم ولكن للقصّة تفاصيل اخرى عديدة ومتشعبة… ولا اتصوّر انّ هذه الورقة بقادرة على حكي كل تفاصيل ما حدث لي بعد ذلك اليوم… ولا تنسوا وبشّر الصابرين في كتاب الله… اذن صبركم عليّ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

الشات جي بي تي… “ولد حرام صرف”!

نشرت

في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد الأطرش:

سيواجه الطفل الذي سيولد اليوم بأحد مستشفيات تونس وغيرها من المدن في الدول الفقيرة والنامية عندما يصل إلى سن البلوغ، آلة أذكى منه ألف مرّة… وسيضطرّ إلى متابعة ذكائها وتطوير نفسه قياسا بما سيعيشه ويتعلمه ويعلمه من ومع هذه “الآلة” ومع التطوّر الرهيب في قدرات الذكاء الاصطناعي كل ساعة أو لنقل كل ثانية… وسيصبح بعض أبناء هذا الجيل الذي سيولد اليوم وغدا في بعض مستشفيات تونس وغيرها من المدن، قويا وذكيا إلى درجة سيكون معها قادرا على تحقيق كل أهدافه وتطوير كل برامجه ومخططاته وما يريد فعله وانجازه… لكن هنا يكمن المشكل الذي ستعيشه تونس وغيرها من البلدان التي لا يمكنها ان تضع في يد كل أبناء الجيل القادم، آليات الذكاء الاصطناعي لتطوير أنفسهم وتطوير العالم من حولهم…

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل سيتمكن كل أبناء الأجيال القادمة التي ستولد اليوم وغدا، من استغلال القوة الرهيبة للذكاء الاصطناعي؟ وهل بإمكان الدول الفقيرة تعميم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي على كل أبناء الجيل القادم؟ فالنقطة التي قد تمنع عديد الحكومات من توسيع قائمة المستفيدين من الذكاء الاصطناعي، هي خوفها من أن تكون غدا قدرة الشعب أكبر بكثير من قدرة الدولة… لذلك فقد تختار بعض أنظمة الدول الفقيرة استثناء نسبة كبيرة من شعوبها من الاستفادة من آليات ووسائل هذه القوّة الرهيبة التي قد تهدّد وجودها وقد يصل بها الأمر إلى افتكاك الحكم والسلطة منها، يوم تغضب منها ومن سياساتها…

فهل سيكون الذكاء الاصطناعي وسيلة جديدة من وسائل الاستبداد والتسلط لعديد الأنظمة التي قد تستثني بعض شعوبها من هذا الذكاء، أم سيعمّم ويكون في متناول كل الأجيال القادمة ويكون بذلك وسيلة للتحرر والانعتاق والابداع والتطور والتقدّم والنمو والازدهار؟؟

وسط كل هذا الذي يجري في العالم حولنا، والحرب المعلنة بين الصين والعم سام… من سيكون الأقدر على إدارة رقابنا نحو منتجاته الذكية التي ستزيدنا ذكاء وستخرجنا من الغباء الذي نقتات منه ونعيش في مستنقعه…؟؟ لكن لو سألنا بعض من تذوقوا طعم الـ”شات جي بي تي” وغيرها من وسائل الذكاء الاصطناعي هذا الذي سيغيّر وجه العالم بعد سنوات قليلة والذي سيجعلنا أيضا جزءا صغيرا من قرية كبيرة كل من يسكنها يعرف كل من فيها وما يقع فيها ويستفيد من كل من فيها ومن يستفيد بمن فيها… أقول لو سألنا بعض العرب كيف يتعاملون مع هذا الوافد علينا من بلاد العم سام وأحفاد “تشانغ كاي تشيك” و”ماو” فماذا سيقولون يا ترى؟؟ جميعهم أو اغلبهم وأقصد من هم أبناء جلدتنا، لم يختاروا الاستفادة المنطقية والعقلانية من القوة الرهيبة لآليات ووسائل الذكاء الاصطناعي…

أغلب من غامروا بربط علاقة وطيدة وحميمية مع احدى آليات ووسائل الذكاء الاصطناعي اختاروا التعامل مع الذكاء في غير ما ينفعهم وينفع الناس… اغلب العرب يدخلون الشات جي بي تي للسؤال عمّا يجلب لهم المتعة والاستمتاع… والغريب في الأمر أنهم لم يتعلموا شيئا ولم يستفيدوا من الذكاء الاصطناعي بربطهم لعلاقة غريبة مع أشهر وسائله “الشات جي بي تي” بل أفسدوا اخلاق هذا الكائن الغريب العجيب… فعلّموه كل الالفاظ البذيئة والسباب والشتائم… وبحثوا من خلاله عن كل ما يكشف لهم اسرار بعضهم البعض… فالشات جي بي تي تعلّم من بعضنا الكذب والخداع… وتعلم من بعضنا الآخر الكلام البذيء والشتائم الجنسية… ووصل الأمر ببعضهم بتسمية الشات جي بي تي باسم من أسماء اقاربه فهذا يناديه “يا قعقاع”، والآخر يناديه ” يا مسعود”، والآخر يناديه باسم حبيبته… وهنا علي أن استحضر ما قاله الكوني ابن عمّي عن هذا الكائن العجيب يوم حاوره وهو في حالة سكر… الكوني قال أإن الشات جي بي تي ” ولد حرام صرف… ماهوش ولد عايلة”… هكذا انقلب الأمر عندنا فعوض أن نتعلم من الذكاء الاصطناعي ما ينفعنا ونستفيد منه… أفسدنا اخلاقه فاصبح “ولد حرام صرف”… المسكين…

ختاما ألا يجب ان يكون الذكاء الاصطناعي غدا مادة أساسية في كل مراحل تعليمنا من الأساسي إلى الجامعي، حتى نواكب ما يعيشه العالم من تطور في كل المجالات والقطاعات… فيستفيد منها العباد… ويصلح بهم ومعهم حال البلاد…

أكمل القراءة

صن نار