تابعنا على

جلـ ... منار

التواطؤ باسم الإنسانية!

نشرت

في

الميناء الأميركي.. رصيف يُشيّد بركام غزة وأشلاء شهدائها | أخبار | الجزيرة نت

تكاد تتماهى ازدواجية الخطاب الأمريكي مع عوالم مسرح اللا معقول!
الكلام وعكسه في خطاب واحد.

عبد الله السنّاوي
<strong>عبد الله السنّاوي<strong>

دعوات متواترة لإدخال المساعدات الإنسانية بكميات كافية ومستدامة لإنقاذ أهالي غزة من الموت جوعًا، وتمديد بالوقت نفسه للعدوان الذي يزهق أرواحهم!
مشاهد الجوعى الذين يتعرضون للتقتيل العمدي أثناء انتظارهم الحصول على مساعدات غذائية تبقيهم على قيد الحياة تطرح تساؤلا جوهريا إذا ما كانت أية
دعايات أمريكية عن القيم الإنسانية قابلة للتصديق!
إذا لم يمت مئات الآلاف من الفلسطينيين بالقصف المتواصل فإنهم قد يلقون المصير نفسه بالتجويع المنهجي المقصود.

باليقين فإن الإدارة الأمريكية تتحمل المسؤولية الأولى عما يحدث للفلسطينيين من تنكيل تجاوز كل كابوس متخيل أو غير متخيل.
مددت للعدوان الهمجي على غزة ومنحته غطاء سياسيًا واستراتيجيًا وعسكريًا كاملا حتى ينجز هدفيه المعلنين، اجتثاث حركات المقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى والرهائن بلا تكاليف سياسية باهظة.
لمرات عديدة منعت بحق النقض استصدار أية قرارات من مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب دون أن تتوقف عن دعوة القوات الإسرائيلية لمراعاة القانون الدولي الإنساني في حماية حياة المدنيين.
طوال الوقت تدعو لإدخال المساعدات الإنسانية دون نجاح يذكر.
وأخيرًا دعت في خطاب الاتحاد، الذي ألقاه الرئيس “جو بايدن” أمام مجلسي الكونغرس، لإنشاء رصيف بحري قبالة سواحل غزة لإنجاز هذه المهمة الإنسانية!

لم يكن الدعم الإسرائيلي المعلن لذلك المشروع كلامًا في فراغ الاستراتيجيات.
أول ما يستلفت النظر أن إنشاءه وتشغيله قد يستغرق نحو ستة أسابيع حسب التقديرات الأمريكية.
المعنى أنه لا حديث بأي مدى منظور عن وقف إطلاق النار، أو تحسين الوضع الإنساني بضخ مساعدات كافية عبر المنافذ البرية.
ربما يمتد المعنى إلى تخفيض أية رهانات على تسوية ما عبر المفاوضات غير المباشرة بين “حماس” وإسرائيل.
بحسب الحيثيات المعلنة فإن المشروع الأمريكي يستهدف رفع نسبة المساعدات الإنسانية، أو أن تصل مباشرة إلى الجوعى من المدنيين لا إلى “حماس”، وبالتنسيق الكامل مع السلطات الإسرائيلية.

بنظر منظمات الأمم المتحدة: “لا بديل عن الممرات البرية”، قاصدة أن معبر رفح الحدودي المصري أسهل وأسرع إذا ما أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على عدم استهدافه بالقصف، أو التعسف المفرط في إجراءات دخول المساعدات”.
بتعبير وزير الخارجية البريطاني “ديفيد كاميرون”: “لا بديل عن الممر البري”، قاصدًا معبر رفح بالذات.
بتقدير “واشنطن بوست” فإن “الممر البحري لا يكفى”، توافق على مشروعه، لكنها تشكك فى قدرته على الوفاء بالمهمة الإنسانية المفترضة.
أخطر ما في ذلك المشروع: تجريد مصر من معبر رفح وقيمته الاستراتيجية.
وتجريد غزة في الوقت نفسه من الرئة العربية الوحيدة للحركة والتنقل.
هذا يستدعى التنبه البالغ والتصحيح الضروري لأية أخطاء وخطايا ارتكبت في إدارة ذلك المعبر بعد توقيع اتفاقيتي “كامب ديفيد”.

باسم الإنسانية مرة أخرى يجري التواطؤ على أدوار وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” بذريعة أن ذلك الرصيف البحري سوف يوفر خدماتها دون حاجة إليها!
هذا محض ادعاء لا أساس له.
استهداف “الأونروا” بادعاءات غير ثابتة عن علاقة بعض موظفيها بـ”حماس”، وفرض حصار دولي على تمويلها، قصده تفكيكها لإحكام الحصار مستقبلا على القطاع في خدمات لا غنى عنها كالصحة والتعليم والتشغيل.
بتعبير وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالنت” فإن الرصيف البحري يساعد على انهيار “حماس” قاصدًا التركيع النهائي للفلسطينيين.

هكذا بكل وضوح فإن ذلك المشروع هو عمل متوافق عليه بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي.
إنهما يعملان تحت أفق استراتيجي واحد رغم أية تناقضات بين إدارة “بايدن” وحكومة “بنيامين نتنياهو”.
قد ترى الإدارة الأمريكية الحالية أنه يفتقد في اللحظة الحالية القدرة على القيادة.
بالمقابل فهو يصعد ضدها لهجة الخطاب.
لكن ذلك لا يمنع التوافق على الأهداف العليا للحرب، وعلى رأسها التهجير القسري أو الطوعي للفلسطينيين بعدما تصبح حياتهم شبه مستحيلة في القطاع المحطم، التي تؤكد التقارير الدولية أن (80%) من بيوته هدمت بالكامل، وأن خسائره المادية قد تتجاوز (30) مليار دولار.

القضية الحقيقية ليست “التوطين في سيناء” بقدر ما هي إخلاء غزة من أهلها وتشتيتهم في دول أخرى، عربية وغير عربية.
لذلك الرصيف دور وظيفى مقصود في التهجير الطوعي.
في بداية الحرب وجد اليمين الإسرائيلي المتطرف في الدعم الأمريكي شبه المطلق فرصة للتهجير القسري من غزة إلى سيناء وفرصة أخرى لتهجير مماثل من الضفة الغربية إلى الأردن.
اصطدم مشروع التهجير القسري بموقف مصري وأردني وفلسطيني وعربي شبه موحد.
تراجع مؤقتًا لكنه ما يزال ماثلا بصيغ جديدة طوعية هذه المرة يساعد عليها مشروع الرصيف البحري.
قد يؤسس الرصيف البحري لتواجد أمريكي عسكري مباشر بهدف السيطرة على مخزون الغاز، الذي تؤكد التقارير الدولية توافره قرب شواطئ غزة.

إنه الغاز عصب الحياة الحديثة، الذي تأكدت قيمته الفائقة في حرب أوكرانيا.
تنفي إدارة “بايدن” أنها بصدد تركيز أية قوات عسكرية في غزة.
ربما أرادت أن تطمئن الرأي العام الأمريكي قبيل الانتخابات الرئاسية، التي قد تقرر مصير “بايدن” في البيت الأبيض، أنه لن يكون هناك تورط عسكري مباشر في غزة.
وربما أرادت أن تطمئن بالوقت نفسه “الحليف الإسرائيلي”، أنها ليست بصدد عرقلة أية خطط عسكرية مزمعة في رفح، التي يراها “نتنياهو” ضرورية لحسم الحرب.

يستلفت النظر أن مشروع الرصيف البحري طرح مباشرة إثر زيارة الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي “بينى غانتس” للعاصمة الأمريكية واشنطن.
برغم الخلافات المعلنة فإنهما يتبنيان أهداف الحرب نفسها، المعلنة وغير المعلنة.
يحاول بايدن بخطابه المزدوج أن يحسن صورته داخل الحزب الديمقراطي كرجل يتبنى خطابًا إنسانيًا دون أن يتوقف عن توفير القنابل والذخائر والدعم المالي والاستخباراتي للعدوان على غزة.
لا يصلح ذلك الخطاب لتحسين صورة أو لإضفاء هيبة.

إنه تواطؤ باسم الإنسانية على غزة ومستقبلها.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

“الترامبية المستأنفة”… ما الذي تغير؟

نشرت

في

عبد الله السنّاوي:

بصورة قياسية ارتفعت أسهم “دونالد ترامب” في العودة إلى البيت الأبيض.

لم يبد استعدادا لمراجعة سياساته ومواقفه، التي أفضت إلى خسارته الانتخابات السابقة، لكنه يقترب من حصد الرئاسة مجددا.

عبد الله السنّاوي

تقوضت فرص الرئيس الحالي “جو بايدن” في تمديد رئاسته لدورة جديدة بثلاث ضربات متتالية.

كان أداؤه الباهت في المناظرة الرئاسية ضربة أولى أثارت مخاوف واسعة داخل حزبه الديمقراطي في مدى أهليته الإدراكية والجسدية لقيادة الولايات المتحدة.

وجاءت الضربة الثانية من المحكمة العليا الأمريكية، وأغلب قضاتها جمهوريون، حيث حصنت أفعال ترامب من الملاحقة القضائية ” طالما جرت في نطاق صلاحياته الرئاسية”.

ثم جاءت محاولة اغتيال ترامب الفاشلة لتحسم مستقبل بايدن وتجعل من انسحابه لصالح مرشح ديمقراطي آخر قرارا شبه محتم، وإلا فإن الحزب سوف يلقى هزيمة مزدوجة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية معا.

صورة ترامب، وهو يلوح بقبضة يده اليمنى، إثر محاولة اغتياله أضفت عليه صفة الشجاعة في مواجهة الخطر والتصميم على المضي في التحدي أيا كانت الأخطار فيما بدا “بايد”» متعثرا في صعود سلم طائرة.

تبدت مفارقتان في مشهد محاولة الاغتيال، الأولى، أنه كاد يدفع حياته ثمنا لتحالفه مع “لوبى السلاح”، الذي يرفض وضع أية قيود صارمة على إتاحته في الأسواق كأية بضاعة أخرى.. والثانية، أن المشتبه به “توماس ماثيو كروكس” شاب عشريني جمهوري ويهودي يفترض أن يكون مؤيدا لـ”ترامب” دون أن تستبين أسبابه ودوافعه، فقد قُتل في المكان وأسدلت على الحقيقة ستائر الصمت المطبق.

بدت إصابته طفيفة، لكنها كانت كافية لتحدث تغييرا جوهريا على المسرح السياسي الأمريكي ويصبح شبه مؤكد أنه في سبيله للعودة إلى البيت الأبيض إذا لم تحدث مفاجأة كبيرة في الشهور المتبقية على الانتخابات الرئاسية.

لم يتغير ترامب ولا تعدل خطابه تجاه المهاجرين والأقليات، وفي الذاكرة التظاهرات والاحتجاجات، التي عمت الولايات المتحدة إثر مقتل الأمريكي الأسود “جورج فلويد” على يد شرطي أبيض أمريكي ونشوء حركة “حياة السود مهمة”.

ولا تغيرت نظرته إلى الحريات الصحفية الإعلامية، وفي الذاكرة صداماته المتكررة مع شبكة الـ”سى. إن. إن” وصحيفتى الـ”واشنطن بوست” والـ”نيويورك تايمز”.

كان مشهد اقتحام مبنى الكونغرس لمنع اعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية (2020) تهديدا للديمقراطية الأمريكية.

لا اعترف بخطيئة التحريض ولا اعتذر عنها ولا تعهد بقبول نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة إذا لم تأت لصالحه.

دواعي القلق ما زالت ماثلة في التفاعلات الأمريكية، رغم اللهجات التصالحية التي أعقبت محاولة اغتياله الفاشلة.

لم يتغير ترامب، لكن العالم تغير.

الأزمات والتحديات اختلفت، طرأت حروب دامية في أوكرانيا وغزة.

النظام الدولي الذي تركه مترنحا بأثر جائحة كورونا وسياساته الانعزالية يكاد يكون الآن أقرب إلى ركام يقطع طريق المستقبل.

أدت إدارته الكارثية للجائحة إلى تراجع فادح في هيبة بلاده وقدرتها على قيادة العالم.

تبدت فجوات وفوارق داخل التحالف الغربي

لم تمد إدارة ترامب يد المساندة لدول أوروبية حليفة كإسبانيا وإيطاليا تضررتا بقسوة بالغة من ضربات الجائحة.

كان مستلفتا أن الصين وروسيا وكوبا ودولا أخرى من العالم الثالث كمصر بادرت بإرسال طائرات محملة بالأدوية والمستلزمات الطبية فيما تقاعست الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى.

في أجواء الجائحة طرحت الأسئلة الكبرى: ما معنى التحالف الغربي.. أو أن تكون الولايات المتحدة قائدته إذا ما أدارت ظهرها لمعاناة الشعوب الأوروبية؟

بقدر مماثل طرح سؤال مستقبل الاتحاد الأوروبي على السجال العام.

كان صعود ترامب بنزعته الشعبوية المعادية للمهاجرين والأجانب عام (2016) داعيا لتمدد الظاهرة نفسها في أنحاء مختلفة من القارة الأوروبية.

“الترامبية المستأنفة” هذه المرة تلاحق موجة شعبوية اكتسحت انتخابات البرلمان الأوروبي، وكادت تهيمن على الجمعية الوطنية الفرنسية في أكبر انقلاب على قيم الجمهورية.

في سنوات حكمة لم يخف مناهضته للاتحاد الأوروبي وتشجيعه لخروج بريطانيا منه.

على رأس تحدياته الآن أسئلة مستقبل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

حسب تعهداته الانتخابية فإنه مستعد لوضع حد للحرب الأوكرانية بأقرب وقت.

السؤال الجوهري: ما الترتيبات اللاحقة؟

الأسئلة تقلق الأوروبيين دون إجابة، أو شبه إجابة.

لعل ذلك التوجه هو النقطة الإيجابية الواضحة في خطط ترامب للمستقبل، لكنها تتوقف عند الشعارات العامة دون استيعاب حقيقي لحجم المتغيرات الأوروبية التي أعقبت خروجه من البيت الأبيض.

بريطانيا تبدو نادمة على خروجها من الاتحاد الأوروبي، لكنها غير متعجلة في اتخاذ أية إجراءات، إنها مسألة وقت.

الاتحاد الأوروبي مصطف حاليا وراء خطة بايدن في حرب أوكرانيا.

حلف الناتو يبدو متماسكا لكنه غير متيقن من مستقبله مع “الترامبية المستأنفة” التي ترفع شعار: “الدفع مقابل الأمن” وتريد أن تعممه في الشرق الأوسط وتايوان.

رغم أن الحلفاء الغربيين يسددون حاليا نسبا عالية من تكاليف الحرب في أوكرانيا، إلا أن ذلك الشعار ما يزال مقلقا.

ماذا بعد الحرب على أوكرانيا؟

ما مستقبل حلف الناتو؟ وهل الأجدى المضي قدما في بناء منظومة دفاعية أوروبية بعيدا عن الولايات المتحدة؟

التساؤلات تدخل ف”ى” صميم بنية النظام الدول”ى” والإجابات كلها معلقة.

رغم انحيازاته لإسرائيل فإنه لا يمكن تجاهل التغيرات الجوهرية على مسارح الصراع في الشرق الأوسط إثر السابع من أكتوبر (2023).

لا يمكن القفز فوق حرب الإبادة وملاحقة جرائم الحرب أمام محكمتي “العدل الدولية” “الجنائية الدولية”.

كما لا يمكن القفز فوق تصويت الكنيست بأغلبية كبيرة على رفض قيام دولة فلسطينية بأحاديث تستعيد صفقة القرن، أو إعادة تلخيص القضية الفلسطينية في مساعدات وإغاثات، بعدما أكدت نفسها بالدماء الغزيرة والبطون الخاوية كقضية تحرر وطني أولا وأخيرا.

هذه معضلة يصعب على “الترامبية المستأنفة” تجاوزها.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

توفيق زيّاد وملح الجرح الفلسطيني

نشرت

في

صبحي حديدي:

سجّل يوم 5 تموز (يوليو)، هذا العام، الذكرى الـ 30 لرحيل الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد (1929ـ 1994)؛ ليس من دون ظلال دامية وقاتمة على ما يشهده قطاع غزّة وسائر فلسطين من جرائم حرب يواصل ارتكابها الكيان الصهيوني، ذاته الذي كتب زيّاد عشرات القصائد في مناهضة مكوّناته العنصرية والاستيطانية؛ عبر القصيدة غالباً، وعضوية الكنيست بين حين وآخر، وفي كلّ مناسبة سنحت للشاعر من موقعه في رئاسة بلدية الناصرة.

صبحي حديدي

وزيّاد نموذج معياري، على أكثر من صعيد: أولاً بين الفلسطيني ابن الـ 48 كما يُقال عادة على سبيل التصنيف الزمني الذي يُدرج جغرافيا فلسطين التاريخية أيضاً، والفلسطيني ابن الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة والشتات. وثانياً ضمن الحركة الشعرية الفلسطينية داخل الأرض المحتلة، التي تبلورت سماتها المتميزة والنوعية والفارقة وتلهف الوجدان العربي الجريح (خاصة بعد نكسة حزيران/يونيو 1967) على توحيدها تحت مسمى “شعر المقاومة”. وثالثاً ضمن صفوف تلك الشريحة الخاصة، الكفاحية تارة والإشكالية تارة أخرى، للفلسطيني المنتمي إلى “راكاح” والحركة الشيوعية الإسرائيلية، والحالم/ المؤمن بمآل أممي أو حتى بروليتاري في فلسطين التاريخية.

وفي سنة 1970 كان أحمد سعيد محمدية، صاحب “دار العودة” الذي ينشر من بيروت، قد اتخذ قراراً جسوراً وصائباً بإدراج مجموعة “شيوعيون” ضمن أعمال زيّاد الكاملة، التي صدرت يومذاك تحت عنوان “ديوان توفيق زيّاد” ضمن السلسلة الشهيرة ذات الغلاف الأحمر، والتي ضمّت عشرات الشعراء العرب. وأوضح محمدية في تقديم “شيوعيون”، أنّ الدار احتفظت بنفس العنوان الذي اختاره الشاعر “إيماناً منها أنه قد آن الأوان لفكّ الأسوار من حول ذهن المبدع العربي”، وأنه “من العار حتى هذه الفترة التي أعقبت حزيران أن تستمرّ القيود والوصايات والحجز على أفكار الكتّاب والشعراء وكلّ المبدعين”.

وكان جميع “شعراء المقاومة”، محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران أساساً، قد كتبوا قصائد صريحة التوجّه في منحى التضامن الأممي، على غرار ما فعل شعراء يساريون وشيوعيون أمثال لوي أراغون وبول إيلوار وناظم حكمت ولويس ماكنيس؛ ضمن مناخات شبه جماعية أشاعتها في تلك الحقبة تيارات الواقعية الاشتراكية، سواء مثّلها روائي من طراز مكسيم غوركي أو بيروقراطي ستاليني على غرار أندريه جدانوف. غير أنّ زيّاد كان الأعلى كعباً في هذا الخيار، ومجموعته الأولى “شيوعيون” تتغنى بالتيار السياسي والعقائدي الشيوعي ابتداء من العنوان، ثمّ القصيدة الأولى (“قالوا: شيوعيون. قلتُ: أجلّهم/ حمراً بعزمهم الشعوب تُحرّر”)؛ قبل أن تنتقل إلى قصائد تمتدح عمال موسكو، وتقف أمام ضريح لينين، وتسافر إلى أثينا ضدّ النازية، وعراق القائد الشيوعي فهد، ومصر 1951، وعبدان وأحرار إيران، ولا تتجاهل لومومبا في أفريقيا، وإضرابات ألما آتا في كازاخستان…

ولعلّ أفدح اختزال يمكن أن يُساق إليه زيّاد، والأشدّ تسطيحاً وتبسيطاً وابتساراً في الآن ذاته، هو حشر الرجل/ الشاعر في هذا الإسار الوحيد والأوحد؛ الذي كان ضيّقاً بالطبع، وأوهى من أن يُطلق شعريته على سراحها العريض الدافق. ولكنه في الآن ذات ظلّ يمهّد لما سيتكشف سريعاً من حيوية رفيعة في تشذيب النبرة الخطابية والتقريرية، والخروج (كما فعل بعدئذ، مراراً) بصياغات تركيبية بارعة تجمع عناصر لم يكن يسهل جمعها في تلك الأطوار: التزام سياسي وغنائية شفيفة وفولكلور محدَّث ورومانسية منضبطة.

هكذا كانت مجموعة زيّاد الثانية “أشدّ على أياديكم”، 1966، التي بدت أشبه بمراجعة جذرية للسمات التي طبعت المجموعة الأولى المبكرة، ولم يكن غريباً أنه استهلها بقصيدة حملت عنوان “رجوعيات”، تصادى فيها زيّاد مع غالبية عناصر شعره السالفة ولكن ضمن أنساق مَزْج تعددية أو حتى اختراقية؛ كما حين يقول:

“أحبّيني
أنادي جرحك المملوء ملحاً، يا فلسطيني
أناديه، وأصرخ:
ذوّبيني فيه.. صُبّيني
أنا ابنك: خلّفتني ها هنا المأساة
عُنقاً تحت سكين
أعيش على حفيف الشوق
في غابات زيتوني

وأكتب للصعاليك القصائد سكّراً مرّاً
وأكتب للمساكين”.

وهذه سطور لا تسعى، في المقابل، إلى ترسيخ أيّ طراز من الوهم والاستيهام حول الموقع الإجمالي الذي شغله زيّاد بالمقارنة مع الثلاثي درويش والقاسم وجبران، إذْ إنه لم يكن الأقلّ بينهم اكتراثاً بفنّ الشعر واستحقاقات القصيدة فحسب؛ بل كان الأكثر، بما لا يُقاس غالباً، انشغالاً بالتعبير السياسي وحسّ الالتزام والتضامن الأممي والانضباط الحزبي، حتى حين كان خزينه الشعري الثرّ ينتصر للشعر في وجه النبرة الخطابية والتقريرية. بل قد لا تكون هناك غضاضة، وربما على العكس: من باب إنصاف زيّاد، أن يساجل المرء بأنه كان امتداداً طبيعياً لحركة شعرية فلسطينية كبرى سابقة، ضمّت أمثال إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، حسن البحيري، مطلق عبد الخالق، ومحي الدين عيسى.

خيار زيّاد، الحاسم كما يتوجب القول، كان الانقياد إلى الملح في الجرح الفلسطيني؛ والإنشاد، في آن معاً: “أنا ما هُنتُ في وطني/ ولا صَغّرتُ أكتافي/ وقفتُ بوجه ظلاّمي/ يتيماً، عارياً، حافي/ حملتُ دمي على كفّي/ وما نكّستُ أعلامي”.

أكمل القراءة

جلـ ... منار

نُذُر وروادع الحرب على لبنان

نشرت

في

عبد الله السنّاوي:

تتناثر نذر الحرب على لبنان، كأنها مقدمات لحرب إقليمية واسعة عواقبها “مدمرة” على ما يقول الأمريكيون.

عبد الله السنّاوي

حسب الجيش الإسرائيلي فإن قواته استكملت جاهزيتها والخطط العملياتية جرى التصديق عليها بانتظار أمر الهجوم الواسع على جنوب لبنان.
في نفس المشهد المنذر تلوح روادع حقيقية تجعل من الوصول إلى نقطة الانفجار حماقة
كبرى تضرب الإقليم كله بصميم أمنه ومستقبله لسنوات طويلة مقبلة.
بين النذر والروادع كل سيناريو محتمل ووارد.
بالنظر إلى الروادع، خارج الأوضاع الإسرائيلية وحساباتها المتناقضة، لن تكون هناك حرب.
أما إذا امتد النظر إلى الداخل الإسرائيلي فإن ما هو متعقل قد يخلي المجال كاملا لما يشبه الجنون السياسي.

الوضع السياسي الإسرائيلي منقسم وهش، الجيش منهك ومأزوم، والنخبة العسكرية والأمنية تحذر من “انهيار استراتيجي” إذا لم تتوقف الحرب في ظل تآكل ما يطلقون عليه “الإنجازات في غزة”.
مع ذلك كله تنحو الحكومة، التي توصف بأنها الأكثر يمينية منذ تأسيس الدولة العبرية، إلى توسيع نطاق الحرب حتى لا يقال إنها سلمت بهزيمتها.
“إنهم مجموعة من المجانين الذين لا يصلحون لأي شىء» بتعبير زعيم المعارضة “يائير لابيد” واصفا الوزيرين المتطرفين “إيتمار بن غفير” و”بتسلئيل سموتريش” ومن معهما.

الذريعة الرئيسية للحرب على لبنان: عودة الأمن إلى شمال إسرائيل وإعادة مئات آلاف النازحين إلى مستوطناتهم، لكنهم لا يطرحون على أنفسهم سؤالا ضروريا إذا ما كانت الحرب سوف تكون حلا.. أم أنها سوف تفاقم المشكلة؟
بقوة الحقائق فإن المقاومة اللبنانية جبهة إسناد للمقاومة في غزة، إذا ما توقفت الحرب في غزة سوف تتوقف بنفس اللحظة الاشتباكات على الحدود الشمالية.
المعضلة هنا أن خطة “بايدن” لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن تكاد تكون قد تلاشت، باستثناء آمال شحيحة.

بالنسبة لـنتنياهو، فإن خيار الحرب مع لبنان يساعده على البقاء في السلطة ودفع الإدارة الأمريكية المهزوزة للاصطفاف معه، أيا كانت العواقب.
وبالنسبة لحزب الله اللبناني فإنه لا يطلب الحرب، لكنه مستعد ومتأهب لمواجهات طويلة وموجعة مع إسرائيل.
حذر زعيمه حسن نصر الله من أنه سيرد على أي اعتداء إسرائيلي بغير قواعد أو سقوف.
كانت تلك رسالة ردع امتد مفعولها لأية أطراف إقليمية قد تدعم بصورة أو أخرى العمليات العسكرية ضد لبنان.
كلامه يكتسب صدقيته من القدرات الصاروخية التي يمتلكها، حجما ونوعا.
إنها حسب التقارير الدولية المتواترة تبلغ عشرة أضعاف ما لدى المقاومة الفلسطينية مجتمعة.
كانت عملية الهدهد، بصورها بالغة الدقة، التي أزيح الستار عنها، لقواعد عسكرية ومناطق حساسة عديدة في العمق الإسرائيلي رسالة ردع استباقية قبل أي هجوم محتمل.

لا أحد فى الإقليم والعالم يطلب حربا واسعة باستثناء نتنياهو وحكومته لمصالح سياسية وشخصية.
تخشى الولايات المتحدة أن يفضي توسيع الحرب إلى فوضى إقليمية واسعة تضر بمصالحها الاستراتيجية والإضرار الفادح بالدور الوظيفي، الذي تلعبه إسرائيل، في الاستراتيجيات الغربية بالشرق الأوسط.
وتخشى أكثر أن تجر إلى ما لا تريده بفائض عجزها أمام مزايدات الجمهوريين قبل الانتخابات الرئاسية الوشيكة.

البنتاغون لا يخفى قلقه حيال الوضع على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية داعيا إلى ما أسماه “حل التوترات”.. والخارجية الأمريكية تؤكد الارتباط بين ذلك التوتر المنذر والحرب في غزة، فإذا ما حلت الثانية انهيت الأولى.
نفس الاستنتاج الذي يتبناه كافة اللاعبين الإقليميين بلا استثناء واحد!
في فوضى الارتباك الأمريكي تراجعت قدرتها على الردع.

هذه حقيقة توكدها الخارجية الأمريكية التي أعلنت أن أمن إسرائيل “مسألة مقدسة”، كأنها رسالة طمأنة بالوقوف معها حتى لو دفعت الإقليم كله إلى هاوية المجهول!
فقد الرادع الأمريكي هيبته.

هذه حقيقة ماثلة رغم أن مستشارا للرئيس الأمريكي “عاموس هوكستين” تواجد بالمنطقة لخفض التصعيد، دون أن يكون له فعل مؤثر.
الأسوأ أنه وجد نفسه طرفا في ملاسنات أمريكية إسرائيلية حول حقيقة حجب شحنات الأسلحة واصفا تصريحات نتنياهو بأنها كاذبة!
تلك الملاسنات في توقيتها وطبيعتها تعبير عن فجوة ثقة كبيرة تفصل بين نتنياهو وبايدن.

الأول، أرجع عدم قدرته على حسم الحرب وتحقيق “النصر المطلق” إلى حجب إمدادات السلاح عنه مقارنا نفسه بـ”ونستون تشرشل” الذي قال للأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية “أعطونا المعدات وسوف نتكفل بالمهمة”!
والثاني، اتهمه عبر مستشاريه والمتحدثين باسمه بالجحود ونكران الجميل حيث وقف مع إسرائيل، كما لم يفعل أي رئيس أمريكي آخر.

على نحو صريح ومباشر تحولت دفة الملاسنات من حقيقة حجب صفقات السلاح إلى التدخل شريكا مع الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
بدا مأزق بايدن مستحكما وموقفه مهزوزا.
فهو يريد أن يركب جوادين في وقت واحد، دعم اللوبيات اليهودية في حملته الانتخابية، وتحسين صورته أمام القطاعات الشابة في المجتمع الأمريكي والجاليات العربية والإسلامية التي تناهض الحرب على غزة وتتهمه بالتورط فيها.
يؤرقه سؤال إذا ما كان سوف يقابل نتنياهو عند زيارته المتنظرة إلى واشنطن لإلقاء خطاب أمام الكونغرس دون أن يقرر شيئا حتى الآن!

بنفس الوقت احتلت الحيز العام في إسرائيل ملاسنات أخرى بين بن غفير ونتنياهو، عبرت عن عمق الأزمة الحكومية التي قد تزكي مغامرة الحرب في لبنان.
الأول، يطلب أن يكون طرفا مباشرا في إدارة الحرب دون خبرة سياسية، أو عسكرية.
الثاني، يمانع خشية أن يتحول مجلس الحرب قبل حله إلى سيرك تنشر أسراره بالعلن.

كان قرار نتنياهو بإنشاء مجموعة وزارية أمنية مصغرة تضم “بن غفير” محاولة في الوقت بدل الضائع لامتصاص الأزمة، لكنها بدت كاشفة لمدى صلاحية المستوى السياسي كله للبت في مسائل بالغة الخطورة كالحرب على لبنان.

الأوضاع السياسية الهشة في إسرائيل يفترض أن تردع أية مغامرة لتوسيع نطاق الحرب، لكنها قد تدفع بالمفارقة إلى الإقدام عليها!

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار