المعمار الشعري وفضاء الرؤيا… في ديوان “أحاديث الكباش”
نشرت
قبل 8 أشهر
في
الشعر هو فن التشكيل لنص العالم بجماليات اللغة، من خلال إبداعات القصائد التي تبحث في جوهر الوجود، وتُفصح عن كينونة الإنسان، حيث تستلهم في محبة صادقة روحه الصافية وأحلامه العذبة، وتنسج بمغزل من القلب المكلوم أوجاعة المضنية، وربما لم تعرف البشرية عبر العصور صورتها الحقيقية إلّا بفضل المبدعين من الشعراء .
يتشيّدُ المعمارُ الشعري للنصوص في ديوان “أحاديث الكباش” للشاعر حسين القُباحي من المشاهد القادمة من وحي الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأساطير والحكايات بكلتجاربها وأشكالها و ظلالها، وصفاتها وتعددها وتباينها، من أجل افتتاح نافذة للرؤيا في اتصالها بالعالم تكشف عن غموضه وأسراره وتشكيلاته،
كما تفتح بوابات النصوص على نداء قادم من أقاصي الحلم يضاعف من طاقتها على الاستشراف وقراءة الآتي والغامض والماورائي.
“لم يكن غيرُ ظلي
وبقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين
تذهلُ عما يدور
بائعةُ الخبزِ لم تنتبه للرصيفِ
حين تلاشى
ولا العصافيرُ طارت حين أهالوا عليها التراب
كيف رستْ مسلّةُ على كتفي
وأنا أهرولُ
دون أن أدري
وكيف يطيرُ ظلي في الفضاء
والقدمان خائفتان من نظرِ النوافذِ للطريق
بينما شمسُ المدينةِ ترتمي
في حِجْرِ قريتِنا العجوز “
ينتمي الشاعر إلى الأقصر – موطنه الأصلي- وهي “طيبة” عاصمة الحضارة الفرعونية، فكيف يرى الحاضر الآن؟!
تتبدى في استهلال النص إدانة واضحة للحاضر، حيث تغتال المكان قشرة من المدنية الزائفة: تطول الفرد فتنطمس هويته “لم يكن غير ظلي”، وتستولي على المكان فيتوغل مرغمًا في الاغتراب “بقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين” وتخضع الأرصفة لقانون السوق “بائعة الخبز”.
غير أن الماضي لا يموت، ففي لحظة صاخبة، يستعيد المكان ذاكرته الخالدة ومجده التليد، وينزع عنه ثالوث الخضوع والمذلة والاستكانة فيفجّر البراكين، ويدفع بالأعاصير، فتجتاح الفضاء هالة من التغيير “البيوت تذهل، الرصيف يتلاشى،العصافير تتجمد من الخوف، الظل يطير، القدمان خائفتان”، فتنقشع المظاهر الكاذبة، ويستعيد المكان رمزه الشامخ (المسلّة) التي تصطفي الشاعر “الفنان”، و تنتصب على كتفه “كيف رست مسلة على كتفي”، فهو الابن البار لحضارته العريقة، التي تعود تزهو بحضورها الأصيل في القرية “شمس المدينة ترتمي في حضن قريتنا العجوز”.
“ماذا لو اقتنعت الحديقةُ
بجدوى مروري
فحوّلت أشجارها قليلًا
وباعدت بين الحشائش
ويداً بيد
قادني الحارسُ الكهلُ
للمنعطف
حيث الحصى يحبسُ الشوك
والرملُ لا يستحلُّ النُّعاس”
يتشوق الشاعر إلى المكان الحُلم حيث ينفتح النص على تساؤل جمالي لأيقونة الخضرة والبهاء “ماذا لو اقتنعتالحديقة” يعطي للشاعر حرية الحركة “حوّلت أشجارها، باعدت الحشائش”، حيث تتشكل منظومة من السلام الأرضي“الحصى يحبس الشوك”، والطمأنينة الناعمة “الرمل لا يستحل النعاس”،
“على الأطلال
طال وقوف من حولي
ويشغلني صفائي عن توترهم
وعن سهر الرسائل
والكلام
لأبعد من هناك
ومن هنا
طارت مُخيّلتي
وأقدامي تخلت عن تواضعها
فاقتربت إليّ
وامتدت حواراتي”
يسترجع الشاعر زمن أجداده من فحول الشعراء “على الأطلال”، لكنه ينفلت من حزنهم المقيم وأوجاعهم المضنية، وتمزقهم مع الجموع، حيث يتوحد بذاته المتصوفة “ويشغلني صفائي عن توترهم”، وتبدأ الأنا رحلة الصعود مع الفضاء الكوني “طارت مخيلتي”، وقد انسلخ الجسد من جاذبية الأرض “وأقدامي تخلت عن تواضعها”، لتمتد النجوى أو ينفسح للكلام كل المعمورة.
” والنخلُ لا يتحمل البوح المفاجئ
في الصباح
أحلى وأعلى من رجوع المبعدين
مواكبُ البسطاء
غمغمة العجائز بالعديد
قلق به السكرانُ لا يخشى فصاحته
فيحدّث الوادي
ويبتدر المسالك بالغناء”
ينغرس النخل بحضوره الأصيل فريدًا في تربة الاستهلال، وهو رهيف القلب “لا يتحمل البوح المفاجئ”، واستطالته باذخة الحنين “أحلى وأعلى من رجوع المبعدين”، لكنه لا ينعزل في عليائه، حيث يتنزّل جماليًا على بقعة الوادي تستظل به “مواكب البسطاء”، وتأمنه “غمغمة العجائز”، ويطمئن “قلق السكران”، ويحاور الوادي كي يشق مسارب الفرحة والطرب “يبتدر المسالك بالغناء”
” كنت أريدني صقراً خرافياً
جناح دجاجة
خالاً على خدّ
قدماً تسير إلى البعيد المختفي
نارًا بها يستدفئ الفقراء في ليل الشتاء”
يقع الشاعر في حلبة الأمنيات بين الفوز بالأنا عبر التحليق في طبقات المُثل العليا، والهبوط الاضطراري إلى الأرض وملامسة الواقع.
ففي الحالة الأولى تتبدى الرغبة في القوة الأسطورية “صقراً خرافياً” والوداعة الحالمة “جناح دجاجة”، والجمال الناعم “خالاً على خد”، والقَدَم السحرية “تسير إلى البعيد المختفي”
أمّا في الحالة الثانية فهو يجنح الي عالم الواقع، إذ يرغب في أن يحترق من أجل الحياة، من أجل مِلح الأرض وهم البسطاء “نار يستدفئ بها الفقراء في ليل الشتاء”
عازفُ الليل العجوزُ
ـ مستندا إلى عبق الصبا ـ
يرتاح من أيامه الأولى
ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد
مازال في عينيه فيضُ غواية
وصبا يخالطه الخريف
أصداءُ روح فاترة
شربتْ عصارته السنون ولم يزل
ريّان تستهويه أنفاسُ النساء إذا احترقن
ولا يبالي إن فررن إلى الجنون
متلفّعاً ألوانه الأولى وخشيته من الفرح المفاجئ
يستظل بحزنه ويسير
لا يُلقي إلى الأحداث بالاً
لا ينيخ حمولهُ
إلاّ وقد بزغ الصباح
يُطلق على الرجل المُسنّ في اللغة الفصحى لفظ الشيخ بينما يُطلق على المرأة المُسنّة لفظ العجوز، لكنّ الشاعر يستملح اللغة الدارجة (العامية) تقّرُبًا إلى البيئة الشعبية، تلك التي تساوي بين الذكر والأنثى بلفظ العجوز.
يشتغل الفعل الشعري بطاقته الدرامية والسردية وبحساسية فنية عالية التركيز على شخصية منتخبة، حيث ينفرد العجوز/الذكر بقلب الحكاية، وهو فنان أصيل لا يعترف بغير زمن وحيد، هذا المساء الذي يلّفُ العالم بغلالته السحرية، ويقع وصف الشخصية بين حالتين متناقضتين: مغامرة جسورة في معترك الحياة، ومغالبة قاسية من تيارها.
ففي الحالة الأولى: تتجسد الشخصية في الاستهلال كخلود جماليّ خارج الزمن، لا يرضخ تحت وطأة الكهولة الغاربة، وإنما يتدفق بحيوية صارخة “مستندًا إلى عبق الصبا”، وفحولة راسخة “عينيه فيض غواية، ريّان تستهوية أنفاس النساء”، كما يشارك الصوت/النغم في الاستهلال وينسرب شجيًّا في شريان المتن “ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد”
أمّا في الحالة الثانية فالجفاف يتسرب إلى كيانه “شربت عصارته السنون”، والجمال يتصدع في وجهه “صبا يخالطهالخريف”، والحزن يعرقل حركته “يستظل بحزنه ويسير”.
لكنه بشموخه الوافر وإرادته الصلبة يقود هذا المساء الجميل إلى إشراقة جديدة “لا ينيخ حموله ، إلا وقد بزغ الصباح”.
____________________________________
الهوامش :
1 – دراسات نقدية في الأدب الحديث : عزيز السيد جاسم
2 – إشكالية التعيير الشعري وكفاءة التأويل : د. محمد صابر عبيد