تنويه قبل البدء : أنا ممتنّ جدا لصديقي العابر للضّفاف جميعها عمران البكّاري الذي أستعير منه صورة “الحوش الأزرق” التي يحلو له دائما إحالتنا عليها.
يتراءى لي أحيانا أن الفايسبوك بالنسبة إلينا كتونسيين ربّما أكثر من المجتمعات الأخرى والأوروبية منها خاصة، هو عبارة عن حوش عربي به غرف عالدّاير ساير تُطلّ منها على بعضنا البعض ولكن غالبا من وراء الستائر بحيث أراك دائما ولا أعرف إن كنت تراني، أعلم عنك كل شيء ولكن أوهمك بأني لا أرى شيئا وتخونني الذاكرة في بعض الأحيان فأحيلك على تفصيل حدثفي عقر دارك لأنني استرقت النظر من كوّة الباب دون علمك… يحدث أن نتقاسم مآسينا وأفراحنا وأطعمتنا وتجوالنا واختلاجاتنا ولكن العديدين منا هُمْ هُنا وليسوا هُنا في آن… تحاول أن تجد أعذارا وأسبابا لمنزعهم الجُحوري درءا للإحباط… كأن تقول بالتأكيد هُم نائمون أو منشغلون داخل بيوتهم الموصدة ظاهريا ولكنهم سيخرجون حتما إلى الفناء المركزي للحوش ونطّلع على أحوالهم.
ومصطلح “جدار الفايسبوك” المُتداول كونيّا أعتقد جازما أنه مستوحى من التراث المعماري العربي والمسكن الحضَري التقليدي تحديدا، حيث أن جدران البيوت المكوّنة للحوش تكون مشتركة ومتلاصقة تفصل المتساكنين وتوحّد بينهم في نفس الوقت، يتستّرون داخل الغرف المستقلة على الحميمي وشديد الذاتية ويتخيّرون بعناية ما يُشهرونه في الفناء العام الذي يتوسط الحوش. يعتكف المتساكنون داخل غرفهم لكن بمقدورهم طرق جدران أجوارهم في كل وقت.
أمّا الأروقة التي تقع عادة في مقدمة غرف السّكن والتي تلعب وظيفة “تلطيف الهواء” فيقابلها في حوش الفايسبوك بعض الهوامش التي تُتاح للمقرّبين بنيّة تهوئة المزاج والترويح عن النفس ولكن مع رسم حدود غير مرئية غير قابلة للتجاوز فيما يشبه حماية حُرمة البيوت والذّود عن دواخلها.
كما تلعب السّقيفة في الحوش التقليدي (أو المربوعة كما تسمّى لدى أشقائنا الليبيّين) دَوْر فضاء استقبال الزائرين من غير الأقارب ويقابلها فايسبوكيا كامل المجال الكوني المكتظ بكل الأنماط العلائقية والاتجاهات السلوكية … فيه المسقوف والمكشوف مع ثنائيات أخرى لا تقل أهمية مثل الانفتاح والانغلاق والخاص والعام والشاذّ والسويّ، إلخ…
ومن أوجه التشابه أيضا بين شبكة الفايسبوك والبناء المعماري العربي التقليدي وجود “دقداقة” في شكل يد أو حِلقة حديدية تثبّتُ أعلى الباب الخشبي من الخارج تُطرق بقوة نظرا لاتساع رقعة الفضاء الداخلي المبني وكثافة مكوّناته… ولا يُفتح الباب إلا بعد التأكّد من هويّة الطارق أو الطارقة وسبب مجيئه(ا) وإلى أي مناخ عائلي ومجتمعي ينتمي وأية مضار أو منافع قد تلحقنا إذا نحن سمحنا له(ا) بالدخول… أسئلة تُحسم أجوبتها خلال لحظات معدودة… هذه الدينامية يقابلها في الفايسبوك “إرسال دعوة صداقة” أو التظاهر بالاهتمام بما ينشره الآخر والجَمْجَمة عليه أو بالتأثر حدّ البكاء الافتراضي في حالات الوفاة.
وقد تطول فترة انتظار الردّ على الدعوة أو تقصر حسب درجة وضوح ملمح “الطّارق” أو “الطارقة” ومدى الاطمئنان إلى ما يظهر من شخصيته(ا). أما إذا حدث أن خيّب هؤلاء الوافدون انتظارات أهل البيت، فيُطردون دون كبير ضجّة لأنهم يظلّون خاضعين لفترة تريّث بالفضاء الخارجي للسقيفة الأقرب إلى الباب المطلّ على الشارع … ثم يوصد الباب بالغانجو والترباس (وهو مزلاج حديدي يُستعمل لإحكام الإغلاق) كآلية حمائية مشروعة يُقابلها “البلوك” في الفايسبوك. أو منع أشخاص بعينهم من الاطلاع على بعض المنشورات أو “إبطال الاشتراك في تقاسم منشورات شخص ما” كإجراءات احترازية تسبق خطوة الكنس المبرّح.
كما يحدث أن يتمّ وضع الزجاج المكسور في أعلى الجدار الخارجي لمنع التعلّي عليه ومحاولة خرق حميميّة الفضاءات الداخلية أو السطو على محتوياتها، تماما كما بإمكان متساكني حوش الفايسبوك وضع جملة من التقييدات الفنية (كإتاحة طلب الصداقة من عدمها وتحديد من له إمكانية التعليق …) أو التنصيص في لوحة الاستقبال أن صاحب الجدار لا يقبل محادثات على الخاص أو يُعلن لجميع المارّين أنه لا يتردّد البتّة في استعمال قاموس زجاجي ومسماري جارح في صورة تسوّر جدرانه الخاصة.
الحركة داخل الحوش العربي من ناحية أخرى تكون موسمية وغير منتظمة، ينشط المتساكنون ضمنها مثل خلية نحل، الكل يعرف ما له وما عليه، من أشغال المطبخ إلى غسل الملابس ونشرها إلى نظافة البيت وعجن الخبز واعداد الشاي واستقبال بائع الحليب وانتظار مرور الدقّازة وأهل التنجيم… أما في الحوش الأزرق، فــ”الخوماضة” هي نفسها تقريبا، تتنوع الاهتمامات وتتعدد الاستخدامات وتختلف المآرب والمشارب ولكنها تلتقي في النهاية لتشكّل مجتمعا افتراضيا مُقيّسا يتحوّل ضمنه المواطن الرقمي الجديد إلى كتلة من أشكال التفاعل والانفعال وأنماط التفكير والتدبير وطرق التسيير تُحفظ بعناية دقيقة في خزائن عمالقة الشبكات الاجتماعية بكاليفورنيا لغايات قاتمة لا نعلم كُنهها إلى الآن.
يتماهى الحوش العربي كذلك وينسجم مع حوش الفايسبوك، فيحدث – خاصة بعد الانتهاء من المهام الصباحية المستعجلة- أن تنتصب أمام الباب الخارجي ما يشبه عربات البيع السريع غير المتقيّد بأي نوع من الضوابط المتعارف عليها في علاقة بدفع الضريبة المستوجبة وضمان جودة المعروض : فهذا يتغنّى بمزايا سلطان الغلّة، وهذه تُخرج درسها من القسم لتُلقيه على قارعة الفايسبوك، وذاك أعدّ العُدّة ليلا لينطلق في إطلاق صواريخ جُمل عُدوانية يكون مطلعها دائما “غبي من مازال يعتقد… وأبله من يتصور… وتافه من يقول…”، وتلك ضاقت بها سُبل الابداع فراحت تبيع حِكما يعرفها الجميع من قبيل ناس بكري قالوا “العرجون الي ما يجيبش الدقلة يلمّو بيه الزبلة” أو “حبيبك حبيب الشدّة، أمّا الرّخا الناس الكل تقدّا”…
وختاما يبدو أنه من الضروري الإشارة أيضا إلى أن الحوش العربي عندما تتوفر الإمكانيات المادية لهندسته بشكل مُكلف يكون محتويا على طابقيْن، طابق أرضي يخصص للجلوس والطبخ وإعداد العولة وفناء للعب الأطفال والأشغال المنزلية المختلفة وطابق علوي يؤوي أفراد العائلة المتزوجين وترتيب كل ما هو حميمي وغير قابل للتداول العام، كما “الحوش الفايسبوكي الأزرق” الذي يبدو أن مستويات التعامل داخله تخضع لذات منطق الطوابق والدّرجات، فإذ بالظاهر يصبح أقل عمقا من الباطن والخفيّ أمتن من الصريح والخاص أكثر سُمكا من العامّ.