قد يبدو عنوان المقال غريبا بعض الشئ إلاّ أنّه إذا ما ربطناه بالواقع الذي نشاهده ونعايشه في مدننا وشوارعها، فإنّنا سنجد لا محالة ما يبرّر هذا التوصيف لشوارع وساحات مدننا، رغم كثرة واجهات المغازات والدكاكين التجارية والمقاهي والمطاعم صغيرها وكبيرها، الشعبي منها في قائمة المأكولات والعصري، ومحاولات تزيينها بالأضواء اللماعة لإضفاء مسحة من الجمال على تلك الواجهات، جلبا لمزيد من الزبائن. ومهما بالغنا في التزيين فإن شوارعنا تبقى حزينة تنتظر لمسة إضافيّة تتدفع عنها الملل والضجر، وتحوّلها إلى مساحات تعجّ بالحياة والحركة والإبداع وتقدّمنا للعالم في صورة أحسن وأجمل.
الكثير من التونسيين توفّرت لهم فرص السفر إلى بلدان عديدة فشاهدوا القلب النابض للشوارع والساحات، وما فيها من أنشطة متنوّعة ومختلفة توضع كلّها ودون استثناء تقريبا تحت عنوان واحد ألا وهو الإبداع. فرق موسيقيّة تعزف هنا وهناك، رسّامون جعلوا من الشوارع ورشة كبيرة لتزيين لوحاتهم ورسم وجوه النّاس، ومجموعات راقصة وفضاءات للتزلّج يقضي أمامها الواحد ساعات وساعات دون أن يشعر بالملل، ومشاهد لألعاب سحريّة وباعة التحف والبطاقات البريدية التذكارية، وباعة الكتب القديمة، ومحرّكي العرائس، والحكواتي الذي يروي قصص الأساطير والملاحم، إلى غير ذلك من الأنشطة التي تعرف تحت تسمية ثقافة المدن أو ثقافة الشوارع « cultures urbaines » واللّافت أن كل هذه الأنشطة المجانية والرائعة لا تتطلّب ميزانيات ترصد لها ولا لجان تفكير وتخطيط إنّما هي أعمال إبداعية تلقائيّة تجد كل الترحيب من مرتادي المدن للسياحة أو لقضاء شؤونهم. هذا النوع من الممارسة التعبيريّة وجد طريقه في الولايات المتّحدة الأمريكيّة مع نهاية االستّينات من القرن الماضي.
ويجمع المؤرخون لهذا النوع من الثقافة أنّ Clive Campbellوهو مهاجر من أصل جامييكي والمعروف تحت الإسم الفنّي DJ Kool Herc هو أوّل من ابتدع هذا النوع الجديد من الثقافة في شوارع نيويورك وبالتحديد في حي البرونكس الشهير، من خلال المزج الموسيقي والخروج بنغمات جديدة كانت سببا مباشرا في ظهور الرقصة الشهيرة ” البريكدانس “. وغيرها من الإتجاهات الموسيقيّة والفنّية الأخرى مثل الهيب هوب والراب ثم الغرافيتي وهو فن الكتابة والرسم على الجدران، وغزت هده الأفكار تدريجيا كبريات المدن العالميّة وباتت من تقاليدها الثقافيّة التي يقودها شباب كان في وقت ما ثائرا على أوضاعه المعيشيّة الصعبة وبات وبسرعة عجيبة مبدعا يشدّ النّاس إلى فنّه.
وقد سارع الباحثون في مجالات مثل علم النفس وعلم الاجتماع وقبلهم علم الأنثروبولوجيا إلى دراسة هذه الظواهر وما سبقها من كلّ جوانبها ووضعوا لها الأسس العلمية التي تفسّرها من ناحية، وتثمّنها من ناحية أخرى. وبالمقارنة وهي مقارنة لا تجوز في كلّ الأحوال، تتميّز شوارعنا اليوم بقتامتها وبالحزن الذي يخيّم على الوجوه وبأكداس قمامتها وجحافل الذباب والناموس حسب الفصول و” نصب ” الخضار والغلال والملابس والأحذية القديمة والسلع ذات المنشأ المجهول. المسألة غير معقّدة تماما بل تحتاج إلى شئ من إعمال العقل وفسح المجال للشباب حتى يحوّل الأحياء التي يشاع عنها باطلا أنّها أوكار للعنف، يحوّلها إلى ميادين ثقافيّة تتعدّد فيها الاشكال التعبيريّة وتملأ كل الزوايا والساحات. لقد بيّنت دراسات عديدة أن هذا النموذج الثقافي ولّد طاقة خلاّبة وولاّدة لدى الشباب الأمريكي الذي انصرف تدريجيّا عن العنف والعصابات التي تمارسه وتحوّل إلى كائن مبدع بما تحمله الكلمة من معان.
إنّه بالفعل الحلم أن أرى مثل هذه الأنشطة في شوارع مدننا وقرانا، عندها سنكتشف كم أهدرنا من الوقت في سجالات لا طائل من ورائها وكم من فرصة جديدة نضعها أمام فئات كثيرة من شبابنا هي موجودة أصلا في الشارع وتنتظر الضغط على الزرّ الذي يخرجها إلى واقع جديد، وهنا يمكن لدور الشباب والثقافة في كامل جهات البلاد أن تخرج من سباتها الشتوي الطويل وتفتح نوافذها وأبوابها وتجعل من شوارعنا وساحاتنا مسرحا كبيرا يقدّم أنواعا كثيرة من التعبيرات الثقافيّة، عندها سنمسح تدريجيّا علامات البؤس والحزن التي تكسو شوارعنا ونلبسها حلّة من الفرح، وكم نحن في حاجة إلى نسائم الفرح.