جور نار

هندسة البطاطس ( 4 ج)

نشرت

في

Sidi Bouzid : 200 logements sociaux livrés à leurs bénéficiaires |  Webmanagercenter

عندي قناعة أن الصور السياحية (بطاقات بريدية سابقا) تنقسم عامة إلى نوعين: واحدة تخص البلاد المتحضرة العصرية وفيها معالم مما صنع الإنسان الحديث من تحف معمارية، وواحدة تخص الدول المتخلفة وهي تنحصر في محاسن الطبيعة أو آثار الأقدمين منذ ألفي سنة فأكثر.

<strong>عبد القادر المقري<strong>

وهذا يقيني له دلالات ولا أبلغ … ففي الأولى تقول لك الصورة إنهم أناس أحياء يبتدعون من المادة العادية (حجر، حديد، بلور، إسمنت …) معجزات وعجائب تتبارى في تفوقها وتفوق صانعيها … برج باريس، ساعة لندن، باليه موسكو، جنائن سنغافورة المعلقة، جسر سان فرانسيسكو … وفي الثانية تواكل على الطبيعة الربانية التي هي واحدة في كل مكان ولكنها محكومة بالموقع والتضاريس وعوامل المناخ وتنوع النبات والحيوان … أو تتكئ على إرث أنجزه الأجداد في الزمن البعيد ولكنهم صاروا رسما درس، ولم يخلفهم في المجد سوى أحفاد من القاعدين وباعة المظلات وسواق الإبل وأدلاّء السياح في أحسن الحالات…

وفي الوقت الذي تتبارى فيه العواصم حول أعلى ناطحة سحاب، وأطول شبكات مترو أنفاق، وأوسع الساحات العامة والحدائق الخضراء فتنة للناظرين … في هذا الوقت، يقتصر طموح عاصمتنا على “منقالة” لا يتجاوز ارتفاعها ارتفاع بعض أشجار الغابات الاستوائية، وشبكة “مترو” خفيف سطحية سرقت نصف طرقاتنا وصارت جزءا من مشكل الزحام المروي بدل أن تكون حلاّ، وحديقة في محمد الخامس اسمها مرة على حقوق الإنسان ومرة على شكري بالعيد، وفي كل الأحوال ما فتئت “تشرب” في مساحتها بعد أن غزت ثلاثة أرباعها المباني المشوّهة للشارع الجميل الظليل …

طبعا دون الحديث عن حالة هذه المعالم جملة وتفصيلا وصيانة، ودون التطرق إلى باقي مدننا وعواصم ولاياتنا، فتلك العصا من هذه العصيّة … مهندسونا هم مهندسو فقر ولا أدري من أين جيء لهم بذلك… فأنت حينما تتجول في شوارع تونس أو صفاقس أو سوسة أو بنزرت أو المتلوي أو باجة تلاحظ مشهدين متباينين … أوّلهما مباني رشيقة منطلقة في السماء عليها سمات مدارس الفن أواخر القرن 19 وأوائل العشرين … وهذه تبدو عليها غالبا أمارات القدم والإهمال وحتى التداعي بما أنها “موروثة من عهد الاستعمار” كما قد يعلق مذيع متحمس للوطنية مثلما يراها … وثاني المشهدين أفق لا متناه من المساكن المرصوصة المتشابهة كطوابع السكّر، تتخللها أحيانا عمارة واطئة من التي يمكن تسلقها بسهولة بدليل واقيات الحديد التي على نوافذها جميعا مخافة اللصوص … وهذه من منجزات ستينات القرن الماضي إلى اليوم، وكان باعثها الرئيسي الشركة العقارية للبلاد التونسية “سنيت” …

إذن بعقلية السنيت وهندستها ومهندسيها، شرعنا على بركة الله في أكبر عملية تسطيح وتتفيه عمراني عرفته البشرية … كل مدننا وقرانا وحتى مداشرنا حفظ بنّاؤوها مثالا عمرانيا وحيدا راحوا يتناقلونه مثل فيروس كورونا غير المأسوف عليه … ولكن الكورونا رحلت وهم باقون، ومعهم باقية هذه الأشكال الرتيبة من المربعات والمستطيلات البيضاء كالقبور، تخترقها أبواب ونوافذ زرقاء بلا حساب… فيما يرتفع ذلك قليلا في الشوارع الرئيسية، فيبقى الطابق الأرضي مستودعات مهيئة لكي تكون مقاهي ومحلات تجارية… وفوقها بركون طويل لا يستعمله أحد، وربما ضمه صاحب الدار إلى منزله فأغلقه بحائط ووسّع به بيت الصالة أو غرفة انتظار أحد الأطباء أو المحامين …

كل تونس تقريبا هي هكذا … وإضافة إلى هذا التشابه المقيت الذي يصيبك بالغثيان، يدهشك الامتداد الأفقي الرهيب الذي يأكل كيلومترات مسترسلة من الأرض لإسكان عشرين عائلة أو ثلاثين… أي ما تحويه في البلاد المتحضرة عمارة متوسطة لا تشغل أكثر من 500 متر مربع بمرافقها … وهذا ما خلق ضيقا وازدحاما خانقين في مدينة كصفاقس مثلا، وما يجعل من عاصمتنا أكبر مساحة من القاهرة التي تستوعب أكثر من ضعفي سكان الجمهورية التونسية قاطبة … أي والله …

وهات بعدها من مرافق متباعدة بعد السماء عن الأرض، وشبكات تطول وتتشعب وتتقطّع، ولجوء اضطراري لاستعمال السيارة ولو لشراء قتة معدنوس، وهذه الكروش المنتفخة التي صارت من ملامح شعبنا منذ يجاوز الثلاثين من العمر، وخاصة تلك الأراضي الزراعية التي التهمناها كلها تقريبا حتى لم تبق ضاحية هادئة أو ريف أخضر على مشارف كافة مدننا … مما حدا بكوميدي عبقري كنصر الدين بن مختار أن يقول ذات مرة: ” 5 سنين لقدام، اكبر فلاح تلقاش عندو محبس” …

ـ يتبع ـ

.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version