جور نار

ورقات يتيم … الورقة عدد 18

نشرت

في

الامّهات انذاك وبحرص شديد لحد الاختناق كنّ “يقرقنّ” بشكل دائم … اعني يعدن نفس الاسطوانة، ربما هو الخوف علينا و (احنا صغيّرين وما نعرفشي الحاجات دي!)، ربما التوق لكي يكون ابنهن الافضل الاذكى الاكثر نظافة وانضباطا …

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

وفي ذلك اليوم عيّادة “شدّت ما سيّبت”… توتّرت اعصابي بشكل غير معهود (اسمالله عليك يا سي كريّم يعملولك اعصاب ويعملولك توتّر زادة!) … كنت يومها في “طمبك” غضبي …ومن عاداتي التي مازلت احتفظ بها لحد يوم الناس هذا ..انني اصمت عند الغضب … في ذلك الزمن لم اكن ذلك الواعي بوجوب الصمت عند الغضب ولكن ربما وهبني الله نعمة كبرى فانا لا اغضب كثيرا وحتى ان حصل الجأ الى الصمت …يومها كان اول انفجار رهيب في حياتي وما اكثرها انفجاراتي …نظرت مليّا الى عيّادة و”فصّصت عيني في عينها لا حشمة ولا جعرة”، وصرخت في وجهها مزمجرا هائجا وصوتي ينطلق كالطوفان البركان: “تعرف انّو انت اكثر وحدة.. نكرهها في الدنيا!”

مااخيبك وما اخيب منظرك وما اخيب جد سماك يا عبدالكريم …(خسئت، اجلدوه يا قوم) …

لم تنبس أمي ببنت شفة ورايت في عينيها شلالات من الدموع ..رأيت عيادة تغالب ما بداخلها …رايتها موجوعة ..رأيت تلك المرأة الحديدية تصبح اخفّ من قشّة تبن … ياااااااااااه يا عبدالكريم تفووووووووه عليك هكة تعمل في عيادة ..؟؟؟ هكذا كان صوتي الداخلي يرّدد …ثم ما لبثت ان افقت على وجعها الحزين وهي تسأل: “انا اكثر وحدة تكرهني في الدنيا ؟؟؟” …وابى كبريائي المراهق ان يتراجع وأجبت دون ان انظر اليها: “ينعم انت”… انسحبت عيّادة من الميدان كفارس يجرّ اذيال خيبته وهو يرى فرسه الجامح يطيح به من اعلى صهوته .ويمرّغ انفه في الوحل …يومها كانت بدايتي مع التدخين ..قمت بلفّ قرطاس عادي ودخلت الى المرحاض واشعلته (زعمة زعمة ولّيت راجل ونترفز ونشعّل سيڨارو)…

كاد دخان القرطاس يخنقني ووصل سعالي الى مسامعها لتسرع الى طفلها وتسال: “اشبيك تكحّ ؟؟مريض ؟؟” …الأم التي قد تفقد مالها ..حليّها ..كل ما تكسب ..و لكن ابدا ان تفقد امومتها …اطفأت سيجارتي القرطاسية واجبت: “لاباس” … ابتعدت قليلا واذا بها تقول لـ”للّتها” فطومة (اختها الكبرى): “يخخّي شعّلت المجمارة ؟؟ ريحة القراطس في النار”….لم انس ذلك اليوم … ولم انس فعلتي الشنيعة بها ..واحمد الله انني شعوريا واراديا او لاشعوريا عشت طيلة عمري اقضم اصابعي واشعلها شموع فرح لها لاكفّر عن ذلك اليوم … كدت اقول الاسود … ولكن هو بالنسبة لي كان يوما اغبر واكثر فظاعة واشنع من كل الالوان المعتّمة .. كنت صغير السن نعم …وغفرت لي عيّادة بعد ايام لاتعدّ على اصابع اليد الواحدة نعم …ورحلت عنّي وهي تكلّل ايّامي بدعوات الخير والامتنان لما قدّمته لها ..نعم .. وفي قادم الورقات تفاصيل كثيرة في هذا الباب .. ولكن هل تصدّقون اني ولحدّ هذا اليوم لم اغفر لنفسي الوجع الحيني المدمّر الرهيب الذي سبّبته لها ذلك اليوم …

في تلك الحقبة وقبل انتقالي للمرحلة الثانية من التعليم الثانوي (مرحلة التخصص)، كان كل يوم يمر الا ويزداد حب اطّلاعي على فنون وجنون الحياة ..اصبحت افهم اتراب الحومة، الاكبر منّا، وهم يغشّون بعضهم بعضا بـ”كلام القباحة”… بل ما اعجبني وقتها وحتى في سن متقدمة انهم ثم اننا اصبحنا نتفنن في ابتكار انماط جديدة من “الغشة” نحتفظ بها لانفسنا بحق الملكية الادبية تأليفا واخراجا .. فهمت وقتها كذلك ان بعضهم يتعاطون اللواط …ولكن حذار من ان تصدح بذلك لا امام السلبي منه ولا الايجابي ..اي الفاعل والمفعول فيه …وفهمت ما معنى “العملية السرية “… وكلّما تسلّل “غشّير” ليشاركنا جلساتنا نحن الكبار (جماعة ال 15 فما فوق) نهرناه بشدة باعتباره “فرخ واش يفهم منّو”…

لم انس ايضا خلافات بعضنا التي تصل في اغلبها الى معارك بونية ..ولم انس اني لم اخض في حياتي اي عراك جسدي مع اي كان ..طبعا السبب الاول تفهمونه جيدا ..امكانياتي العضلية لا تسمح لي بالتسلط الا على اخوتي الاصغر منّي سنا ..ولكن ما يحسدني العديد عليه اني كنت احظى بحب كبير من اصدقائي ..وحتى اذا شاكست البعض منهم (وكنت ومازلت كثير المشاكسة) كانوا يضحكون و هم يهمّون بوضع لكماتهم على …لا تبحثوا عن جغرافية مكان معين في جسدي ستكتشفون من خلال اجاباتهم انكم تبحثون عن عنوان لا عنوان له ..كانوا يقولون: “بربّي اش فيك ما يتضرب” ؟؟؟…لكن الغريب انني كلما لعبنا كرة القدم في الحومة وخاصة بين بعضنا البعض (كنّا نعملو ما يسمّى قسمة) كان الجميع يحرصون على ان اكون ضمن فريقهم ..

وتواصل الامر طيلة ممارستي لكرة القدم سواء كان ذلك في الحومة او في المعهد .الحي . مع استاذ الرياضة المرحوم الهادي الحاج طيب، او في رياضة وشغل ضمن مؤسسة الاذاعة والتلفزة ..لم اكن لا العقربي و لا ديوة ولا حتّى هاكة الّلي خذاوه بـ7 ملياردوات وهو ما يسواش 7 قروش . مانتذكرش شنوة اللون اللّي يعيطولو بيه ..وباش ما نكذبش والله نتذكّر ….كنت عاديا جدا في فنياتي ..ولكن كانت تسكنني دوما الرغبة في الربح حتى “بالدّود” (كلمة تعني مباراة ودية) …وكنت رغم بنيتي الجسدية لا اتعب ..لا اكلّ ..اقاوم ولا اساوم ..مما جعل جل المدربين الذين تدربت عندهم لم يرسّموني يوما في قائمة البدلاء ..بل و بعد بلوغ سن رشد كروي معيّن اصبحت قائد الفريق ومنفذ ضربات الجزاء …ما نحكيش على ولد معلول ..نحكي على ولد قطاطة…

في سنة 2008 وانا اؤدّي عمرتي فوجئت في نزل مقر اقامتي بمكّة بصوت يناديني من بعيد بـ “يا عبدالكريم يا مجاهد” … لم انزعج وقتها فداعش لم يظهر بعد ومجاهدو النفير العربي لم يخرجوا من جحورهم … التفتّ فاذا به مدربي وقائد فريقي السابق بفريق الاذاعة والتلفزة التونسية منجي ساسي، ابقاه الله ..وبعد العناق والطبطبة المتبادلة على الكتف (قدّاش نحبّها الطبطبة المتبادلة على الكتف ..آش فيها ؟؟ نحبّها . ينعم نحبّها) …بعدها طفق المنجي يحكي لمرافقيه عن عبدالكريم اللاعب المجاهد ..تقولشي “غاتوزو” متاع ميلانو او ولد الكحلة والبيضة منجي عبد المولى في زمانو اللي وفي مباراة للسي اس اس ضد المكشخة “لبس طارق ذياب خنقو” …وكمّل ذويب شدّ تميم ..ووفات الحكاية 2 لصفر لفائدة الجمعية …ما تدهشوش من النتيجة وقتها سليم شيبوب مازال ماهواش رئيس الترجي …رغم انو خروجو من الترجي كان زادة في آخر مقابلة معانا ,,والنتيجة 2 لصفر وهدف زبير السافي الجلطوي ..وحتما ساعود في قادم الورقات لشيبوب حتما حتما حتما…

وحتى لا انسى لا يمكن ان امرّ على تلك المرحلة من تعليمي دون الترحم على زوج اختي …الذي وافاه الاجل في اواخر الثمانينات ..زوج اختي هو واحد من اسباب كل ما وصلت اليه في دراستي ..ابي وعند رسوبي في السنة الاولى عبّر عن انزعاجه من اعادة مصاريف سنة (“تحسايبني نكيّل فيهم انا الفلوس بالكيلة ؟؟ ما يساعدنيش .. ودبّر راسك في مصروفك العام الجاي”) …اي السنة الاولى المعادة… هكذا قال سي محمد الوالد رحمه الله… التقطها زوج اختي وهو ايضا اسمه سي محمد ..ودعاني لحانوته كان حذّاءا في المدينة العتيقة ..اشترى لي فطورا من عند اروع كسكروتاجي في الدنيا انذاك (الغمڨي بنهج الباي) رغم بساطة تركيبته (طرف سوس وبطاطة و…………….. فقط، ولكن لست ادري من اين له باسرار تلك النكهة الغريبة الى حد النهم ….الله يرحمك يا غمڨي …

بعد الفطور انتحى بي زوج اختي بركن من اركان حانوته الذي هو في حد ذاته ركن لا حانوت وقال: “اسمعني مليح اقرأ على روحك ومصروفك عليّا ونحبّك تنجح وكان نجمّت بعد ترجعّلي رجّع وكان ما نجمتش السّماح”… اين من عينيك هاتيك المجالي .. يا رجل الرجولة يا حلم الزمان ..هذا هو رجل اختي الغالي .. وكان ذلك ..ولي عودة لي وله في قادم الورقات…

وحتى اكمل هذه الحقبة …كيف لي ان لا امر على حدثين رسخا في ذهني كثيرا وكانت لهما انعكاسات وفيرة على باقي سنوات عمري …؟؟؟ الحدث الاول هو حرب بنزرت ..في تلك الحرب خرجت ولاول مرة في حياتي في مظاهرة وانا اردد دون وعي كبير ولكن باندفاع جد كبير: “الجلاء السلاح”… كانت الروح الوطنية التي تفجر الدماء في كل شراييننا لا يمكن وصفها ..كنّا انذاك لا نفهم في السياسة الا طراطيشها ..نعرف بالكاد خلاف بورقيبة مع بن يوسف ومع عبدالناصر … ومع هذا الثاني كنا نشاهد البورقيبيين (الدساترة) يخرجون في مظاهرات يردّدون فيها: “عبدالناصر يا بهبار للعروبة عملت العار” … فيما كانت اخبارنا في الاذاعة الوطنية تهاجم يوميا المذيع المصري احمد سعيد، وتناديه بـ “احمق التعيس” …الا ان حرب بنزرت عشناها بكل حماسة ..خاصة وصوت عليّة “يشرڨع” بكلمات عبدالمجيد بن جدّو ولحن الشادلي انور في واحدة اعتبرها افضل اغنية وطنية تونسية على الاطلاق: “بني وطني” …والافضل لا يموت ولا يفنى …

الحدث الثاني كان بتاريخ 6 فيفري 1964 … انت عمري … كانت كل وسائل الاعلام مصرية أو عربية تنتظر لقاء العملاقين عبدالوهاب والست الذي كان وراءه واحد من افضل من عرف العرب في تلك الحقبة: “الريّس جمال عبدالناصر” … ارجوكم هذا رأيي وانا دائما اكتب ما احسه واقتنع به… اذن.. كل العالم العربي كان يتطلّع بشوق الى لقاء القمم في السحاب وكانت:

“قد ايه من عمري قبلك راح وعدّى

يا حبيبي

ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة

ولا ذاق في الدنيا غير طعم الجراح

ابتديت دلوقتي بس

ابتديت احب عمري

ابتديت دلوقتي اخاف لا العمر يجري…”

. .ياااااااااااااااااااااااااااااااااه الستم معي ان مثل هذه الغيمات الممطرة فنا وذوقا ومتعة تدفعنا حتما الى التحليق في سحاب ما بعده سحاب …وحيث طبطبة ما بعدها طبطبة …اطبطبكم…

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version