جور نار

ورقات يتيم … الورقة 34

نشرت

في

Images de Femme Voilee Dessin – Téléchargement gratuit sur Freepik

احيانا يعيش الواحد منّا الزمن خارج الزمن ..فزمن الفرح غير زمن الصدمات والازمات ..ويصبح تعداد الساعات مختلفا تماما ..وتصبح الساعات كاذبة ..فساعة الفرح تتحول الى عشر ثانية، ودقيقة الأزمة تصبح جبلا من القرون الجاثمة على صدورنا ..

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

يوم جاءتني رسالة الاستغاثة من حبيبتي ورغم قصر المسافة بيني وبين مقصدي والتي لا تتجاوز زهاء الكيلومتر الواحد، احسست وانا اهرول بأني اشارك لأول مرة في سباق الماراتون مشيا… كنت اجري كطفل صغير ..لاهثا في قمّة عطشه ..واحسست انّ العشر دقائق تثاقلت لتصبح عشر ساعات …يجب ان اصل ..يجب ان اعلن ثورتي وغضبي عن سرقة واختطاف من احب ..ومن لي غيرها …؟؟؟ عيّادة ..هي ولا احد غيرها …وهل هنالك في الوجود من مثل الام لتحس بفجيعة طفلها ….؟؟؟ وقفت امامها خائر القوى كحطام طائرة … ونظرت عياّدة الى حطام طفلها وعبثا حاولت بنظرتها ان تعرف ما في صندوقي الاسود ..وسألت في ذعر: لاباس ..؟؟ ضربك حدّ؟ تعاركت انت وحدّ؟ اشبيه وجهك اّصفر ملخلخ ..؟

نظرت اليها بكل رجاء الدنيا وقلت لها: ولدك ماشي يموت …ولدك يحبّو يقضيو عليه … وارتعدت فرائصها: اسم الله على ولدي اشكون اش عملتلهم ..؟؟… ودون سابق مقدّمات ذكرت لها اسم حبيبتي … هي تعرف ولهي بها .. تعرف ابنها المتيّم بمن احبّ ..لذلك لم يفاجأها اسم حبيبتي وردّت: اشبيها .؟؟؟… وطفقت اسرد عليها ما حدث وخاصّة استحالة قبولي لهذا الخطب …نظرت إلي يعين حزينة وانهمرت منها الكلمات: عاد اشبيه ..تاخذ للّتها … يخّي ما اتخلق في الدنيا كان هي ..؟؟ _ وانفجرتُ: لا لا ..هي او لا احد … وبكل بساطة وحنّية وجدتها تردّد: ايه اش تحبّنا نعملو؟ هذا مكتوب ربّي … هي ربّي يهنّيها وانت تاخذ للّة النساء …واحنا يشرق علينا نمشيو نعاركوهم ..؟؟.. وانت يشرق عليك تمشي تعمل حاجة والا بوحاجة ؟؟؟ …. نحبّك عاقل وسيد الرجال …

لم يكن ارسالنا المشاعري يومها انا وعيّادة على نفس الموجة ..هي كانت ترسل على موجة طويلة المدى (العقل) وانا كنت ارسل على موجة قصيرة المدى (القلب)… انتفضت كجبّار مارد وقلت بشكل حازم: شوف ما نطوّلوهاش وهي قصيرة، تلبس سفساريك توة وتمشي تخطبهالي … وانتفضت عيّادة بدورها وهي جامدة في مكانها: نخطبهالك ..؟؟ اش عندك؟ زيتون بوك والا ورثة امّك …؟؟ اشنوّة تحبّني ضحكة قدّام ناس ما نعرفهمش ..؟؟ اش نقلّهم كيف يقولولي اش يعمل ولدك واش عندو ..؟؟؟ لم ادعها تكمل خطبتها الموضوعية والمنطقية …كنت اعرف ان ارتباط اي شاب بفتاة في ذلك الزمن يقاس بما يكسب لا بما يكنّه من مشاعر … بل قد يصبح الافصاح عن المشاعر جريمة لن تغتفر في حق من يحب ولكن انّى لي ان اعرف وقتها ….قفزت من امام عيّادة وبلغة التهديد والوعيد صرخت: شوف كلمة وحدة يا تمشي تخطبهالي توّة زادة موش غدوة، والا وجهي ما عادش تراه ..والله لا عاد تراه ..

عندما التفت بعد ذلك الزمن الى صنيعي وددت لو وجدت او اكتريت جلادا ليوثقني امام كل الناس ويهوى على ظهري العاري دون شفقة او رحمة ..تماما كما فعل جماعة قريش ببلال وهو يعلن عصيانه على اسياده…. كيف لا وانا لم ادع المجال لايّ صلح وبوجهي الصارم الا وعيّادة تلتحف بسفساريها ودموع القهر تنسكب من عينيها لتُنفّذ قسرا اوامر جلاّدها ..امّي كانت تعرف طفلها جيّدا ..كانت تعرف انّي عنيد جدا بل انّي العناد ..وكانت تدرك اتّي افعلها ..وانّها ستثكل في عبدالكريم اذا لم تنفذ وللتّو امره الهتلري القاصم لكبريائها وعزّة نفسها ..ولكن كانت تدرك ايضا اتّها يجب ان تفعل اي شيء من اجل وردة عمرها …اوليس المثل المصري يقول: من اجل الورد نسقي العلّيق ؟؟ وسارت عيّادة الى اهل حبيبتي “ساق لقدّام وعشرة التالي ..هايمة على وجه الارض من هنا تكوي ومن هنا تشوي”… هكذا روت لي بعد سنوات كيف عاشت الحدث الجريمة التي ارتكبتها في حقّ جنّة عمري ..في حقّ امّي الرائعة العظيمة وانا كالاهبل اسوقها الى الذل والاذلال ..

لم تكن المسافة التي تفصل بين حوشنا ومنزل حبيبتي تزيد عن الكيلومتر ونصف … ولكن وكما الزمن ..المسافات تطول وتقصر حسب الاحداث لا حسب المقاييس العادية البائدة والكاذبة … وتصوروا فقط زمن انتظاري لعودة عيّادة من الامتحان الرهيب ..نسيت وقتها الباكالوريا والمراجعة والاصدقاء ..وطفقت كامل قرون الانتظار اشعل سجائري “المنته”… كنت تماما كذلك النصف مجنون الذي لا يدري ماذا يريد رغم انّه يدري ..كنت لا ادري ايّ خطب فادح ينتظرني او ايّ بحر من الفرح سيغمرني واغرق فيه واتنفس تحت الماء دون ان اغرق ..يومها عرفت عمليّا ما معنى قطع كل الوقت وانا امشي ذهابا وايابا في انتظار عودة عيادة من مهمّتها كسفيرة فوق العادة لدولة مشاعري .. ولمحتها …انها هي تلك المرأة القصيرة طولا ..العظيمة حتى عنان السماء.. الكاريزما حتى ما فوق السحاب شخصية .. لم اجد ذرّة واحدة من الشجاعة كي اهرول اليها لاستقي اخبار الغزوة ..كانت رجلاي مثبتتين في الارض وكنت على نفسي ادور ادور ..هل احسستم يوما مثلي بما معنى الواحد منّا يدور وهو ثابت كعمود على رجليه ..؟؟؟ هل عشتم مثلي رهبة انفراج الستار لاكتشاف ما قد يكون وراء الستار ..؟؟

ووصلت عيّادة ..وهرعت عيناي مسرعة لقراءة ما في عينيها …وخارت قواي..كنت طوال عمري اعشق فكّ رموز الاعين وما زلت ..ولئن اكّد العلم انّ هنالك شيئا ما داخل الاعين البشرية هي كالبصمات لن تشترك عين واحدة مع عين اخرى فيها ..فاني كنت وما زلت التجئ الى عين محدّثي صديقا كان او طالبا او قريبا ..لابحث في عينيه عمّا لا يستطيع قوله ..وكم كانت الاعين تستجيب لبحثي لتعرّي صاحبها مهما حاول التخفّي ..خارت قواي وانا المح عينيّ عيّادة …وزاد انهياري وانا ارى الدمع فيهما ..رغم انّها لم تكن يوما من اللواتي يبكين بسهولة ..اتذكّر جيّدا انّها كان تردّد دوما: يعطيهم شيّة الدموع ..كيف نستحقهم في همّ ما نلقاهمش… ولكن ايّ هم اكبر من همّها وهي تعود منكسرة كسفيرة فوق العادة في الامم المتحدة وهي تحاضر من اجل سعادة واسعاد ولدها ..احسست وقتها انّها حاضرت على منبر الامم “المتخذة” … لم استطع النظر اليها …كنت الدمار بعينه وسالت وبصوت يكاد لا يُسمع الا باذينة القلب: اش قالولك ..؟؟ وجاوبتني ودمع العين يسبقها: قالولي احنا ما عندناش طفلة تحب … وقول لولدك راك مازلت صغير و يمشي يقرا على روحو خيرلو … هل تصدّقون اني اكتب لكم الان وانا في حاجة غامرة لصدر ابكي عليه …عيّادة الغالية يّقال لها هذا الكلام ..؟؟

ياااااااااااااااااااااااااه ما اخيبك يا عبدالكريم …اهكذا انت بكل هذه البشاعة ورّطت عيّادة ورميت بها في الوحل ..؟؟ مسحت أمي بكُمّ سفساريها دمعها وانتفضت وهي ترى ابنها مهزوما وقالت: اما انا ما سكتّلهمش …قلتلهم ولدي مازال صغير ايه ..اما هو في يوم من الايام يكبر ويكمّل قرايتو ويولّي سيد الرجال… هي قالتها نعم ..وكانت تدافع عن كبريائها الجريح وتدافع عن طفلها المكلوم … وعادت عيّادة الى هدهدة وليّدها: وراس ولدي اللي ما تاخذ للّتها ..وختمت تغريدتها بدعوتها الشهيرة: برّة ولدي راجع على روحك . امتحانك عادك بيه جاء .. يجعلك هلال على روس الجبال ..الشمس لا تحرقك والعدو لا تلحقك …

وقتها لم اكن اسمع كثيرا ولم اكن ارى كثيرا ولم اكن انا كثيرا ..كنت قطعة فراغ … وما افظع ان يكون الواحد منّا “لاهو هوّ ولاهو موش هوّ”… لست ادري كيف تحاملت على نفسي وغادرت الحوش … ولست ادري كم قضّيت من الزمن للوصول الى اصدقاء المراجعة .._ الزمن .. الزمن .. الزمن .. ما اقساه وهو يضحك على ذقوننا بكل شماتة .. ووجدت صديق عمري ينتظرني وبادرني بالسؤال بعد ان انتحينا ركنا منزويا: (اش صار لاباس؟ تي اتكلم يا …) نظرت اليه وبدأت بخاتمة ما حدث قائلا: خوك حلت به مصيبة …وقصصت عليه ما حدث “من طقطق …لسلامو عليكو” … ورغبة من رضا في تمييع الحدث وتخفيض هول ما حدث لي، ردّ على طريقتنا انذاك: (بول عليهم يعطيهم … توة موش وقت حب …الباك تستنى فينا ..ننجحو ونمشيو لتونس ونعيثو فيها فساد وطز فيهم…هو يعرف مدى تعلّقي بفتاتي لذلك لم يجرؤ على مسّها بايّة عبارة نابية ..

لم اردّ على ثرثرته وعدت الى: شك .. ضباب ..حطام .. بعضي يمزّق بعضي يمزّق بعضي…لم يعد يفصلنا على موعد اجراء امتحان الباكالوريا الا بضعة ايّام ..كابدت فيها نفسي حتى اتناسى ما حدث وانشغلت بقراءة الى حدّ الحفظ آخر ما صدر لنزار قباني من شعر _ ديوان هوامش على دفترالنكسة… والذي يحتوي على ثلاثة قصائد كتبها الكبير نزار بعد نكسة جوان ..كنت قبل ذلك الديوان التهم التهاما ومنذ بداية مراهقتي كل ما صدر له مفتونا بما ينثره قلم شاعر المرأة والحب من عناقيد ابداع …الان ديوانه الاخير فتح عيتيّ على لون جديد في اشعاره لم يكن يصيغها من قبل وهو يصرّح بذلك بقوله: مالحة في فمنا القصائد .. مالحة ضفائر النساء والليل والشجار والمقاعد ..يا وطني الحزين… حولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين .. لان ما نحسّه اكبر من اوراقنا .. لابدّ ان نخجل من اشعارنا ..نزار في شعر سياسي …

وجاء يوم الامتحان ..كنت كعادتي هادئا متوازنا رغم الخطب الجلل… منتصب القامة ذهبت الى معهد الهادي شاكر في اليوم الاول من الامتحان .وجاء موضوع الفلسفة: الحرية لا تُعطى بل عمل يجب القيام به… شيّخني برشة الموضوع وعطيت كل ما عندي في واحد من اهم مواضيع الفلسفة الحريّة… وجاء موضوع العربية: الشاعر ابن بيئته حلل وناقش … وهذا طرت بيه ..تجولت في مدار الشعر منذ العصر الجاهلي مرورا بالاسلامي والاموي والعباسي والحديث والمعاصر حتى ديوان هوامش على دفتر النكسة ..اخترت من الجاهلي عنترة ..لا تسقني كأس الحياة بذلّة، .بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ..وطرفة … اخترت من صدر الاسلام حسان بن ثابت ….ثم مررت الى عمر ابن ربيعة وابي تواس وجميل بثينة ..وليت هندا انجزتنا ما تعد ..وشفت انفسنا مما تجد ..واستبدت مرة واحدة ..انما العاجز من لا يستبد …وصولا الى اكبر واعظم واروع شاعر عربي في العهد العباسي وفي كل العهود ..انا الذي نظر الاعمي الى ادبي .. واسمعت كلماتي من به صمم …المتنبي ومن غيره؟ ..

انتهاء بالشعر الحديث وتحديدا شعراء المهجر… وختامها نزار ابن القباني الدمشقي الذي احترف الهوى .. ان الهوى في طبعه غلاّب . كما جاء في قصيدته يا تونس الخضراء …نزار . شاعر الحب والسياسة …في كلمات، فتّقت مواهبي بكل ما احفظه لهؤلاء خاصّة اني مع سي محسن الحبيّب استاذ العربية كنا محظوظين لاننا في هذا الباب قمنا باحد الفروض . ونلت كعادتي 12 افضل عدد …المواد الاخرى كنت كعادتي… ضعيفا جدا في الرياضيات والفيزياء… فوق المتوسط في العلوم… قريبا من الحسن في التاريخ والجغرافيا نظرا إلى لارقام الكثيرة في هذه الاخيرة… وحسنا في الانكليزية …. لكن بالنسبة لنا تلاميذ شعبة الاداب الكلاسيكية “أ” في تلك الحقبة، المهم تسلّكها في العربية ضارب 4 وفي الفلسفة ضارب 6 …

انتهت اختبارات الباكالوريا ..وعدت الى شلّة الاصدقاء ..ولاعمالنا اليومية ويا لها من اعمال ..كورة وبولاط وسهريات في الاعراس التي نعرفها والتي لا نعرفها حيث لا تنفع معنا العبارة المشهورة انذاك لكل من لا يقبل المتطفلين لحضور فرحه “جو عائلي”… وهي بمثابة الورقة الحمراء التي تعيد كل من هو غير مرغوب فيه الى خارج ملعب العرس ..هذه العبارة لا معنى لها عندنا نحن بورة الكحلاوي والا “نبلبزوها”… واتقاء لشرّنا يُسمح لنا بالدخول خاصة ونحن لم نبلبزها يوما مع ايّ كان … المُهم يعطيونا قدرنا ..

بعد الامتحان بيومين …وصلتني رسالة موجزة منها … نعم من حبيبتي ..تقول: دارنا عطاو الكلمة لدار العروس ..اما ما تخافش انا معاك وليك انت اكهو … وهرولت مسرعا اليها ..ومن تكون غير عيادة ,,؟؟؟ وعانقتها بكل عنف حنون قائلا: قلتلك راهي تحبّني شوف اش بعثتلي..؟؟ وسردت عليها الكلمات الموجزة والتي كانت عندي اكبر من ايّ مجلّد .. ونظرت اليها فاذا بها تردّ ببرود واتّزان: اللي يعطي ربّي مبروك .. اندهشت من هذا الموقف الذي كم هو شبيه بالنهر المتجمد لميخائيل نعيمة -يا نهر هل نبضت مياهك وانقطعت عن الخرير .. ام قد هرمت وخاب عزمك فانثنيت عن المسير ).. لم يكن في اعين عيّادة ايّ معنى للحياة… كانت باهتة الى حد التجمد ..فعلّقت في دهشة: اشبيك ما فرحتليش ..فاجابت وبنفس الهدوء المدمّر: يا وليدي حتى يولد ونسميووه ._….

لم افهم يومها ما عنت .. وهل للمحبّ ان يخضع قلبه لسكانر العقل … مهبول اللي يقول ايه …ولانني اعرف واعشق هبلتكم فها انا اصرّ اصرارا على ان المحبّ مهبول او لا يكون …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version