جور نار
ورقات يتيم … الورقة 39
نشرت
قبل 4 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
سنتي الاولى بالعاصمة كنت فيها كاغلب شباب تلك الحقبة ..هذه احبّها وتلك اريدها …عقلية الرجل الشرقي عموما كانت تسكننا ومازالت ..
سي السيّد عند نجيب محفوظ في ثلاثيته، هو واحد منّا ..اذ للحبّ عالمه السحري المُغلق والعفيف وللاخريات الحاجة او الرغبة او الشهوة وهي المحدّدة فقط لوجودهنّ …لذلك لم تنقطع علاقتي بمن احببت رغم قلّة التواصل والخطابات ..فقط اختي الصغرى هي الوسيط والتي كانت تؤكّد لي دوما بأن حبيبتي على العهد وانّها لي ولن تكون لغيري …تلك الوعود كنت اخبّئها في صندوقي العاطفي تماما كما تخبّيء فتاة ريفيّة جهاز عرسها (بالقطعة بالقطعة) في انتظار فارسها الذي قد يأتي وقد لا يأتي ..
عندما عدت في جوان الى صفاقس للتمتّع بعطلتي الصيفيّة القصيرة ..كنت اُمنّي النفس بلقاء حبيبتي ..واللقاء اعني به رؤيتها صدفة، و”من بعيد لبعيد” لا اكثر … تلك كانت لقاءات العشاق في مدينتي عموما .. فلا جردة الباساج ولا هم يتشابكون ولا استوديو ابن خلدون ولا هم يتمرّغون …وفّتح الباب …انها حبيتي صحبة اختها التي تكبرها …ماذا ارى ..؟؟ هل فُتحت ابواب الجنّة….؟؟؟ هل خرج سكّان القبيلة من قبورهم ليعلنوها ثورتهم على القبيلة ؟؟؟… ايّة جرأة هذه؟ … انا لم اكن احظى بعُشر لقاء فاذا بي التقيها بمنزل اختي ..؟؟ وعلنا وبحضور عرّابتها اختها ..؟؟؟ ماذا حدث للعادات والتقاليد ..؟؟؟ فركت عينيّ وكأنني استفيق ليس من حلم جميل بل على حلم جميل …هل تصوّرتم ما معنى ان يستفيق الواحد منّا على حلم ..؟؟؟
قد لا يستقيم المعنى عندما نحاول الربط بين الافاقة من نوم وحلم على حلم ..ولكن وفي المشاعر يجب ان نُبعثر اللغة والربط وكل القواعد من صرف ونحو وبلاغة …اذ للمشاعر قواعد ها الخاصّة بها ….انا افهم ما معنى ان يبكي الانسان وهو في قمّة سعادته ..رغم انّ البكاء عادة ما يرتبط بالنّكد والحزن …انا افهم ما معنى ان يصبح الفاعل في المشاعر مفعولا به … ثم يدخل في نفس الوقت في رحاب الفاعل فقط ليتمتع بضمّته … اليس الفاعل مضموما ..؟؟ انا افهم ما معنى ان يصرّفوا الفرد في المشاعر من المفرد في صيغة الجمع ..اليس من نحب هو مفرد في صيغة الجمع لنرى فيه كلّ العالم الوردي وبكلّ رياحينه… وطزز في ابي الاسود الدؤلي واضع علم النحو ..وطزز في سيبويه تلميذه …وطزز في الخليل ابن احمد واضع علم العروض وقوافيه وبحوره ففي العشق لا بحر الا الكامل ..ولا قافية الا تلك التي تنتهي بحرف الباء وهي كما تعلمون اعزّكم الله آخر حرف في الكلمة القاموس: الحب …
نظرت الى عينيّ حبيبتي فلم ار الا نظرة خجولة ..عينان سادلتان ساجدتان الى الارض …انه الخجل منّي ومن اختي وعيّادة التي التحقت بنا لتستشفّ الامور …تقدّمت اختها (بعين صحيحة) وقدّمت لاختي مجموعة من الظروف ..تسلمتها اختي الكبرى وسألت: هذوما اشنوما ؟؟؟ كانهم جوابات عرس عرس اشكون ربي يكمّل ..؟؟؟ … ودائما وبنفس العين الصحيحة اجابت الاخت: عرس “ما ابلدك” …نظرت عيّادة اليهما ..وبسخرية ممزوجة بألم ، نطقت بصوت خافت: ربّي يكمّل …وقتاش ان شاء الله؟ ..لم اتركها تجيب وانفجرت: هكة وبكل وقاحة جيت تستدعيني لمأتم حبّي …العيب موش فيكم… فيّ انا اللي حلّيت الباب لناس ما يسواوش ..
حاولت اختها الكبرى تبرير الموقف بزعمها ان اخوتها الرجال اجبروها على القبول وبأننا نحن في مجتمع لا يعترف بالحب والمشاعر وبأنو في الاخير مكتوب …وأنّى لمراهق مثلي انذاك (يساري زعمة زعمة) ان يعترف بالمجتمع وقوانينه …وبالمكتوب وبسطوة العائلة .. كنت ارى في حبيبتي خضوعا للمادة لا غير ..فانا الفقير الذي لا يملك انذاك سوى منحتي ولم اكن من ورثة قارون.. لا معنى له …لا وزن له ..لا قيمة له … امام غريمه (المهندس قدّ الدنيا) كما يقولون عنه والذي هو في الحقيقة لم يكن سوى فني سام …وفهمت عيّادة الحكاية كما اراها واردفت: صحيح ولدي ما عندو شيء ومازال صغير، اما يجي نهار ويولّي سيد الرجال موش كيف هاكة الشايب اللي خذاتو …
لم اترك ايّ مجال لاختها لمواصلة الحوار البيزنطي … وطردتهما واغلقت الباب…. ودلفت الى داخل المنزل …واعادت عيّادة نفس الاسطوانة …”ريح السد يرفع ما يرد ..تاخذ للّتها” ..امي يومها وكأنها انتقمت لكرامتها عندما عادت ذات يوم وهي تجرّ اطراف سفساريها دامعة العين عندما سخر اهلها منها وهو يقولون لها (ولدك اش عندو؟ …واحنا ما عندناش في سبرنا الحب … قللو يقرا على روحو خيرلو) … اما اختي الكبرى فكانت من جهتها سعيدة جدا بنهاية علاقتي بها ..ليس شماتة في اخيها ..ابدا ..بل لان حبيبتي كانت شقراء ..بينما هي سمراء …ورغم كل الاغاني التي تتغنى بالسمراء البشرة من “ع الاسمر ياما قالو” ..الى “اسمر يا اسمراني” …الى “سمراء يا حلم الطفولة” مرورا بـ “يا سميْرة يا سميرتنا يا منوّرة حومتنا” …جل الفتيات انذاك كُنّ يعانين من عقدة السُمرة لأن حديث الامهات والجدّات كان في محور الجمال عند المرأة يتلخّص في الاتي: بيضاء حمراء يا للاّ ..وشعرها طويل يضرب لوسطها …وقدّ كيف السرولة ..وعين كحلة كيف الغزالة ..وحواجب كيف الهلال.. وشفايف جويّدة (اينكنّ يا جماعة البوتوكس!) …ومعصم تبروري …وفارات سمحة … عندما تتردّد هذه الاوصاف مرّات ومرّات في آذان السمروات رغم كل الاهازيج التي تتغنّى بسمرتهن، تصبح السمرة عقدة … وربّما تفطّن الكبير الجموسي لهذا الاشكال فاذا به يقسم باغلظ الايمان في معركة العيون (بالحرام لا نسيّبكم الاثنين …
ما حدث ذلك اليوم كان مفصليا جدا في مواقفي من المرأة ..يعملها واحد والاصح وحدة يدفعو الثمن القادمات ..المرأة اصبحت عندي عابدة للمال … بلا مشاعر بلا زفت… تلك خرافة و تلك كذبة كبرى .. المرأة ومنذ يومها لم تعد تستحق ايّ تقدير ويجب ان اتعامل معها بمنطق واحد (اللي يعطيك زنبيلو عبّيلو) …وعدت الى تونس في بداية جويلية …اكذب جدا ان قلت اني نسيت ما وقع وقتها بل الاتعس اني يوم زواجها 23 جويلية ..لم انم … كنت ومنذ اوّل يوم في علاقتي بها عند حادثة الحافلة و”ما ابلدك” تلك التي سخطتني بها …ك نت اكتب مذكراتي معها … بالحب الجارف وبكل ما يعيشه المراهق من احلام وردية ..ويوم زفافها كتبت مذكّرتي بعنوان (المذكرة الحمراء الدّامعة) الخّصها لكم في: “قدّام عينّي وبعيد عليّ .. مكتوب لغيري وهي ليّ” … لست من المغرمين كثيرا بفريد الاطرش ولكن تلك الاغنية وجدتها الاكثر صياغة لما احسسته ليلتها ..
رضا صديقي كان متألما هو ايضا لما حدث ولكنّه في حياته عامة كان براغماتيا …هو من الذين لا ينتكسون مشاعريا …لذلك كان يردّد لي دوما ..تي تمشي (تييلت) ويضيف، حاشاكم: بول في الخرب قبل ما تولّي جوامع . ..من جهتي كان هاجسي الوحيد كيف انتقم مما حدث .. عبدالكريم الزناتي لا يعترف بالهزيمة … ويجب ان يدفع صويحباتها الثمن .. علاقاتي مع المقررات التي كانت تنطلق من زاوية الحاجة اصبحت تنطلق من لاشعور الانتقام ..قلت لا شعور لأني طيلة حياتي وحتى في احلكها لم اكن قادرا على فعل الانتقام ..فالانتقام عندي نوع من الجبن الاخلاقي ثم لماذا انتقم ..؟؟ اليس البشر هم خليط من قابيل وهابيل ..اليس من المنطق الاسلم ان نكون من فصيلة هابيل ..اليس الاجمل ان نملأ داخلنا بالغفران والعفو ..الانتقام عندي هو عافاكم الله كسرطان ينخرنا قبل ان ينخر الاخر ..فكيف لعاقل ان يملأ داخله بسرطان (رعم اني من برج السرطان) ولكن يبدو انّ الله وضعني في برج يؤمن بالنور والبناء والحب … فحمدا لك يا رب على انك شرحت صدري ووضعت عنّي وزري …
عدت الى تونس وعدت الى الدراسة …وعادت همومي مع اللغة الفرنسية …وحتى في بعض الامتحانات الجزئية طوال السنة الاولى ونصف السنة الثانية كنت تقريبا (اليف لا شيء عليه) رغم انّي كنت ارى بأم عيني بعض زملائي مهرة في “التفسكية” (الغش في الانتحان) الا اني لم افعلها يوما طيلة ايامي الدراسية … كم احس باهانة نفسي وانا الجأ الى الفوسكا … عزة نفسي مانعاني على حد قول احمد رامي …اردت دوما واريد لحد الان ان اكون انا ..انا بكل ما فيّ من نقائص..دون تجميل دون زيف … وهذا سبب من الاسباب الهامة التي جعلتني لم اخطب يوما ودّ السياسة والاحزاب رغم كثرة خُطّابهم على بابي…ارى نفسي ارفع من اكون واحدا من القطيع ومهابيله وانتهازييه بدعوى الانضباط كالذين يطأطئون رؤوسهم لاسيادهم وينفّذون …ما قيمة الواحد منّا وهو يعيش حياته كبيدق يحرّكه الاخرون كما يشاؤون .. وعفوكم ..لا تظنوا ابدا اني مهووس بفكرة القائد (اي أكون قائدا او لا اكون) ابدا ورحمة عيادة …ولكن كنت وما ازال مسكونا بفكرة الانسان… الانسان الذي يتعلّم دوما وقد يُعلّم احيانا ….وابدا ان اتخلّى عن قناعاتي ..قد اخسر وخسرت البعض من اصدقائي لهذا الذي يراه البعض تعنّتا ولكن دعوني اذكّر بأني ابوس رجل ايّ كان ذاك الذي يُقنعني بأني على خطأ لانه يُصلح فيّ ما اعوجّ ..اما عدا ذلك فانا “قاراقوش” على حالي…
انتهت السنة ونصف الاولى في دراستي وجاء وقت الامتحان النهائي قبل التربّص التطبيقي الذي سيكون في الستة اشهر الاخيرة … كنت وانا اعيش الامتحان قلقا جدا … كنت مدركا ان نجاحي فيه صعب للغاية ..فانا لا استوعب الا القليل …ويوم الامتحان كل طالب بما في انائه يرشح ..وظهرت النتائج ..وقبل الاعلان عنها طلب منّي مدير المركز المهندس الفاضل السيد الباجي صانصة ان آتيه الى مكتبه ..انا دون الاخرين …؟؟؟ مالذي سيحدث … سي الباجي صعيب وربي يستر … وذهبت ..ها انا امامه اقف بكل وجوم وحيرة ..صمت سي الباجي طويلا وهو يتامّل وجهي الباهت ثم قال: شوف عبدالكريم، ثمة حاجة فيك “سافا با”… تساءلت لاباس سي الباجي ؟؟؟ لم يتأخر بالاجابة وقال: امّا موش انت اللي عدّيت الكونكور او ما قريتش على روحك …ورددت بسرعة: يا سي الباجي والله انا اللي عدّيت الكونكور ..فأردف: مانيش فاهم كيفاش انت عدّيت وكنت من الاوائل في المناظرة وتوة بعد الامتحان انت في المرتبة الاخيرة ..تنجّم تفسرلي؟؟ …
لم افاجأ بالنتيجة بتاتا ..كنت الوحيد شعبة آداب كلاسيكية “أ” من بين كل زملائي بمركز التكوين… وكنت رديئا جدا في اللغة الفرنسية ..واوضحت له هذا الامر ..صمت طويلا ثم قال … والحلّ؟ ..اجبت دون اعمال فكر: ما نعرفش … نظر اليّ نظرة الاب الحنون وقال بكل هدوء: انا احساسي يقلّي انّك ما تكذبش ..وساعطيك فرصة لتثبت بها قدراتك ..التربّص التطبيقي سيكون مع استاذ ايطالي يعمل بالراي اونو وهو من اشهر وامهر المركبين… وحتى هو يطشّ طشّان في الفرنسية… وجهدك يا علاّف ..وقتها ماعادش عندك حجّة …طأطأت رأسي احتراما لهذا المدير الرائع وقلت: ان شاء الله ما نخيبلكش ظنّك …اردف بسرعة: انا عندي ثيقة فيك …ما اروع واعظم واجمل ان يضع على عاتقك هذا الحمل الثقيل والجميل رئيسك او استاذك او كل من يُوكل لك امرا وهو يقول (عندي ثيقة فيك)… عبارة كم هي موجزة ولكن كم هي دافعة للتحليق عاليا خاصّة عندما نحسّها بشكل دين يجب تسديده يوما …
وانطلق التربّص التطبيقي مع المركب الرئيس …الايطالي السيد جوزيو … عندما رايته اوّل مرّة كان هنالك تناعم حسّي حدث بداخلي لم ادر مأتاه .. مدرّس شاب وكسائر الايطالين انيق جدا …ديناميكي وكسائر الايطاليين ايضا ..لكن ليس هذا ما حدّد التناغم الحسّي … هل انتم معي في انّ التناغم عالم سحري لا يُفسّر بالمنطق المتداول ..؟؟؟ هل انتم معي مرّة اخرى في انّ بعض الألفاظ تصبح جوفاء عندما نحاول التعبير من خلالها عن هذا التناغم؟ ..وددت يوم رايته اول مرّة ان اقول له كم احببتك ..واكتشفت بعدها ان هذه العبارة لا قيمة لها بل هي خرقاء لتعبّر عن التناغم السحري ..بعد سنوات من عمري اكتشفت عبارة لا تعترف مرة اخرى بقواعد اللغة والصرف والنحو في اللغة الفرنسية اذ اني الغيت من قاموسي عبارة Je t’aime لأعوّضها بـ Je t’amour …قد يصيح البعض (كيفاش هذي ما تصحش في اللغة الفرنسيّة ؟؟)..وتراني اضحك منهم واهتف بصوت عال تصحّ وتصحّ وتزيد تصحّ Je vous amour واللي ما عجبوش يشكي للعروي …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
محمد الزمزاري:
لقد كشفت الانتخابات الرئاسية عن عدد من المعطيات و الحقائق منها ان الشعب التونسي مسكون بالرغبة الجامحة في كنس كل علق من رواسب عشرية حكم الاخوان… وهي رغبة تجد شرحها في تمسك التونسيين بالأمن و الأمان والقطع مع ما عاشته تونس من ارهاب واعتداءات ونهب و تسيب في الإدارة ومسالك خدماتها وتوسع مافيات التهريب و المخدرات التي انضمت إلى ما ذكرنا.
سابقا… كان الشعب التونسي ميالا إلى التغيير في اول فرصة انتفاضة مع تردي أوضاعه الاجتماعية إلى حد غير محتمل ( جانفي 78، انتفاضة الخبز في الثمانينات، الحوض المنجمي، ثورة “البرويطة” في 2011)… لكن يبدو أن هذا الشعب الذي مر بأيام ضنكة جدا بسبب فقدان ممنهج لبعض المواد الضرورية من المافيات السياسوية التي كان تسعى لاثارته ضد السلطة وايضا من المافيات المالية الفاسدة التي كانت مسكونة بالخوف على كيانها و متوجسة من المحاسبة التي ضربت البعض من باروناتها الكبار دون تردد…
نفس هذا الشعب اثبت هذه المرة انه اكثر نضجا من كتل المعارضة، إذ فهم “الحبكة” و واجهها بصبر أيوب معتمدا على رصيد الثقة في الرئيس الذي لم يتوان عن فتح واجهات متعددة في وقت واحد و اثبت شجاعة كافية تبعث الأمل في قوة سلطة القانون وضمانات حماية مستدامة … وحتى نكون موضوعيين في طرح مشكلة النقص الذي وصل إلى أوجه خلال السنة الماضية خاصة، يمكن القول ان للديوان الوطني للتجارة دورا في كبح بعض الواردات ضمن خطة وطنية موجهة لتعديل مخزون العملة الذي نزل إلى اقل من 50 يوما في عهد حكم الاخوان ..
عملية التقليص من استيراد بعض المواد حققت هدفها لكن على حساب متطلبات المواطنين من أجل كنس خطة المافيات، اكثر حتى من المساهمة في خطة السلطة الساعية إلى تقليص العجز التجاري و دعم مخزون العملة الصعبة و اجتناب التداين المتراكم خلال العشرية السوداء … الشعب عبر عن ثقته وعن براغماتية فاقت ما تغرد او تنعق به بعض الاطراف الانتهازية او المتظللة بجهة معروفة..
وجدير بأن نشير أيضا إلى ان الانتخابات الرئاسية الأخيرة قد سجلت عددا من الاستنتاجات الواقعية:
لأول مرة في تاريخ تونس يتم تنظيم انتخابات نزيهة ففي عهد بورقيبة نذكر جيدا مذا وقع من تدليس وردم للبطاقات التي صوت اصحابها لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين في الانتخابات التعددية الوحيدة سنة 1981… وفي عهد بن على لا فائدة من ذكر المباريات التي كانت تقوم بين مختلف ولاة الجمهورية فيمن تصوت ولايته أكثر لبن علي … أما في رئاسية ما بعد الثورة فقد تم تعيين المرزوقي دون أية انتخابات لكن أفرزته بالصدفة انتخابات تشريعية راينا خلالها العجب العجاب في حشد المواطنين من أجل التصويت للنهضة… من حقق الطماطم وارطال المكرونة و انحراف نشاط الجمعيات و الأموال المشبوهة وتوظيف المساجد (من لا يصوت للنهضة فهو كافر ) …
إثر هذا الطرح الذي قد يعجب او لا يعجب العديد حسب لون النظارات التي يحملها على عينيه و تطلعاته، لنر ماذا ينتظر الشعب من فترة حكم قيس سعيد القادمة ؟
يبدو جليا ان موضوع التشغيل يأتي في اعلى هرم أولويات الشعب التونسي وخاصة شريحة الشباب وبالأخص خريجي التعليم العالي… أما المشاغل الثانية فهي تتمثل في ضرورة الضغط على الغلاء الفاحش في الأسعار وضمان طاقة شرائية معقولة لدى الأسر التونسية التي تعاني من نتائج ما يدور في ثنايا السوق من غلاء و مضاربات و ترفيع في الأسعار وحتى الغش…
على السلطة التفكير جديا في تحديد اسعار منخفضة خاصة للمواد الضرورية ..فاللحوم الحمراء تستوجب الا يفوق سعرها 10 دنانير / كلغ… أما لحوم الدجاج فيتوجب تحديد سعرها بـ 5 دنانير للكيلو والبيض 600 مليم… كذلك ضرورة التخفيض من سعر زيت الزيتون حتى لا تجد الدولة نفسها تدفع (مقابل عجز ميزانية المواطن عن اقتنائه) أكثر من الفارق، تكاليف علاج للأمراض الناتجة عن عدم تناوله …
اسعار الخضر وقفّة المواطن عليها ان تتعدل باتجاه التوازن… ليس هذا فقط فاسعار الكهرباء و استهلاك الماء والأدوات المدرسية و كراء المساكن واقتناء مسكن كاد يكون حلم اليقظة… ودائما في قطاع البناء نقول ان استمر الأمر على هذه الأوضاع من غلاء مواد البناء و الشقق فإن القطاع سيشهد انهيار ا على شاكلة ما وقع بالولايات المتحدة في التسعينات…كما لا بدّ من مراجعة المجلة العمرانية باتجاه التقليص من البناء الأفقي والمحافظة على الأراضي الزراعية التي تناقصت بشكل مريع…
نمر الان إلى القطاعات الحيوية التي تتطلب عناية عاجلة:
1) الفلاحة وضرورة السعي الجدي لتحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي و مثلما تم ايقاف نسبة التداين من الخارج فإن الاكتفاء الذاتي الغذائي اكثر أهمية وقابلية للتنفيذ متى ما وجدت ارادة فولاذية و حركية ودعما للقطاع
2) التعليم… مراجعة البرامج ودعم التعليم العمومي وتحقيق رفاه مادي معقول لرجال التعليم
3) قطاع الصحة… شرع القطاع في التردي منذ اواخر ايام بن على حين تم ايقاف دعم الدولة المهم للمستشفيات… ووصل إلى حافة الانهيار بعذ الثورة حيث تم ملؤه بالأتباع دون صفة أو حق أو كفاءة… وطغى عليه مثل كافة القطاعات الفساد والتسيب و استضعاف سلطة مديري المستشفيات و فرض فوضى النقابات و حتى مراقبي المصاريف… وتراجعت لدي المسؤول روح المبادرة وقيم قدسية العمل والإنجاز و القانون… كذلك تنامي ميزانية الأدوية التي تاخذ اكثر من 70% من ميزانية المؤسسة وربما اكثر بكثير… مما أدى إلى تراكم الديون على المؤسسات وعجز الصيدلية المركزية وظهور دعوات إلى خوصصتها وإلغاء الرقابة على الأدوية.
4) قطاع الخدمات…يشمل قطاع الخدمات بمفهومه العام كل ما تقوم به المؤسسات الوطنية او الخواص من خدمات لصالح المواطن ولصالح الدورة الاقتصادية والاجتماعية… وربما من متطلبات المرحلة النهوض بقطاع النقل والبنية الأساسية للمرور لا سيما بالولايات الداخلية كركيزة للنشاط الاقتصادي للبلاد…
ـ يتبع ـ
(في الحلقة القادمة: ماذا عن قطاعات الثقافة والإعلام والبحث العلمي والطاقة؟)
عبد الكريم قطاطة:
من المتعارف عليه عندما يتقدّم الواحد منّا لطلب شغل ان يُقدّم مجموعة من الوثائق ومن ضمنها السيرة الذاتية … وهذه تعني فيما تعني الشهائد المتحصّل عليها وجردا للوظائف والمسؤوليات التي تقلّدها صاحبها وكذلك _ ان وُجدت _ شهادات التميّز والاوسمة …
ولئن عجّت مسيرتي الذاتية بوابل من هذه الاشياء فانّني كنت دوما من اولئك الذين ينظرون للاوسمة بشكل مختلف … فأنا اعتبر انّ وساما من نوع (يرحم والديك) يقولها سائق سيارة اجرة او بائع سمك او نادل مقهى ليُعبّر الواحد منهم عن سعادته بي … هو من اغلى الاوسمة … اذ هو تعبير صادق عن مدى توفيقي في ان اكون صوته عبر المصدح او قلمه عبر الصحيفة…
بعض الاوسمة في حياتي كانت من نوع الاسترضاء … وسام الاستحقاق الثقافي سنة 2006 لأنه كان ردّا على رسالة شديدة اللهجة وجهتها للرئيس بن علي شخصيا سنة 2002 اعبّر فيها عن سخطي من قرار تحويل اذاعة صفاقس من اذاعة يلعلع صوتها داخل تونس وخارجها بعد 41 سنة من الوجود الى اذاعة محلية ينطفئ صوتها في حدود مسافة قطر بثها 60 كلم … بدعوى او بتعلّة اذاعة القرب …وجاءني ردّه على رسالتي النارية بتوسيمي بوسام الصنف الثالث من الاستحقاق الثقافي …وذهبت يومها للتوسيم وقلت امام الجميع بما في ذلك الوزير المكلّف بالتوسيم _ بلّغ سيادة الرئيس اني ممتنّ له في شخصي ولكن مازلت مصرّا على انّ ما وقع لاذاعتي هو جريمة اعلامية في حقّ تونس … اندهش الوزير يومها ووجد نفسه في موقف محرج ولا يُحسد عليه … وكان عليه ان يدافع عن رئيسه ليُحاول اقناعي والجميع انّ وسام الرئيس يعني تقديره لمسيرتي ومكافأة لي عما بذلته … وعندا شرع بوضع الوسام على صدري همس هذه المرة في اذني بالقول: زايد معاك ديما راجل …
اردت بهذه التوطئة ان اقدّم المقال الذي وعدتكم به في الورقة الماضية والذي نقش كلماته ورصّفها زميلي وصديقي عبدالقادر المقري _ لا خوفا ولا طمعا _ والذي اعتبرته وما زلت وساما يشرفني ويسعدني سعادة حتى الغرق …وان اضيفه كورقة من اهمّ الاوراق في ملفّ سيرتي الذاتية … المقال كان بعنوان “يكرهون الجمال” وصدر بجريدة الايام بتاريخ 13 جوان 1985 كردّ على ادارة اذاعة صفاقس، بعد ايقاف برنامجي انذاك، كوكتيل من البريد الى الاثير… وهاكم المقال كاملا:
{ الذي وقع للزميل عبدالكريم قطاطة منذ ايام ادهش الكثير من الناس الذين استغربوا وتعجبوا وضربوا كفا على كفّ .. اما انا فلم اندهش ولم استغرب من هذا الاجراء الذي مارسته اذاعة صفاقس على عبدالكريم .. لم استغرب لاننا اولا نعيش في بلد يقطع رؤوس الموهوبين ويحقد حقدا قاتلا على النجباء ويكره الحديث عن اليد العاملة المختصّة … عندنا عباد مهمتهم في هذه الدنيا الفانية هي امساك الرشاشات وقنص الناجحين حتى لا يبقى سوى الفشل، وإرداء المثقفين حتى لا يسود هذه الارض سوى الظلام، واعدام العادلين حتى يُفرّخ الجور ويتناسل الاضطهاد، وصَلب الاذكياء حتى تخلو المدينة للسكارى والمدكّات والمتواكلين، فيسلموها كالخبزة لاوّل اجنبي يجدونه نائما امام باب المدينة… كما جاء في الاساطير …
عندنا بلد يا ويح فيه من يرفع صوتا جميلا حماميّ الهديل، فالمشارط الطويلة الحادة تقص الرقبة وتستأصل منها حبال الصوت .. يا ويح من يكتب عبارة انيقة او كلاما اصيلا فالفؤوس ترتفع في الهواء والقبضات في الهواء والمكانس والمساطر الحديدية … قُل ذات مرة فكرة جديدة وسترى الحواجب تعلو استهزاء والقهقهات تنفجر سخرية وفي افضل الظروف تهبط عليك النصائح والتحذيرات وتجارب من اكبر منك بليلة ووصايا النبي موسى وحكمة الاولين و… من خاف نجا .. وكلمة لا ما تجيب بلاء .. وعيشة تحت جناح الذبانة خير من رقدة الجبانة ..وهكذا وهكذا وهكذا …
قد نكون ايضا بلدا غير محظوظ بالمرّة لأنّ الاقدار نفسها عاكستنا كما احبّت …فالجميع اليوم يتساءلون ماذا يكون مصير المسرح التونسي لو بقي علي بن عياد حيا ..؟؟ …والجواب البديهي عندي انه لو بقي علي بن عياد حيّا لكان مسرحنا الان سيّد المسارح العربية … فالرجل فلتة نادرة من تاريخنا الثقافي والفترة القصيرة جدا التي ظهر فيها اشعل النار تحت اقدام الجميع… ولكن جاء يوم وجاء خبر من باريس يقول انّ ابن عياد مات وهو شاب انداده مايزالون يتعلمون في اقلّ مشهد يمثّلونه … قبل علي بن عياد كان عندنا الشابي .. تناثرت اشعاره هنا وهناك وكلمات كلّما وجدت واحدة منها قلت كيف يكون شعر عام 35 افضل مليار مرة من شعر 85 …ومات الشابي وخسرناه وكان بامكانه البقاء اكثر والكتابة اكثر … عام 71 خسرنا (عبد العزيز) العروي … كان الرجل يشدّنا باسماره وحكاياته وكلامه المتعة ونقده الصراحة وماضيه الصحفي العظيم … يموت العروي وهو ايضا مازلنا نحتاجه و “الان ديكو” لم يكن اقلّ منه سنّا …
عام 78 كان عندنا عام الكوارث فقد خسرنا أرواحا كثيرة ومؤسسات كثيرة ومواطن شغل كثيرة وحريات كثيرة واموالا وسلعا كثيرة .. لكنّ اكثر شيء قتلتني خسارته كان محمد قلبي …لم يكن في تصوّر احد انّ هذا القلم المشتعل الجارح سوف يبرد ويحفى في يوم من الايام ولم يكن في خيالنا انّ الحربوشة يأتي يوم ويبلعونها بلا ماء ..ولم يكن في احلامنا ان صحافيا تصل عنده تلك الشعبية التي تنافس رجال السياسة والتلفزة ويصبح عنده نفس الخطر الذي لدى قادة الاتحاد الكبار… ولم يكن احد يدري انّ ذلك الاسلوب الدوعاجي القاتل سيزحف على البلاد بجامعاتها ومدارسها ومزارعها زحفا لم يفعله ايّ كاتب او صحفي تونسي آخر الى اليوم… ومع ذلك جاء يوم وسكت محمد قلبي وارسل برقية اعتذار الى رؤوف يعيش وفرّ هاربا… واخيرا عاد ليُعوّض زملاءه المطرودين من جريدة يومية …ومن لم يمُت بالسيف مات بغيره …
وبما انّ عبدالكريم قطاطة _ مرجوع حديثنا _ لم يبع صوته بحفنة من الدينارات والامتيازات… وبما انّهم لم يأسفوا على شبابه وبما انّه مازال واقفا مثل مبنى اذاعة صفاقس، وربّما اعلى… فلابدّ من الحلّ الثالث والاخير وهو التخلّي عنه مباشرة ودون تفاصيل زائدة .. وهنا ننتقل من اتهام مجتمعنا الى اتّهام مؤسسة من داخل مجتمعنا… الاذاعة والتلفزة التونسية…. هذه المؤسسة مثل مدينة النحاس … طلاسم وسحر وتهويمات .. جنّ وعفاريت وعبابث …يحيط بها سور معدني ثقيل لا ينفذ منه الواحد ولو بأمّ عينيه … ومن قلعة الاسرار هذه ورغم قلعة الاسرار هذه تحدّث الناس وسرّبوا حكايات من واء الستار الحديدي … تحدثوا عن البرامج التي يفرضها المسؤول الفلاني والمذيع الذي تفرضه القرابة الفلانية والمنشط الذي يتفوّق بالعلاقة الفلانية …والاخر الذي تتكلم عنه تليفونات موجودة في الليستة الحمراء والآ خر الذي .. والأخرى التي…
المشكلة في عبدالكريم قطاطة انه لم يسقط على الاذاعة من الباراشوت بل درس وتعلّم وتدرّب ولطالما نصحوه بأقصر الطرق والابتعاد عن التعب ووجائع الراس … فلم يسمع الكلام .. ولطالما نصحوه بالتقرّب من رؤسائه وحمل قفّة لهذا وهدية لهذا ووديدة لهذا ..الاّ انه لم يسمع الكلام … ولطالما نصحوه بالتنقيص من اغاني مارسيل خليفة واميمة الخليل واولاد المناجم وفيروز وزياد الرحباني والشيخ امام وان يزيد قليلا من هشام النقاطي ومحسن الرايس وراغب علامة وجورج وصوف … الاّ انه لم يسمع الكلام …ولطالما نصحوه بمزاحمة جماعة (لقاء في ساعة) وينافستهم الا انّه لم يسمع الكلام… ولطالما نصحوه بممارسة الاشهار ل”ميّ يزبك” .. وجورج يزبك .. وبسام يزبك .. ومازن يزبك …وحديقة الازبكية … فاذا به لا يسمع الكلام …
وبما انه لا يريد ان يسمع الكلام فقد ارادوا ان يخاطبوه باسلوب تغيب فيه الكلمة .. باسلوب القرار المكتوب اسود على ابيض .. والممضى من تحت والمختوم من فوق … وهذا لعمري اسلوب يخاف من تلاحم الاجسام او تلاحم الرجال … انّه اسلوب جبان يختبئ وراء طاولة وكرسي وباب مقفل بدورتين .. ولا ادري والله لماذا يخافون عبدالكريم … فالولد ليس ملاكما سابقا ولا شلاّطا شهيرا ولا عربيدا شريرا وهو ليس مسلّحا ولا عنده عصابة ولا عنده عرش من بني عمّه … لا والله لا …لذلك فانا وانت وهو وهي وهما وهم وهنّ وكل الناس لا نخاف عبدالكريم لأنّنا لم نفعل له شيئا … اما الاخرون فانهم يعرفون ايّ ذنب يقترفون لمّا جاؤوا اباهم عشاء يبكون… تماما مثل اخوة يوسف…
سألني عبدالكريم ذات يوم ان كنت سمعت الكوكتيل ..فقلت لا لأنّ البرنامج يُبثّ في اوقات عملي فتأسّف كثيرا وبعد اسابيع اعطاني شريطين مسجّل عليهما شيء من الكوكتيل وقال اسمع واعطني رايك… فلمّا سمعت التساجيل وصعقني مستواها، قلت هذا يتواضع ويقول اعطني رايك … بل الاحرى ان اطلب انا رايه لا العكس والاحرى ان يتملّح من مستمع جاهل مثلي وعنده ملايين المستمعين والمعجبين وكلّهم على حقّ …تذكّرت هذه الفازة وانا اقرأ في النومرو الاخير من جريدة الايام ما كتبه عبدالكريم قطاطة من حقائق عرضها (“بكلّ غرور” كما قال) وانا هنا لاقول لكم ان عبدالكريم قطاطة يكذب عليكم وربّما هي الكذبة الاولى …فعبد الكريم قطاطة ليس مغرورا وليته كان مغرورا …
لو كان مغرورا لاحترموه وقدّسوه وارتعشوا منه ولعاملوه معاملة نجوم الكرة وباسوا صبّاطه والتراب الذي تعفسه قدماه …ولاعطوه دارا وسيارة وبونوات ايسانس وخدمة في بانكة لا يذهب اليها الا يوم قبض المرتّب … لو كان عبدالكريم داهية شرّاطا دلّولا مدلّلا لكان مصيره مثل ميشال دروكير … وجاك مارتان …وفيليب بوفار ….وغي لوكس …وساشا ديستال …وستيفان كولارو ..وبيبو باودو …وبيبو فرانكو …ورافا … ولوريتا … وغيرهم من نجوم الاذاعة والتلفزة الذين كسبوا المليارات من مواهبهم وصارت صورهم تظهر حتى على اعلانات الدنتيفريس ومايوهات السباحة …
يا عبدالكريم اناس مثل هؤلاء وتلفزة مثل هذه واذاعة مثل هذه لا ينفع معها الا الغرور وقد اغترّ قبلك الصعاليك واولاد البارح فكيف لا تغتر وانت الاصيل الكادح الذي يُنبت الزهر في الصخر … والله ليس هذا بنديرا ولا سلامية وانا لست طامعا في عبدالكريم ولا خائفا منه .. فقط انا صرت واحدا من جمهوره العريض الطويل الذي الى الان لم يفعل شيئا من اجل المذيع الكبير… ولم يقدّم شيئا من اجل تعب عبدالكريم وسهر وارق ومرض عبدالكريم ولم يقل شيئا في هذه المأساة التي تضرّ بنا جميعا وهاهي الان تصيب عبدالكريم …
واحرّ قلباه عليك يا ابن بلدي الكريم }
هكذا كتب عبدالقادر بمداد روحه وقلبه وفكره… واعود لاقول انا فعلا لم اكسب ممّا كسبه الاخرون ولكن كسبت ما اهمّ كسبت رضاء نفسي و كسبت عزّة نفسي التي لم تُمرّغ يوما في التراب… وكسبت حبّ الناس وهذا لا يقدّر بكلّ كنوز الدنيا … وكسبت خاصة (يرحم والديك)…
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
الديماغوجيا في تعريفها هي كلمة يونانية الاصل وهي في حقيقتها مشتقة من كلمة “ديموس” وتعني الشعب، و”غوجيا” وتعني العمل …
ومن غرائب الدنيا انها تحوّلت في ما بعد من هذا المفهوم الراقي الى مفهوم ثان يتفق عليه الباحثون متمثّلا في (كلام فضفاض لا منطق له يحاول صاحبه ان يستميل اليه المتلقّي بالاغراء)… وهي عادة ما التصقت بالسياسين حيث يعرّفها المعجم الوسيط كالآتي (الديماغوجيا هي مجموعة من الاساليب التي يتبعها السياسيون لخداع الشعب واغرائهم ظاهريا للوصول الى السلطة وخدمة مصالهم) … السنا في عهد ازدهار الديماغوجيا وبامتياز ..؟؟ قلت ازدهار لانّها هي ليست وليدة سنوات الجمر التي هلّ هلالها بعد 14 جانفي بل هي من “الصداقات” التي لازمتنا منذ عهود …
هذا يُحيلني لما صرّح به السيد محمد عبدالكافي انذاك وهو يردّ على استفسارات الصحفيين حول اختفاء الكوكتيل ومن ورائه عبدالكريم .. اذ وكما اسلفت في الورقة الماضية قدّم تفسيرا وفي منتهى الديماغوجية عبر جريدة البيان بتاريخ 27 ماي 85 واعاد نفس الاسطوانة بجريدة الايام بتاريخ 30 ماي من نفس السنة عند استفساره عن سبب اختفاء الكوكتيل حيث قال: (طالبنا بتصور جديد لمختلف البرامج لاننا نرفض تلك الحصص الشبيهة بالحنفية التي يخرج منها كل شيء… العسل والزفت والقطران… والاعتماد على آراء المستمعين فقط ليس العنصر الوحيد لتقييم عمل ما… المنطق يفرض على المنشط تكييف اذواق المستمعين، والواجب يحتّم عليه الارتقاء بدائرة معلوماتهم) … ثمّ يضيف: (ليست لنا نية الاستغناء عن عبدالكريم قطاطة هذا المنشط القدير وبامكانه استرجاع برنامجه حالما ينتهي من اعادة تصورجديد له… وان لم يتمكّن من ذلك ساقدّم له شخصيا تصوّري الخاص لهذه الحصّة الاذاعية)…
ظاهريا يبدو الامر منطقيا جدا و جدّا ايضا .. لكن من واكب برامجي سيدرك مباشرة انّ مديري تحدّث بمفهومي الخاص للمنشط والمستمع… فانا اعلنتها مرار ومنذ السنة الاولى من عملي في الكوكتيل ومازلت عند قناعتي انّي ضدّ منظومة (الجمهور عاوز كده)… احترامي للجمهور لا يعني ولن يعني اني مستعد لتمرير التفاهات شكلا ومحتوى .. ثم هو تحدث في تصريحه للبيان عن رؤيته للعمل الاذاعي حيث قال: (دعوته الى اعطاء تصوّر جديد للبرنامج بصورة تجعله يساير التغيير والتوجه الذي طرأ على البث المباشر والذي يميل الى التخصص والعمل ضمن نظام المجموعات)… هذا كلام جميل ايضا ولكنّه عار من الصحّة لسببين اولهما انّ السيد محمد عبدالكافي رحمه الله كان كلّما اجتمع بالمنشطين فترة عمله مديرا على راس اذاعة المنستير، كان يحثهم على الاستماع الى عبدالكريم قطاطة والاستفادة من منهجيته واسلوب عمله… وكان يقول لهم حرفيا: (اش ناقصكم انتوما وهو اش عندو زايد عليكم ؟)… ثمّ بين عشية وضحاها يتحوّل هذا المنشط القدير حسب ما ورد على لسانه، الى انسان عاجز حتى على تقديم تصور جديد… واستعداد المدير لمدّ يده لنفس المنشط وانتشاله من العجز …
هذا اولا… ثم ثانيا اين تصوّره الجديد في ما اقترحه هو و شلّته على زميلي عبدالجليل في نادي المستمعين ؟؟ اين التخصص واين العمل ضمن مجموعات ..؟؟ لم يوجد هذا بتاتا في نادي المستمعين ومن هنا كان ردّ مديري قمّة في الدمغجة … لأنّ ما حدث قبل ايقاف الكوكتيل وصاحبه كان كالآتي: تقدمت بطلب عطلة للراحة وفي الاثناء علمت من بعض الزملاء في الادارة ان النية متجهة الى تقليص عدد حصص الكوكتيل من خمس الى ثلاث… وكذلك تقليص مدته من ساعتين الى ساعة ونصف…
اتصلت بالمدير واعلمته برفضي لمثل هذه القرارات دون تفسير منطقي لها… كما عبرت له عن نيتي في ادخال بعض التعديلات على المحتوى دون حتى ان يطلب منّي ذلك… وبكلّ امانة انشرح مديري للامر او هكذا بدا لي وحظيت مقترحاتي بموافقته وكان ذلك يوم 18 ماي 85 … وعندا فوجئت بحلول جلول ونادي المستمعين محلّ الكوكتيل اتصلت بالادارة للاستفسار… اشعرتني بانها طلبت منّي تقديم مشروع كامل لتطوير البرنامج لكنّي لم استجب لذلك … هكّة عيني عينك … وقتها ادركت انّي خسرت الجولة الاولى من معركتي الثانية مع المدير والحاشية … وعندما سالتني الصحافة المكتوبة عن موقفي اكتفيت وقتها بالقول: لا استطيع ان اقول شيئا في الوقت الحاضر… (الايام 30 ماي 85).
اعود لاقول وجيعتي كانت كبيرة … مؤامرة حيكت بشكل دنيء … اذ من حقّ ايّة ادارة ان يكون لها موقف من منشط ما او برنامج ما، ولكن كنت احترم موقفها او قرارها لو لم يكن بشكل مخادع وجبان … وللامانة انذاك لم اقبل موقف جلّول والذي اعتبرته خيانة وقررت ان احرّض عليه المستمعين وفعلت… امّا مع الادارة فارتأيت ثانية ان استرخص في عطلة بلا مقابل ولمدة سنة قد اجددها حتى اتمكّن من الكتابة في الصحف واعلان الحرب على ادارة اذاعة صفاقس… حيث تمكنني هذه الرخصة من عدم الوقوع في فخ انعقاد مجلس التأديب اذا قمت بكتابة ايّ شيء تجاه مؤسستي وانا في حالة مباشرة …
وحصلت على رخصة بعطلة دون مقابل وبدأتُ حملتي الصحفية يوم 6 جوان 85 وبجريدة الايام بمقال طويل عريض يحمل عنوان (عبدالكريم قطاطة يردّ على ادارة اذاعة صفاقس) بالقول: “بكلّ برودة دم لن اساوم (وها انا اوثّق للتاريخ بعض ماجاء في هذا المقال)… عندما كتبت في شهر اكتوبر 82 عن الكوكتيل وهو يتعرض للهزّة الاولى في سجلّ ايامه، عاب عليّ البعض تسرّعي ولهجتي الحادّة واعتبر مقالي انذاك تحدّيا لتقاليد عديدة والتي مازالت لحد الان بالية هزيلة شاحبة وخاوية… وكان ما كان ودفع من اراد عرقلة الكوكتيل الضريبة غالية… وعاد الكوكتيل الى الوجود شامخا هازئا رغم الاعداء والاعداء والاعداء .. وعند تولّي الزميل محمد عبدالكافي ادارة اذاعة صفاقس وعلى اثر اوّل لقاء بيننا، خاطبته حرفيا بقولي: (لست من غواة الكاشيات ولا من هواة المناصب .. كل ما ارجوكم هو مساعدتي على القيام بهذا العمل الشاق وذلك بالتعامل معي بصدق ونزاهة، فانا اقبل كل الملاحظات والنقد والاصلاح والتوجيه ما دام صاحبه ينطلق من معدن الوضوح والصراحة … فهل تُعتبر شروطي هذه مجحفة ؟؟؟ اذ شرعيّ جدا ان يحاول كلّ مسؤول جديد في مؤسسة ما، ادخال نفَس جديد وفلسفة شخصية على سير العمل بمؤسسته… لكن هل يمكن ان يكون ذلك على طريقة نيرون الذي احرق روما ؟ وفي باب التطوير هل من المعقول ان تنسى ادارة اذاعة صفاقس مجموعة كبيرة من البرامج اكلها السوس وهي نسخة مطابقة لبعضها البعض ومنذ الستينات ؟؟ لماذا حربوشة التطوير او كرتوشته توجهت بالذات الى الكوكتيل؟”...
وحديثك عن الجمهور … انت وغيرك يعلم ان جمهور الكوكتيل متنوع وحاضن لكلّ الفئات والمستويات التعليمية… وانّ الكوكتيل من جملة ما حصل عليه في الاستفتاءات انه البرنامج رقم واحد لدى المثقفين ..اذن حذار من كلامك عن جمهور الكوكتيل … ومن اهانتك له … وردّا على ورودك وانت تنعتني بالمنشط القدير، اليس من الغريب ان تنعت هذا القدير بالمحنّط وغير القادر على التجديد بل وتذهب الى حد استعدادك لمد اليد والدعم بتصوراتك .. في خاتمة كلماتي اوجز موقفي كما يلي: انا لم ولن اكون يوما مساوما بالكلمة وسابقى رافضا لكلّ المواقف المهزوزة… والكوكتيل هو كوكتيل المستمعين قبل ان يكون كوكتيل عبدالكريم… وايقافه هو ايقاف لمسار اذاعي جديد وبكلّ غرور، وهو تحدّ لارادة المستمعين ولقد سبق ان قلت سنة 82 بامكانك ان تقتل بلبلا مغرّدا ولكنّك لن تكون قادرا على قتل غريزة التغريد في البلابل … قد يتوقف الكوكتيل شهرا، سنة، عشر سنوات ولكن وبكلّ تحدّ لن يموت لأنه لن يساوم وسيقاوم”.
هذه مقتطفات من مقالي الذي احتلّ صفحة الا ربعا في جريدة الايام… كنت استفزازيا نعم … تركته ضمنيا في حرب مع المستمع نعم .. سخرت من ديماغوجيته نعم … وكنت على يقين تام ولا جدال فيه اني خسرت معركة ولم اخسر حربا … وكان تعاطف الزملاء في جريدة الايام اولا وفي عديد العناوين مشهودا … هذا ما كتب نجيب الخويلدي في ركن صحافة الرسائل وبتاريخ 13 جوان 85 (وبدات اذاعة صفاقس تزاحم الاذاعة الوطنية في قتل الموهوبين ومعاداة النجباء … التنشيط الاذاعي موهبة وليس خطة ادارية لذلك فانا لا اتصور ان محمد عبدالكافي يمتاز على عبدالكريم قطاطة في الخلق والتصورّ وبث الذبذبات الساحرة ؟ هل يستطيع عبدالعزيز بن عبدالله* ان يملك قلوبنا كما فعل ساحر الاجيال حمادي العقربي ؟؟ وبعد كل هذا ماذا يمكن ان يقترح محمد عبدالكافي على عبدالكريم قطاطة ؟؟ يا فلان انّ عبدالكريم امبراطورية لها جماهيرها التي انتخبتها بصفة ديموقراطية لانّ الامبراطور تعامل مع الناس بالحب والامل والارادة… وهذا كان شعار الكوكتال… هذه اربع كلمات من مئات اريد ان اقولها في مسالة تثليج عبدالكريم قطاطة… فهل ستتحول جنة الاذاعات اي اذاعة صفاقس الى جحيم ..؟؟ الايام ستجيب والتاريخ سيسجّل)...
هكذا كتب زميلي وصديقي نجيب الخويلدي… وفي نفس العدد فوجئت بمقال يكتبه زميلي عبدالقادر المقري وتحت عنوان (يكرهون الجمال)… هل تصدقون ان قلت لكم اني اعتبر ما كتبه قدّور من اغلى الاوسمة في حياتي …توقفت عن كتابة بقية هذه الورقة نصف ساعة لاُعيد للمرة لست ادري كم، قراءة مقالك يا قدّور … وللمرة لست ادري كم ايضا، تفيض عيوني دمعا وانا اترشفه …حاولت جاهدا اقتطاع بعض الفقرات منه ولكن عجزت عجزا تاما عن ذلك… ايُعقل ان ابتر يدا من جسد متكامل؟… ايُعقل ان افقأ عينا من رأس من يعزّ عليّ؟؟ هكذا خُيل اليّ وانا احاول جاهدا ان اقتطع لكم منه بعض الشيء … وعدا منّي ان انسخه لكم كاملا في الورقة القادمة وانا واثق جدا من اني ساهديكم دررا ثمينة وصادقة جدا لقلم ابن المقري … شكرا قدّور على وسامك…
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رئيس النادي الصفاقسي آنذاك
ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيّد؟
جائزة نوبل للفيزياء 2024… تكافئ أبحاثا في مجال التعلّم الآلي
مرة أخرى… هل ينجح لقاء القاهرة الجديد، في رأب الصدع الفلسطيني؟
رغم الحصار من الجهتين… السلطة الفلسطينية تواصل صرف الأجور في غزة وتعدّ خطة إعمار
إيران بعد ضربها للكيان… سيناريوهات الردّ على الردّ
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 3 ساعات
ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيّد؟
- صن نارقبل 7 ساعات
جائزة نوبل للفيزياء 2024… تكافئ أبحاثا في مجال التعلّم الآلي
- صن نارقبل 7 ساعات
مرة أخرى… هل ينجح لقاء القاهرة الجديد، في رأب الصدع الفلسطيني؟
- صن نارقبل 7 ساعات
رغم الحصار من الجهتين… السلطة الفلسطينية تواصل صرف الأجور في غزة وتعدّ خطة إعمار
- صن نارقبل 7 ساعات
إيران بعد ضربها للكيان… سيناريوهات الردّ على الردّ
- صن نارقبل 7 ساعات
مسؤول من الكيان… كلما دعت الولايات المتحدة أحدا منّا إلى واشنطن، نفّذنا ضرباتنا بقوّة!
- جور نارقبل 9 ساعات
ورقات يتيم … الورقة 76
- فُرن نارقبل يومين
ماذا وراء تأخر رد الاحتلال على ضربات إيران؟