جور نار
ورقات يتيم … الورقة 43
نشرت
قبل 7 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
بعد ثلاث سنوات من استقراري بتونس العاصمة كشابّ في بداية مسيرة حياته، لم تكن شؤون حياتي مستقرة ماديا بالمرّة ..اذ اثر انتهاء الدراسة بمنحة قدرها 30 د تماما كمنحة اي طالب انذاك وبعد تخرجي، جاء اول مرتّب في حياتي وهو الذي لم يتجاوز 40 د ليسدّ في اغلب الاوقات بعض حاجيات العيش هنالك ..
هنا لا بد من الاشارة إلى امر هام جدا وله ابعاد كبيرة في رؤيتي للمال ..اوّل مرتب في حياتي ويوم قبضته اودعته ليلة كاملة في حاوية الزبلة .. نعم في حاوية القمامة …كانت ومازالت لي رؤية عدائية للمال …ربّما لأني عشت في عائلة معوزة ولم اجد حاجتي عند حاجتي له طيلة طفولتي وشبابي … ربّما لأن احببتها في مراهقتي او هكذا توهّمت باعتني من اجل حفنة مال ..ولكن ومع تقدّم العمر تيقنت انّ من يلهث وراءه انّما هو يلهث وراء سراب ..(“يا عابد المال قل لي هل وجدت به .. روحا تؤانسك او روحا تواسيها .. انظر الى النار انّ الفتك عادتها .. لكنّ عادتها الشنعاء تّرديها” / ايليا ابو ماضي) …
اشكال جل البشر انهم اعتبروا دائما المال غاية وليس وسيلة للعيش فاشقاهم اكثر مما اسعدهم …لأن صاحب الدينار قد لا يفيه الدينار لقضاء حاجته الا ان صاحب المليار اكثر تعاسة ..لأنه ببساطة لن يّحس بالراحة يوما ..فهو لن يكتفي اولا بالمليار لانه يريد اخا له واختا ويدعو الله ان يرزقه بتوائم من صنفه ..من جهة ..ولكن الاتعس انه يعيش طيلة حياته عسّاسا على ملياراته خوفا من منافس ينهبها …ومن ثمة تبدا الحرب اليومية بينه ومنافسيه لتتحول الى كوابيس في مرحلتها الاولى ثم لتنتهي بسرقات موصوفة وغير موصوفة وجرائم متعددة التوصيفات ..ويكفي لنتأكّد ان نُطلّ من كوّة صغيرة على ما حدث منذ قارون ويحدث الى يوم البعث من حروب وجرائم تُرتكب في حق البشرية والتي مصدرها وهدفها المال ..
انظروا الى الحروب ..انظروا الى مستنقعات الاقتصاد وحقوق العمّال المسروقة ..انظروا الى دول البترودولار كيف تتدخّل في شؤوننا ..انظروا الى تركيا واوردوغان والحلم العثماني تُصدّر لنا “الڨليبات البيضاء” وهي تُخفي قلوبها السوداء التي تُضمر لنا اياما اكثر سوادا من قلوبها ..ويتعامى العديد من ساستنا اللصوص على ابسط واتفه سؤال ..هل نحن في حاجة لاستيراد تلك الڨليبات التي لا تزيد قلوبنا الا تبلّدا وكسلا .؟؟؟.لو احد يمنحني الامان وها انا امنح لنفسي الامان… (من غير مزية حدّ) …لقلت لهم ..لساستنا الاعزاء… يا أللّه ما احوجنا الى نظام داعشي يقطع رؤوسكم (سياسيا لا بشريا) ويرمي بها في اسطمبول او انقرة وهنيئا لكم بالڨليبات بيضاء او زرقاء او بنفسجية ..المهم ان نستريح منكم ومن وجوهكم الكالحة المالحة … عودوا الى تاريخ الامبراطوريات الاستعمارية …وحتى تلك التي نتغنى بها نحن العرب والمسلمين من خلال مقولة هارون الرشيد وهو يخاطب مزهوّا بعرشه على الدنيا، سحابة تمرّ في السماء بقوله (امطري انّى شئت فخراجك آت اليّ) .. اليس كل ذلك من اجل تكديس المال ..؟؟
في حين ان ابسطنا علما بالقرآن لم يتفطّن الى آية من اعظم آيات الله في كتاب الحق (المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّه).. اي نحن في الاخير لا نملك شيئا .. الم يتفطّن لها اوناسيس اثرى اثرياء اليونانين وهو على فراش الموت عندما قال (خذوا كل ثروتي ودعوني اعش) ..؟؟ الم يتفطن لها قوم موسى وهم يتمنون لو كان لهم نصيب من ثروة قارون ….وعندما خسف الله بقارون وبثروته استفاقوا من غفوتهم واستغفروا ربّهم ..دعونا نتفق بأن المال قوام الاعمال وبأن نكران حاجتنا اليه ضرب من ضروب السريالية .. ودعونا نتفق ان للفقر مصائبه وتعاسته …وهو الذي قال عنه علي رضي الله عنه (لو كان الفقر رجلا لقتلته) رغم ان البعض ينسبها لعمر ابن الخطاب ..ولكن ان يتحوّل الى غاية فذلك عندي اكبر همّ من هموم الانسان …
الاربعون دينارا كجراية لم تكن كافية بتاتا لكي اعيش عيشة سوية ومتوازنة في العاصمة… فعلاوة على مصاريف الكراء والملبس والمأكل، كنت لا احسن التصرّف بتاتا في جرايتي ..وها انا وبعد كلّ هذا العمر على سليقتي …ويبدو اني ساغادر هذه الحياة وانا مدين للبعض بما اقترضته منهم …وليطمئنوا …وصيتي في هذا الامر جاهزة لأبنائي حتى يفعلوا ما لم اقدر على فعله ..وكلّي ثقة في برّهم بي وعدم خذلاني… لأني لم اخذلهم ولم ولن اخذل كل من وعدته بأن لا اخذله …بعبارة اخرى عشت في تونس باسلوب (كبّوس هذا على راس هذا) لكنّي وكلّي فخر اقول… لم اكذب على ايّ احد ولم اسرق حتى رغيف خبز ولم احنث في وعودي متى قدرت على تسديدها ….كنت ابيت احيانا على نصف باڨات و”طابعين شكلاطة” كعشاء ..وكنت كما تقول احدى الجارات رحمها الله وهي تعاتب ابنها الشرّيب: ° في النهار عروس وفي الليل قطّوس°…
لهذه الاسباب كنت كثير التنقل في المسكن ..اما لحاجة صاحب المسكن لمنزله … او للبحث عن سكنى اقل تكلفة في الكراء ..وربّما من المساكن التي عمّرت فيها بالعاصمة ..استوديو ابن خلدون طيلة الدراسة ..ومنزل بنهج الراس الاخضر وراء معهد بورقيبة للّغات الحية بشارع الحرية ..وآخرها واشهرها واكثر اعاجيبها منزل بنهج كندا والتي كانت تلقّبها عيادة رحمها الله بـ”دار العجايب” عندما تهلّ عليّ ضيفة انذاك وتكتشف يوميّا خُنّارها (اعني خُنّار كثرة زائراتها) .. ولكن لا بد من العودة الى مسكن نهج الراس الاخضر لما عشنا فيه من ايام وليال ..متسوّغه يعمل صانعا عند بائع قماش باحد اشهر انهج قلب المدينة ..بسيط او هكذا يبدو .بحبوح او هكذا يبدو .. كنا نقطن به اربعة وكلّنا من صفاقس كل واحد يجيب صاحبو… بعضنا من سلك التعليم …بعضنا الاخر طلبة في معهد الفنون الجميلة، احدهم ما قضّاه نائما في بيته اكثر مما قضّاه على مدارج المعهد ..موش هكة يا نوري ؟؟ رغم موهبته الكبيرة في دنيا الرسم ..وانا (زعمة زعمة) موظّف قد الدنيا في مؤسسة التلفزة واسمه يطلّ بشكل دائم على شاشة التليفزيون …(يا بمبك يا بمبك) …
عقد الكراء كان بيد ذلك الصانع في حانوت القماش …وهو الذي تحوّل بعد سنوات الى واحد من اثرياء تونس بعد زواجه بابنة ثريّ لست ادري كيف احبته (وللحب جنونه) ليبدأ مشروعه الصغير وليصبح كبيرا …طبعا بمفهوم الثراء لا غير ..وربّما ستفهمون ان امثاله من الممكن جدا ان يكونوا اثرياء عندما اقصّ عليكم هذه الحكاية.. صديقنا هذا كان المكلّف بقضاء كل ما يحتاجه المنزل من حاجياتنا اليومية (الاكل وملازم المنزل الضرورية) وكان اسبوعيا يقوم بقضاء تلك الشؤون ويسجّل ذلك في كنّش صغير ..وفي نهاية كل شهر يقوم بالجمع والقسمة ليدفع كل واحد منا نصيبه من المصاريف … في شهر ما، انتابني شك في حجم المصاريف ..لمّحت لبعض متساكني المنزل عن شكّي ..لقيت منه وعنده نفس الشكوك ..دخلنا غرفته وبحثنا عن كنّش المصاريف ..فتحناه ..عاينّا مصاريف الشهر المنقضي ..لم نجد اية زيادة في استحقاقتنا العادية لكل شهر …اسبوعيا حاجياتنا كانت مدوّنة دون زيادة ..اغلقنا الكنّش وهممنا بالخروج الا انّ شيئا ما اعادني الى الكنّش ..
لاحظت ان صديقنا يدوّن اسبوعيا تاريخ ذلك الاسبوع بالشهر والسنة ..لم افهم سرّ تأريخ ذلك في البداية ..اعدت النّظر هذه المرّة بكل تأمل وبدات مراحعة عملية جمع المصاريف ..ورغم ضُعفي المدقع في الرياضيات وجدت خللا في المجموع ..لكن الاغرب ان الخلل كان دائما بنفس القيمة … اعدت الجمع مرات وكان الخلل دائما بقيمة 1974…. هل فهمتم ماذا حدث ..؟؟ كان يضع قائمة المصاريف ويضيف لها اسبوعيا السنة والتي كانت 1974 ليصبح هذا العدد من جملة مصاريف ذلك الاسبوع … كان اوّل ردّ فعلي “مهفّ فريمون مهفّ!”.وانا هكذا اُعجب بالبصمة الخاصّة حتى ولو كانت سرقة … ولكن الى حين ..اطلّت بعدها عليّ نرجسيتي وقلت “موش وحدو مهفّ” او باسلوب ادبي خاطبت هذا المهف وعلى طريقة طرفة ..(ستُبدي لك الايام ما كنت جاهلا .. ويأتيك بالاخبار من لم تُزوّد) … اشعرت زملاء السكن بالمؤامرة الاسبوعية لصاحبنا اللص الظريف وعقدنا اتفاقا على ان يدفع الثمن “ثاني ومثلث”…
في منزلنا هاتف …والهاتف باسم صاحبنا ولا يستعمله احد سواه… كان يُقفله دائما بقفل حديدي (شرلّية صغيرة) وتحدّينا تلك الشرلّية واصبحنا نستعمل النقر (تماما كما فعلها خماخم مع الحكم) حيث نكوّن الرقم المطلوب بعدد النقرات فـ 2 تساوي نقرتين .. و5 خمس نقرات ..الخ …هل تذكرون عادل امام وهو يقول في احدى مسرحياته (حهرّيك) .؟؟….”هرّيناه” فعلا ..كل الارقام التي نعرفها وحتى التي لا نعرفها طلبناها …وهذه العملية الاخيرة بالذات تعرفنا من ورائها على عصابة فتيات هاي جدا ومتبرجزات جدا جدا من فئة “بونجورغ” في ذلك الزمن ..الا انّ عفرتتنا اخضعتهن لعرشنا و لصولجان الزيارات كمقررات …حيث نختلق كل سبت عيد ميلاد لواحد منّا وليس مهما ان لا يكون من مواليد ذلك اليوم ولا ذلك البرج …المهم ان يكون برجهن مقررات …يااااااااااااااااااااااه كنّا عالم صايع قوي … وكانت المؤامرة الهاتفية وبعد اطلاع صاحبنا على فاتورة الهاتف، آخر عهد لي بذلك المنزل ..حيث انتقلت بعدها الى نهج كندا وهو الذي لا يبتعد عن دار الاذاعة والتلفزة الا مائة متر ونيف …
عندما تسلمت مهامي في تلك السنة كمسؤول وكمنسق لقسم المونتاج عملت بكل مثابرة وجدّية ..حاولت ان اكون الزميل الصديق لهم جميعا لا اكثر ..واحمد الله اني لم اظلم احدا بل وهو الاهم كما احببتهم احبوني دون استثناء … في شهر اكتوبر من تلك السنة 74 ..حدث اشكال مهني خطير للغاية ..رئيس المؤسسة انذاك هو السيد صلاح الدين بن حميدة… وعلى عكس الذي سبقها ..(السيد ميمون الشطي الوديع جدا) …كان مُهابا بشكل خُرافي … اولا هو ذو كاريزما رهيبة جدا ..ثم هو في تلك الحقبة من المُقرّبين جدا للقصر الرئاسي ..وممن يحظى خاصة بدعم مزدوج من الزعيم بورقيبة وعقيلته وسيلة …بما معناه “يضرب يعور”… كان الجميع في المؤسسة يخافونه..يكفي ان يراه احدهم ينزل من سيارته في اتجاه مكتبه حتى تصبح الكولوارات خالية من روّادها ..
ذات يوم طلب منّي رئيس المصلحة مدّه بشريط وثائقي كنّا نقوم بمونتاجه حول حدث سياسي .. حتى تقوم التلفزة ببثّه ذلك اليوم ..اجبته بالقول: الشريط غير جاهز ولا يمكن بثّه اليوم بل يستحيل بثّه اليوم …هاتفني المدير التقني العام واشعرني بان السيد صلاح الدين بن حميدة مصر على بثّه اليوم ..اجبته: غير معقول بالمرة الشريط غير جاهز ..اتّصل بي رئيس ديوان السيد صلاح الدين وبلغة اكثر حدة قال لي: راهو سي صلاح يحبّو يتعدّى والبلاد ماهياش على ڨرنك يا سي قطاطة …كانت الساعة انذاك تشير الى منتصف النهار ..اجتمعت فوريا بزملائي واعلمتهم بتفاصيل ما حدث ..اشاروا عليّ بأنهم معي في كل ما اراه صالحا ..وانهم ودفاعا عن مهنتنا مستعدون لاي تصعيد ..
اعلمت رئيسي المباشر بموقفنا وانتظرت ردّه . قدم اليّ سي ابراهيم بوجه شاحب وطلب منّي الشريط لسي صلاح الذي امره بذلك ..قلت له ساحمله بعد حين لرئيس ديوانه ..قال لي تهنّيني..؟؟ اجبته كون متهنّي … اجتمعت بزملائي وقلت لهم ..انا ساقدم استقالتي ولست مستعدا لتسليم الشريط لأي كان …ولكم سديد النظر ..وكان الحدث الذي لم يحدث اطلاقا لا قبل ذلك اليوم ولا بعده ..الزملاء وبالاجماع قدموا استقالتهم معي … امضينا جميعا على الاستقالة وكلفوني باعطائها لرئيسي المباشر _ سي ابراهيم الغضاب اطال الله عمره… وغادرنا جميعا المؤسسة ..كنّا مدركين لأهمية قسم المونتاج في الاعمال اليومية للتلفزة… وخاصة شريط الانباء الذي لا يمر دون مونتاج نشاط الرئيس ..نحن لعبنا ورقة خطيرة نعم وكان حماسنا انذاك واندفاعنا من جهة، وتلك الافكار الثويرية التي احملها ويحملها امثالي من نوع (لا للاستبداد) و(لا للمسّ بنواميس المهنة) …هي التي جعلتنا نلعب ورقة استقالتنا …
و”دخلت بعضها”..الجميع يرتعش … فعلها ولد عيادة ..والاكيد لم يقولوا مثل هذا الكلام الجميل بل كانوا يشتمون ويلعنون (عملها الكلب بن الكلب ..؟؟ هذا اللي حسبناه موسى يطلعنا فرعون ….شوف يا سيدي اش يخرج منّو هاكة الفرخ ..؟؟) … هكذا اعاد عليّ بعضهم هذا الكلام في زمن متقدم …وماهي الا ثلاث ساعات حتى اصبحت سيارات المؤسسة تجوب شوارع العاصمة لتجلبنا من منازلنا لحضور اجتماع عاجل مع سي صلاح الدين الرئيس المدير العام للمؤسسة …
وصلت وكان جميع الزملاء في انتظاري.. كلّفوني بالتحدّث باسمهم وكلفت احدهم بالذهاب لخلية الاخبار التلفزية للقيام بعمله في شريط الانباء ..نظر اليّ باستغراب ..قلت له وللجميع سنثبت بهذه المبادرة اننا دعاة صلح لا حرب …دخلنا صالة الاجتماعات الخاصة برئاسة المؤسسة والتي لم ادخلها من قبل ولكنّها كم عانت من وجودي بين حيطانها منذ ذلك التاريخ حتى سنة 2013 ..جلسنا على مقاعدها الوثيرة في انتظار قدوم الكاريزما …يُفتح الباب… يدخل دون ان ينظر الى احدنا … غضب ساطع في عينيه ..شفتاه زرقاوان بمفعول التدخين وحوله الحاشية المتكونة من رئيس ديوانه سي الديماسي اطال الله عمره، رئيسي المباشر سي ابراهيم، المدير العام للتقنية سي منجي الشافعي وكاتب الجلسة المرحوم محمد قاسم المسدّي ..
جلس سي صلاح على مقعده الوثير جدا وألقى نظرة بانورامية علينا جميعا وسأل: وينو سي قطاطة ..؟؟ كنت على يساره ..اجبته.: انا سيد المدير …نظر اليّ باحتقار وقال: هو انت ؟؟؟ امّالا لو كان جيت اطول واسمن تعمل انقلاب في البلاد؟؟… صمتّ قليلا وقلت: سيدي المدير تسمحلي نفسرلك الموقف؟ …اجاب بغضب: اما موقف؟؟ تعرف اش معناها ما يتعداش شريط الانباء الليلة؟؟؟.. قلت له: نعرف سيدي المدير وانا كلفت واحدا من زملائي (محمد علي الرويدي) بالقيام بمهامو على احسن وجه … اووووووف تنفس موش الصعداء ..تنفس هيمالايا .. وعاد الى استعلائه وقال: معناها رجعلك شاهد العقل وماشي تعطيني الشريط ؟؟… اجبته: تسمح ببعض الدقائق لتفسير سوء التفاهم ؟..قال لي: تفضل هاني نسمع فيك ..اوضحت له بمنطق علمي لا جدال فيه ان مرور شريط على تلك الحالة في شاشة المؤسسة هو معرّة لنا… لك انت كأول مسؤول عنها …وللتلفزة التونسية ككل …
كان يستمع بانتباه كبير دون ان ينظر اليّ .. بعد ان اتممت توجّه الى المدير التقني العام وقال بلهجة جدّية: “سي المنجي انت ما قلتليش هالكلام …اهو عندو حق السيد” … ولانقاذ سي المنجي قلت له: تسمح سيد المدير بتعليق صغيّر؟ … استدار اليّ ورايت في عينيه شيئا من الرضى فأكملت: راهو موش انا اللي عندي الحق كل القسم هو اللي عندو الحق .. احنا صحيح ندافعو على مهنتنا اما زادة ندافعو على مؤسستنا واللي يمسّها يمسّنا سيّدي المدير …نظر سي صلاح الى المدير التقني العام والى رئيسي السيد ابراهيم وقال: عندكم الحق، توة فهمت علاش عندكم فيه ثيقة …ثم وبكل اعجاب واطمئنان قال: “ايّا سي عبدالكريم اشنية مشاكلكم في قسم المونتاج … وسجل عندك سي قاسم” ..وطفقت اعدّد له نقائص القسم وكذلك في الان نفسه تفهّمنا التام لتكون البدائل بمرحلية …قام السيد صلاح من مكانه… شدّ على يديّ وقال “نوعدكم ما تراو منّي كان الخير” ..كان ذلك في العشرية الاخيرة من شهر اكتوبر …
في الغد رن هاتف مكتبي فاذا به رئيس الديوان يطلبني الى مكتبه فوريا … ليستقبلني بكل حفاوة وبـ”اش تشرب ؟؟” (هذه عادة اما للكبار او “لهنّ”) … شكرت و اعتذرت ..وبابتسامة رقيقة قال لي: سي صلاح يُقدّر موقفك الذي ينمّ على تفانيك من اجل سمعة المؤسسة، ويعيّنك لتكون ضمن البعثة التلفزية الرسمية التي سترافق الزعيم بورقيبة للقمة العربية بالرباط …(26 اكتوبر 1974) .. نظرت لرئيس الديوان وقلت: “شوف سي عبدالسلام، اولا انا قمت بواجبي تجاه مؤسستي، ثم أشكر السيد المدير على منحي هذه الثقة، ولكني غير مستعد ليها لانّي ما عنديش تلفون (اقصد جواز سفر) … ابتسم سي عبدالسلام وقال: توة هذي مشكلة ..؟؟ برة جيبلي بطاقة تعريف واتصورزوز تصاور وجيبهم ..انت هو اللي اختارك السيد المدير وانت هو اللي ماشي تمشي ..
صدقا بفرح طفولي نفذت… كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا وها انا اتحصل على اول جواز سفر في حياتي على الساعة الواحدة ظهرا من نفس اليوم …قلت بفرح طفولي ولابد ان اعود اليها …في تلك اللحظة عبدالكريم خارج للمغرب مع بورقيبة ! …نسيت وقتها الثورية متاعي والمعارضة والشعارات (لا تفهموها من زاوية “اطعم افم تستحي العين” ابدا والله) … لكن في تلك اللحظة عشت فلاش باك كاملا … رجعتلي صورة عبدالكريم ..هو واحد من قلب الغابة متاع ساقية الداير …اللي كان يخرج للمدرسة بقبقاب … وصوابع ساقيه ويديه زرق بالسقع … وسورية المناسبات تشدّو خمس سنين … في عيد صغير والا كبير يلبسها والاصح هي تلبسو وترجع تطويها عيادة الله يرحمها في صندوق عرسها …
(.وصندوق عيادة اسمح صندوق في الدنيا… فيه اسرارها وفيه جمالها وفيه عينيها اللي قد ما نوصف ما نقدرش نعبّر .قدّاشهم اسمح عينين في الدنيا وقداشهي هي سلطانة فيهم … وحتى مرّة عيّادة الله يرحمها غلطت وانا في الثالثة ثانوي عطاتني فلوس باش نحضر بيها احد اعراس اهلنا… وانا زعمة زعمة شريتها على الموضة نصف يد وبيضاء وكيف شافتها كليت على راسي بالبخص والتڨرڨير والمرج وانا نكره التڨرڨير والمرج .. وهي تقول وتعاود: نصف يد؟؟؟ لاه فلوسنا برشة ؟؟؟ معناها ما تصلحش للشتاء . يلزم يديها طوال (معناها 2 اون 1) ….وزيد بيضاء على استحفاظك البيّ! …
وهاكة عبدالكريم اللي يقعد في الكور متاع الحي يمطّق في لسانو وهو يشوف في زميلو ولد الحشيشة ياقف قدام بياع الميلفيه ويضرب الاولى والثانية واذا ما كلاش ياكل حارة ..وانا كان لطف بيّ ربّي كعبة نتشارك فيها انا وواحد من امثالي مرّة في الشهر ….عبدالكريم المطعم الخيري… والقعدة في كيران باب الجبلي …ودورو قلوب اكحل (موش ابيض متاع الدولة العثمانية) …مع خويا الصادق شعبان وللي ما يعرفوش ويعتبرو من ازلام بن علي نقوللو …هاكة سيدكم لو كان جيتو تعرفوه وتعرفو قيمتو، توة تبلّعوا اذا موش تنقرضوا ..راجل وسيد الرحال … هذي نقوللها فقط للي موش رجال …
عبدالكريم متاع كل تلك الحقبة واللي البعض يتبرأ منها ويحكي عنها بمنطق الفقر و السخط والميزيريا ويزيد يدعي (الله لا ترجعّها) انا نقول اش خص لو كان ترجعلنا الايام … وحتى اذا ما رجعتش وهي عمرها ما ترجع، انا وكل الفخورين بسخطها وفقرها وميزيرتها وذلك كان حجر الاساس في بنائنا… سنواصل البناء الى ما فوق حدود السماء لزرع القرنفل هناك ولزرع الحب والامل والارادة حتى يصبح الانسان فينا سلطانا …
اذ لا سلطان على الانسان الا الانسان.الجميل الراقي …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
هذه الورقة تروي ما حدث لي مع حلول سنة 1998… وهي سنة هامة جدا في حياتي المهنية وفي اذاعة صفاقس… سنة 98 تكون اذاعة صفاقس قد عاشت سنتين تحت عهدة المرحوم عبد القادر عقير كمدير لها…
وللامانة وكما اسلفت الحديث في هذا الامر كان الرجل حركيا جدا وحاول استقطاب عديد الكفاءات الثقافية في الجهة ونجح ايما نجاح في ذلك… وللامانة ايضا كان يعتبرني عضده الاوّل كمستشار له في تسيير شؤون الاذاعة، ومثل هذه الاوضاع تسعد بعض الزملاء وتشقي آخرين… مع حلول سنة 98، ارتأت مؤسسة الاذاعة والتلفزة تحديث تشريعاتها ومن بين ما قامت به سن قوانين جديدة في اسناد الخطط لموظفيها… والتي كان من ضمنها احداث خطة مدير عام للقنوات الاذاعية.. وكان اوّل من ترأسها زميل سابق عرفته عندما كان يشغل خطة رئيس تحرير شريط الانباء التلفزي باللغة العربية… السيد عبد الله عمامي…
علاقتي به كانت مهنية بحتة… كنت كسائر تقنيي قسم المونتاج اقوم مرّة واحدة في الاسبوع ودوريا، بتركيب فيلم شريط الانباء لنشاط رئيس الدولة واعضاده… وهي مهمة تتطلب انتباها جيد لكلّ ما يمدنا به زملاؤنا في قسم التصوير… وخاصة اعطاء الحجم والقيمة لنشاط رئيس الدولة والوزراء… لذلك يحرص كل مركّب منّا على التمحيص وبانتباه شديد للصور واختيار افضلها جودة… نوعية اختصاصنا تجعل كل رئيس تحرير يحرص على مدّنا بتوجيهاته التي يتلقاها بدوره من الرئيس المدير العام… اذ نحذف احيانا وبامر من رئيس التحرير بعض المشاهد او نضيف في مدة مشاهد اخرى… تلك كانت نوعية علاقتي بالسيد عبدالله عمامي وهي علاقة ولّدت بمرور الزمن ثقته فيّ وفي جودة عملي…
عندما كُلّف السيّد عمامي بخطّة مدير عام للقنوات الاذاعية، تنقّل نحو كلّ الاذاعات الجهوية ليطّلع على واقعها ومشاغلها… وجاء دور اذاعة صفاقس ليحلّ ضيفا عليها… وكان استقباله لي حارّا اذ اننا لم نلتق منذ سنة 1976 عندما غادرت المؤسسة لاتمام دراستي بفرنسا… يوم مقدمه لصفاقس اجتمع السيد عبدالله عمامي بالمسؤولين في اذاعتها ليتطارح معهم ومع السيد عبدالقادر عقير احوال اذاعة صفاقس… وكنت من ضمن المدعويين لحضور ذلك الاجتماع… واخذت الكلمة كسائر زملائي وطرحت نقطة اعتبرتها انذاك في منتهى الاهمية و الغرابة… اذ كيف يُعقل لاذاعة عمرها 37 سنة وليس فيها من الخطط الوظيفية الا ثلاثا… فيما بقية المسؤولين على المصالح والاقسام لم يدرجوا يوما ضمن خطة وظيفية …اي انهم لم يعيّنوا يوما بشكل رسمي ضمن خططهم…
وكانت دهشة السيد عبدالله عمامي كبيرة… ووعد بانّ اوّل عملية اصلاح سيقوم بها هي تدارك هذه الوضعية غير العادلة والتي استمرّت أربعة عقود… وانتهى الاجتماع وطلب منّي السيّد عبدالله عمامي ان ارافقه لاجتماع ثلاثي يجمع بيننا وبين السيد عبدالقادر عقير مدير الاذاعة… وكان لنا ذلك وهو اجتماع تاريخي بكلّ المقاييس وهاكم التفاصيل…
بدأ السيد عبدالله عمامي بالاشادة بالنقطة التي اثرتها والمتعلقة بالخطط الوظيفية وهو ما يحتم منذ اليوم على انجاز الـ”اورغانيغرام” (التنظيم الهيكلي) لاذاعة صفاقس… وهذا يعني اقتراح مجموعة من الخطط الوظيفية وفي كل درجاته اي من مدير فرعي الى رئيس قسم مرورا برؤساء المصالح… واضاف متوجها بكلامه الى السيد عبدالقادر عقير: (مهمة انجاز التنظيم الهيكلي ساكلّف بها سي عبدالكريم واريدها اسمية لانه يعرف جيّدا زملاءه الذين عاصرهم منذ نهاية السبعينات ومؤكّد اكثر من ايّ كان، وانا كلّي ثقة فيه ولا اتصورك اقلّ ثقة منّي)… وللامانة رحّب المدير وعن طواعية بالمقترح…
وانتهى الاجتماع الثلاثي وعكفت على انجاز الاورغانيغرام واخترت اسماء زملاء يشهد الله اني وضعت كفاءتهم فقط كفيصل في الاختيار… واطلعت عليها السيد عبدالقادر عقير ودون ايّ جدال وافق عليها واضاف بعض الخطط التي نسيتها… وارسل الاورغانيغرام عن طريق الفاكس للسيد عبدالله عمامي… وماهي دقائق حتى وجدت السيد عبدالله يطلبني على هاتفي… بادرني اوّلا بالشكر على الانجاز السريع واضاف: (فقط لي ملاحظتان، الاولى تتعلق بتسمية الزميل زهير بن احمد كمدير فرعي للبرامج… حيث ابدى لي احترازه من هذا الاسم… وعندما طلبت منه السبب قال لي بكل ايجاز ووضوح: زميلك زهير محسوب على اليسار هل تدري ذلك ؟ قلت له لا ..قال لي: رسالة ختم دروسه بمعهد الصحافة، كانت حول صحف المعارضة في تونس!
ولانّي عرفت زميلي زهير بن احمد بما فيه الكفاية اسرعت بالردّ: واين الاشكال ؟؟ فأسرع هو ايضا بالرد: (خويا عبدالكريم، مدير فرعي للبرامج موش شوية راهي)… ولم اتركه يتمّ حديثه اذ قلت: (انت عندك ثقة فيّ، سي عبدالله ؟) اجاب طبعا ..فقلت له: (زهير هو الاجدر بهذا المنصب وانا اتحمل مسؤولية ما اقول)… اكتفى سي عبدالله بالقول: (دبّر راسك اما اتحمّل مسؤوليتك)… ثم جاءني للملاحظة الثانية وقال: ( إي انت وينك سي عبدالكريم في الاورغانيغرام ؟)… وكنت فعلا لم اسند ايّة خطة وظيفية لشخصي… قلت له: (انت تعرف جيدا ماذا يعني المصدح بالنسبة لي… هو أهم عندي من ايّة خطة وظيفية)… قفز السيد عبدالله على العبارة وقال: (يخخي انا قلتلك ابعد عن المصدح ؟ اما في نفس الوقت ولاني اعرفك واعرف حكايتك بكل تفاصيلها مع المصدح ومع اذاعة صفاقس، لا ارى احدا غيرك يستحقّ مصلحة البرمجة في اذاعتكم… واضيف بكل رجاء اقبلها من اجلي ومن اجل الاذاعة مع مواصلة علاقتك بالمصدح)… قلت له ساناقش الموضوع مع سي عبدالقادر… ردّ عليّ: انه في انتظارك وسيكون سعيدا بقبولك لتلك الخطة…
وما ان انهيت المكالمة حتى هاتفني سي عبدالقادر للحضور بمكتبه… دخلت عليه فوجدته في قمة الانشراح وبدأ بالقول: (شنوة الكيلو يطيّح الرطل ؟؟)… وقتها عرفت انّ خطة رئيس مصلحة البرمجة وهي المصلحة الاهم في كل اذاعة تحادث فيها السيد عبدالله عمامي والسيد عبدالقادر عقير واتفقا على ان اكون انا من يشغلها… وبدأت مسيرتي المهنية تاخذ ابعادا اخرى… عبدالكريم لم يعد كما كان مستشارا للمدير بل اصبح رسميا عضوا في (حكومة) اذاعة صفاقس… وكما اسلفت القول، بقدر ما استبشر العديد بهذه التسمية بقدر ما اغاظت البعض… اي نعم هؤلاء..كانوا دوما وفي كل معركة ينتظرون هزيمتي بالضربة القاضية فاذا بهم يجدونني في وضعية ارقى…
هي ليست حالة خاصة بي بل هي حالة منتشرة في كل الادارات دون استثناء… حرب ضروس كلما خفّت حرائقها فترة، اشتعلت من جديد وربما باكثر ضراوة… انها طبيعة البشر منذ أول الخلق… فاذا كان الانبياء اولى ضحايا اقوامهم فمن نكون نحن حتى لا نعيش نفس الاوضاع؟… وحده الله يعلم من منّا قابيل ومن منّا هابيل وعند الله تجتمع الخصوم…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
يبدو أن ” الأيام والليالي البيض” ستشرّف بداية من اليوم 25 ديسمبر هذا الذي يتميز باصطحاب عاملين اثنين هامين:
اولا نزول الأمطار بكميات معتبرة ومطلوبة لإخراج البلاد من مأزق الجفاف، خاصة ان كل التكهنات توحي وتؤكد احيانا ان الأمطار متواصلة ومن شأن هذا الهطول المخالف للسنة الماضية الجافة، ان يغذي بالأمطار عددا وافرا من السدود وسقي الأراضي الفلاحية، والتبشير بسنة ممتازة في الإنتاج الزراعي عسى أن يقع تقليص حاجتنا وارتباطنا بواردات قمح اوكرانيا او روسيا… والتأكيد مجددا على غرس عقلية الاعتماد على انتاجنا الوطني لتحقيق الأمن الغذائي وهو ليس أمرا ممكنا فقط بل ضروري…
لقد تم القضاء على الارهاب وتمت مقاومة الفساد وتحريك رافعات التنمية… وكذلك تحسين مخزون العملة الأجنبية بالبنك المركزي التي وصلت إلى حوالي 120 يوم توريد بعد سقوطها فترات حكم الاخوان إلى اقل من 60 يوما… كما يستوجب لفت النظر الى ان الدينار التونسي اخذ طريقه للتعافي وحقق زيادة اكثر من 1.6 % مقابل اليورو… والأمر يستوجب مواصلة دعم الدينار أمام العملات الأجنبية خاصة اليورو و الدولار ..وهذه أيضا مستجدات لا تقل أهمية..
عدنا لحالة هذه المدة الفصلية الأولى من شتاء يبدو باردا هذه السنة زيادة عن الأمطار المباركة… و مقابل ذلك يرتعش المواطنون و قد يصطلون من البرد القارس والرياح المرافقة… وقد يشتد وقع البرد على شريحة كبرى من التونسيين الذين يلتجئون بنسب متفاوتة إلى سخانات الغاز او الفحم او الكهرباء… وهي طرق تتطلب قواعد ثابتة لتحقيق الدفء النسبي مع التوقي من اخطارها… فالفحم له أضرار كبيرة متمثلة في ثاني أوكسيد الكربون القاتل… والغاز له اخطار لا تقل عن الفحم… وحتى جهاز الكهرباء المحمول يتطلب “تنفيس” البيت…
تبقى اخطار اضافية خلال هذه الفترة وهي ما اعلنته وزارة الصحة العمومية مشكورة من ضرورة التحلي السريع قصد مواجهة منتظرة للكورونا خاصة لدى كبار السن و المصابين بالامراض المزمنة والأطفال… وربما نضطر إلى العودة لاستعمال الكمامات خلال الازدحام الذي نراه في وسائل النقل المتعددة… لذا قد يتحتم على الدولة استشراف تغيرات واردة للمناخ ببلادنا… والاحتياط اكثر من العوامل التي نراها بالغرب القريب لتوفير الغاز الطبيعى لأكبر جزء من المواطنين في كل مكان لا لمواجهة البرد العائد مع كل شتاء بأكثر قوة، لكن أيضا لرفاه التونسيين شمالا ووسطا وجنوبا… وعدم حصر هذا الرفاه الشرعي عند شريحة واحدة، نسبة منها من الجشعين والسراق… اقول نسبة قليلة لأن متطلبات الرفاه لم تعد مفخرة او من علامات الأرستقراطية.
ملاحظة مبدئية … هذه الورقة ساخصصها لفترة هامة جدا في مسيرة اذاعة صفاقس… فترة تولّى فيها المرحوم عبدالقادر عقير ادارة اذاعة صفاقس، وامتدت من سنة 1996 حتى 2004 …
واحتراما لروحه سامرّ على بعض الاحداث دون ذكر تفاصيلها السيئة… نعم احتراما لروحه دعوني في البداية اقسّم فترة ادارته لاذاعة صفاقس على ثلاث مراحل… الاولى من 96 الى 98 والثانية من 98 الى 2002 والثالثة من 2002 الى 2004… هذا التقسيم مأتاه ما عايشته في المراحل الثلاث من احداث مختلفة جدا… كما اسلفت سابقا ومنذ قدوم الرجل سنة 96 وبطلب منه نشأت بيننا علاقة متينة للغاية… كنت بالنسبة له مستشاره الاول في كلّ ما ينوي القيام به وكان كثير النشاط متعدّد الرؤى لتطوير العمل الاذاعي… وحتّى في علاقاته مع زملائي في الاذاعة كان يستشيرني كلما حدث حادث وكان شديد الثقة بي…
ودعوني هنا اقسم لكم بالله الواحد الاحد اني لم اغتنم طيلة وجودي معه تصفية ايّ حساب مع ايّ كان لكن في المقابل كنت لا اخفي تماما قناعاتي تجاه ايّ زميل ايجابيا او سلبيا… وكانت مواقفي تنبع دائما من حبّي لاذاعتي وحرصي ومن خلال تجربتي ان اقول له الحقيقة عارية… هنا ساذكر بعض الامثلة…
في احدى المرات دعاني على عجل وعبّر لي عن غضبه الشديد لعدم كفاءة احد منظوريه مهنيا… كان في قمة الغضب واخبرني انه يريد ان يضع حدّا لوجود ذلك الشخص في الاذاعة… وكان موقفي ان تريّث يا سي عبدالقادر وسنجد الحلّ ونزلت من مكتبه بحثا عن ذلك الزميل لاعرف لبّ الاشكال ..وجدته في حالة مزرية ..كان يبكي كطفل صغير بعد ان توعّده سي عبدالقادر بالطرد ..هدّأت من روعه ووعدته بالتدخل ايجابيا لفائدته لانّ قناعتي لم تقبل بطرده والقضاء على مورد رزقه ..وللتوّ عدت الى مكتب المدير عارضا عليه الحلّ الامثل ..قلت له مساعد ذلك الذي تريد طرده على غاية من الكفاءة… اذن دع ذلك السيد وشأنه وليكن من الان مخاطبك هو مساعده …وللامانة قال لي اللي تحكم انت مبروك وفعلا كان الامر كذلك …
المثال الثاني حدث مع ثنائي من الزملاء لاحظت انهما اصبحا كثيري التردّد على مكتبه ثم اكتشفت انّ احدهما اصبح ملازما اسبوعيا لهداياه لمنزله (اشي لحوم ..اشي سمك ..اشي غلال ..) فما كان منّي الا ان فاتحته في الامر وحذرته منهما لاني اعرف جيّدا معدنهما… وقلت له بالحرف الواحد ان حدثت لك يوما مشاكل في اذاعة صفاقس، وقتها ستدرك انهما وراء ذلك… وفعلا كانا وراء العديد من مشاكله مع الزملاء …
المثال الثالث حدث مع منشطتين كانتا شاركتا في كاستينغ لتطعيم اذاعة صفاقس باسماء شابة لضخّ دماء جديدة واخذ المشعل عنّا يوما .. وحرصت في هذا الكاستينغ على تكوين لجان حتى لا يكون القرار فرديا… نعم كنت رئيس تلك اللجان ولكنّ القرار كان جماعيا والله .. احداهما نجحت باجماع الجميع على اهليّتها لتكون ضمن من ساتكفّل بتكوينهم وتاطيرهم ..والثانية لم تحظ بايّ صوت في الكاستينغ ..سي عبدالقادر انذاك (جا راسو) على التي نجحت وحاول بكل الوسائل اقناعي بالتخلّي عنها ولكنه فشل تماما ..ونجحت في اصراري ونجحت هي في دورتها وبامتياز ..اليس كذلك حنان التريشيلي .. ؟؟ الثانية والتي لم تنجح في الكاسنينغ وبالاجماع وساتحاشى ذكر اسمها حتى لا احرجها، حكايتها تتلخّص في الآتي:
دعاني يوما سي عبدالقادر الى مكتبه ورجاني اخذا بخاطره ان اقبل بها كمنشطة اقوم بتاطيرها لانّ والدها وهو صديق له احرجه وطلب منه ذلك … موقفي كان الرفض التام لانّه وهذا يعرفه كلّ من تتلمذ عنّي، ليس لي قلب في الامور المهنية .. ابنتي كرامة مثلا ارادت ان تشارك في احدى دورات الكاستينغ .. لم ار مانعا في تمكينها من ذلك الحق لكن كان شرطي ان اقوم انا فقط بالكاسيتينغ… لاني كنت مدركا انّ من سيحضر معي لتقييمها سيراها كابنة لعبدالكريم ولن يكون موضوعيا مائة بالمائة ..وفعلا وكغيرها اجريت لها التجربة الصوتية واكتفيت بذلك… وعندما خرجت كرامة من الاستوديو لاستطلاع رأيي فيها قلت لها في جملة واحدة ..انت لست للميكرو .. ولانها تعرفني وتعرف قناعاتي، ودّعتني وذهبت وكأنّ شيئا لم يكن…
وهذا ما اعنيه وانا اقول دائما المصدح يُفتكّ ولا يُعطى، وسي عبدالقادر يعرف قسوتي وصلابتي وعنادي وكسوحية راسي في مثل هذه الحالات… فقال لي زايد انلحّ عليك وسآخذها على عاتقي وعلى مسؤوليّتي… قلت له ذلك شأنك ..نعم وأخذها على مسؤوليته ولم امكّنها من حضور الدورة التكوينية لانها بالنسبة لي لا تصلح للعمل الاذاعي بتاتا… وهي على فكرة الان مرسمة وتشتغل … ليس ذلك فقط بل تعتبر نفسها وخاصة بعد 14 جانفي نجمة النجوم …رغم انّ نوعيّة ما تقدّمه لا يختلف كثيرا عن احاديث النسوة في حمّام او احاديث بعض الرجال في لعبة البازقة… كلّ ذلك لن يمنعني من القول انّ الفترات الذهبية التي عاصرتها كانت ثلاثا…
اذ انّي لم اعاصر فترتي المؤسس الباعث عبدالعزيز عشيش رحمه الله ولا التوفيق الحشيشة اطال الله عمره… لذلك كانت الاولى التي عاصرتها مع المرحوم قاسم المسدّي، والثانية مع المرحوم محمد عبدالكافي، والثالثة مع المرحوم عبدالقادر عقير .. القاسم المشترك بينهم، نشاط حثيث لا يكلّ ..كانوا ما شاء الله قادرين على العمل طيلة 16 ساعة دون انقطاع… ثم كانت لهم رغبة جامحة في تطوير العمل الاذاعي كل من زاوية رؤيته الخاصة به ..لذلك وهذا عايشته معهم، كانوا لا يتوانون لحظة واحدة في تجميع الكفاءات الثقافية بالجهة لدعمها وللارتفاع بمستوى المنتوج .. وكذلك للاخذ بيد الطاقات الشابة وتشجيعه. . وللامانة نجحوا في ذلك ايما نجاح … اليس كذلك احمد الشايب ؟؟ اتفهّم عرفانك له بالجميل… ولكن هنالك اشياء لا تقلّ اهميّة تطبع مسيرة ايّ مسؤول بايجابياتها نعم، ولكن بسلبياتها ايضا ..
وهذه في تفاصيلها يعرفها فقط من عاشر السيد عقير وعاضده عن قرب .. وسادوّن العديد منها في الورقتين 99 و100 ..كموثّق لما عشته معه ..اذ انّ مبدأ هذه الورقات منذ عددها الاوّل: التوثيق لكلّ ما عشته وعاشه معي جيلي والله وحده يعلم صدقي وامانتي …
ـ يتبع ـ
ورقات يتيم… الورقة 99
رحالة شابة من فرسان الدرّاجات… اعشق نبض الطبيعة والحياة من خلال “شهلة”
معرض بيع التمور من المنتج إلى المستهلك بالعاصمة
قضية وفاة جيلاني الدبوسي… تمديد إيقاف طبيبة السجن
قوات الاحتلال تشن حملة اعتقالات في قلب رام الله!
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 7 ساعات
ورقات يتيم… الورقة 99
- رياضياقبل 18 ساعة
رحالة شابة من فرسان الدرّاجات… اعشق نبض الطبيعة والحياة من خلال “شهلة”
- اقتصادياقبل 19 ساعة
معرض بيع التمور من المنتج إلى المستهلك بالعاصمة
- تونسيّاقبل يوم واحد
قضية وفاة جيلاني الدبوسي… تمديد إيقاف طبيبة السجن
- صن نارقبل يوم واحد
قوات الاحتلال تشن حملة اعتقالات في قلب رام الله!
- صن نارقبل يوم واحد
تحطم طائرة أذربيجانية… ومصير مجهول لركابها الـ 120
- صن نارقبل يوم واحد
صواريخ فرط صوتية من اليمن… وتدافع على الملاجئ في تل أبيب
- جور نارقبل يومين
إنه الشتاء يا حبيبتي