جور نار
ورقات يتيم … الورقة 56
نشرت
قبل 9 أشهرفي

عبد الكريم قطاطة:
سنواتي الثلاث بباريس شهدت تحوّلات و احداثا لا تُنسى … من هذه التحولات وفي ميدان اختصاصي (العلوم السمعية البصرية)، تعمّقت رؤيتي للفن السينمائي والتلفزيوني والاذاعي وتجذّرت من ثمة قناعات اثّرت لاحقا في مسيرتي … اذ انّ الاستماع الى اذاعات من طراز “اوروب 1″ و”فرانس انتر” و”ار تي ال” .. لم يمُرّ مرور الخفاء في نحت ماهية العمل الاذاعي وخاصة ماهية التنشيط ..

قبل تلك الفترة المعيشة في باريس كانت هنالك انماط ثلاثة من الاستهلاك الاذاعي… اولها ما تقدّمه الاذاعات التونسية والتي كانت اربع …الاذاعة الوطنية واذاعتا صفاقس والمنستير والاذاعة الدّولية “ار تي سي اي” … ولئن شذّت هذه الاخيرة عن الطابع التعليبي التي كانت عليه الاذاعات الاخرى وذلك بانتاج وتنشيط برامج مباشرة كان الزميل المنشط حبيب بالعيد من امهر روّادها لانتهاجه ولأوّل مرة نهج الالتزام في ما يقدّمه من مادة واغان لم يتعوّد التونسي على سماعها… وللامانة التاريخية، هو اوّل من بثّ لمارسيل خليفة وفرقة الميادين الاغنية الملتزمة… الاّ انه رغم ذلك بقيت الاذاعة الدولية اذاعة مقتصرة على فئة ضيقة من المستمعين نظرا إلى طبيعة لغتها (الفرنسية)…
فيما بقيت الاذاعات الثلاث الاخرى محنطة بالطابع الكلاسيكي للانتاج الاذاعي وهو طابع يعتمد على البرامج المسجّلة في اغلب ردهات بثّها … رغم محاولات النزر القليل من المجتهدين لتقديم برامج مباشرة لم تصل انذاك الى الحدّ المطلوب منها في منظومة البرامج المباشرة… حيث كان فيها المستمع غائبا تماما لا بالحضور ولا بالهاتف… اذ ان هاجس الخوف مما قد يحدث في تدخلاته كان سائدا لدى كل المسؤولين على قطاع الراديو انذاك ..اذن القناعة كانت عندهم (لا ادّخّل ايدك للمغاور ولا تلسعك عقارب)… وللامانة التاريخية ايضا كانت هذه القناعة سائدة في كل المحطات الاذاعية العربية دون استثناء… وهذا يعني انّ حريّة الصحافة المسموعة كانت مقموعة لمن يراها من زاوية القمع… وكانت تتدرج نحو التفتح المعقول بخطى سلحفاة لمن يري انّ الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي وخاصة درجة وعي المجتمعات العربية، لم تكن لتسمح بـ”ميزاب” مفتوح للحرية …
امام هذا الواقع كان العديد منّا يلجأ لمواقع اذاعية اخرى لعلّ اقربها الينا نحن المتشبعين بالثقافة المصرية من خلال ما ترسّب لدينا من افلام واغان حفظناها منذ نعومة اظافرنا، الاذاعات المصرية… كنت وجيلي نستمع كثيرا الى الاذاعات المصرية… اذاعة الشرق الاوسط من القاهرة… اذاعة صوت العرب من القاهرة… واذاعة هنا القاهرة… كنا منبهرين ببرامجها شكلا ومحتوى اذ اننا كنّا نحفظ عن ظهر قلب حتى الومضات الاشهارية التي كانت تُبث (كانت كانت كانت سيجارة حبيبي ..والفروج الدنماركي… ودخّن سالم وانت سالم وغيرها) ..نعم تصوروا ان الاشهار في الاذاعات المصرية بدأ منذ اوائل الستينات … ثم هناك حفلات ام كلثوم الشهرية المباشرة ثم مهرجان شم النسيم .. الا انّ الواقع يؤكّد ان لا وجود لبرامج مباشرة يشارك فيها المستمع المتلقّي… ربّما ما كان يجذبنا للاذاعات المصرية هو اسلوب المصريين في الحديث ونحن الذين تربّينا على اللهجة المصرية في افلامهم واغانيهم…
اذن ولتلخيص الواقع الاذاعي عموما كان المباشر محصورا على الجانب الاخباري نشرات ومواجيز وعلى مباريات كرة القدم وعلى برامج الاهداءات الغنائية والمقتصرة فقط على البريد المكتوب (اغنية لكل مستمع، وهو من اشهر البرامج الاذاعية واكثرها جماهيرية في الاذاعة الوطنية)… دون نسيان بعض المحاولات القليلة والمتواضعة جدا في نوعية المباشر كمّا في بداية السبعينات … وحتى بالنسبة للبرامج الاخبارية والتي كانت تحظى عموما بنسبة استماع جيدة للغاية، كان العديد يلجأ الى اذاعة لندن ليستمع اليها في نشراتها اليومية وهو النمط الثالث في فضاء الاذاعات المسموعة انذاك …الا ان ذلك لا يمنع القول بان المادة الاخبارية كانت تحظى بتقدير واعجاب جلّ مستمعي البلاد… كيف لا وهي تحمل اسماء متميّزة جدا في التقديم انذاك (المحرزي . منير شما …العموري.. المسدّي.. الدبابي.. الرياحي ..والطاهر مبارك) رغم انّ هذا الاخير كان الجميع يتمتّعون اكثر بصولاته وجولاته وهو يُطرب آذان الجميع بتعليقه الرياضي …
الطاهر مبارك عندي هو افضل من عرفته الساحة الصحفية الكروية اذاعيا ثم تلفزيا عبر تاريخ تونس في نقل المباريات الكروية .. هو مكشّخ ابا عن جد ..ولكنّه كان يعشق فن الكرة الجميل انّى كان صاحبه… ثم هو افضل من يصوّر لك ما يحدث على الميدان وبطابعه الخاص ومفرداته الخاصة وبمنطق عادل لا خبث فيه ولا رياء ولا تحيّز لذلك رحمه الله احبّه المستمع .. اتذكّر جيدا اني كتبت يوما في جريدة الايام مقالا اعدد فيه خصاله واواسي آلامه وهو الذي حرموه بفعل فاعل من السفر مع الفريق الوطني لكاس العالم بالارجنتين ومن ثمة قرر اعتزال المصدح رياضيا … نعم التنبير والحرقان في كل زمان …لم اهضم ذلك الوجع لحدّ يوم الناس هذا… اذ كيف لصقر التعليق الرياضي ان نقُصّ له جناحيه بتلك الوحشية ..؟؟؟ اليست هي قهرة من قهرات اولاد الحلال ..؟؟ وكم كنت سعيدا يوم دعوته للمشاركة في حفل توديع الاسطورة حمادي العقربي حتى يكون صحبة الزميل العزيز احمد العش من المكرمين في ذلك اليوم المشهود …
دعوني اقل في هذا الباب ان المعلّق الرياضي هو بالاساس من يُحوّل بالكلمة الوصف السمعي الى مشهد بصري… وهو ايضا الممتلئ كرة بادقّ تفاصيلها ولو طُلب منّي ان ارتّب المعلّقين التونسيين في هذا الاختصاص منذ الستينات الى يوم الناس هذا لقلت وحسب الافضلية: 1ـ الطاهر مبارك، 2ـ عصام الشوالي، 3ـانور الحاج ساسي .. هؤلاء عندي استطاعوا ان يكون لكل واحد منهم بصمة خاصة به … وهو الشرط الاول لأي نجاح …
لأعد الى فرنسا والى ما اكتشفته في دنيا الاعلام المسموع …انبهرت بكل صدق بالبون الشاسع الموجود بين ما تقدمه الاذاعات الفرنسية والاذاعات العربية ..هنالك ازمنة تفصلنا عن إذاعات الضفّتين شكلا ومحتوى الديناميكية الرهيبة …خفّة الروح …والمضمون الجيّد عموما … كنت ذات ليلة ادير زُرّ الراديو باحثا عن لون اخر بعد ان سهرت مع البرنامج اليومي (مستعملي الطريق) كم هم ظرفاء .les routiers sont sympas وبعد الاعتذار عن الترجمة والتي يصنفها العديد في باب الخيانة traduire c’est trahir … لا علينا البرنامج يتمثل في فتح الهاتف أمام كل مستعملي الطريق وخاصة اصحاب المهن الليلية والذين قد تحدث لهم مشاكل او عطب ما… فتكون الاذاعة وسيطا لتحسيس الاقرب اليهم مكانا بضرورة تقديم العون… برنامج خفيف الظل شكلا، جليل الخدمات محتوى… لا رئيس بلدية يتحدث عن الطرقات وعن بروز ظهور احمرتها التي اصبحت الخبز اليومي لاي كان بعد 14 جانفي، يبنيها متى شاء ويأي ارتفاع تقولشي الكياس ملك جد والدين بوه… او عن اضواء الطريق تشتعل صباحا مساء ويوم الاحد … وبعد تجي الستاغ تبعثلك وتقرّق بيك يرحم والديك ما تخليش الكليماتيزور اقل من 26 … اتّي على الاقل تذكّات شوية وبعدت على هذا الرقم المشؤوم وكوارث 26ـ26 رغم انو الكوارث اللي جاو بعد 14 جانفي هوما من نوع 26 مليار في 26 مليار… مسّطتها شويّة تقولو انتوما؟؟ باهي نرجعو لفرانسا ..
ادرت الزر كما اسلفت للبحث عن الوان اذاعية اخرى واذا بي اقع على صوت هادئ رصين بالكاد اسمع تعليقا له ..كان البرنامج يحمل عنوان (الهاتف يرنّ) .. وكان المحتوى بسيطا للغاية… فضفضة… يتدخّل مستمع ما ليُنفّس عمّا بداخله ..ويا لروعة المتدخّلين، هم ابعد ما يكونون عن السذاجة والهرهرة (هذه من تهرهير) التي لا تخلو اذاعة من اذاعاتنا منها ومن الهرهارة ….ثم يأتي ذلك الصوت الرصين الوقور والرهيب ليطلب الاذن من المتدخل بعد الاستماع الجيد والعميق لتلك الفضفضة بابداء رأيه .. نعم اعيدها جيدا يطلب الاذن من المفضفض ان يُعطي رايه … وينبري ذلك الاذاعي الفذ في تحاليل عميقة تشفي الغليل ..تماما كما يفعل الان في اذاعاتنا المرموقة كل من هبّ ودبّ ليصبح عبقر زمانه تنظيرا وتقويما… (فولة واتقسمت في اثنين مع ذلك الاذاعي الفرنسي!)… وبحثت عن ذلك الاذاعي لأعرف من هو ومن اي كوكب هو؟؟… ووجدته… وجدته وذهبت اليه في السوربون لاقول له فقط (عقّدتني والله)..انه استاذ جامعي في السوسيولوجيا …_قلتمكشي كيف اللي عندنا بالضبط !… بايجاز هناك قطار اكسبريس يقطع المسافات في ساعات، وفي المقابل كرّيطة بحمار اجرب (يكركر في ساقيه تكركير)… دون نسيان ان المشهد الاذاعي العربي لا يختلف كثيرا عن جلّ المشاهد الاخرى وفي كل القطاعات وللحديث عودة في احدى الورقات القادمة حول العمل الاذاعي …
ميدان التليفزيون لا يختلف كثيرا عن ميدان الراديو… يكفي ان اذكر قامات من نوع جاك مارتان …جاك شانسيل.. برنار بيفو .. ميشال دروكير… كل اسم في اختصاصه انذاك … فقط هاتوا لي في ذلك الزمن وجها تليفيزيونيا (باستثناء الفلتة نجيب الخطاب مع احترام النسبية) قادرا على مزاحمتهم ..؟؟؟ … تصوروا حتى في نشرة اخبار الثامنة ليلا بقناة تي اف 1 كان جل المشاهدين في فرنسا ينتظرون يوميا روجيه جيكال المقدّم الرئيسي للنشرة (في كلمة هو متعة)… لكن الاهم والاخطر في نفس الوقت كيف تُحوّل قناة تلفزية نشرتها الاخبارية الى متعة ..؟؟؟ …اليست بذلك قادرة على احتواء النظارة ..؟؟؟ اليست بذلك قادرة على الربح مهنيا اولا وذلك بالاستحواذ على اكبر عدد من المشاهدين… اي بالاستثمار في الاشهار والسبونسورينغ من جهة وبتوجيه الرأي العام سياسيا بفضل هذا المقدّم المُحنّك صنعة ..؟؟؟ وين احنا وين هوما ..؟؟؟ جلّ مقدمي الاخبار برجالهم بنساهم و في جل شاشاتنا اليوم اقرب الى معلني جنائز وهم اجدر ببرامج من نوع (البقاء لله) …
المحور الاخير في العالم السمعي البصري هو قطعا المشهد السينمائي ..كنت وكجل ابناء جيلي شغوفا بالفن السابع منذ الصغر وطبيعي جدا ان يتدرّج الواحد منّا من افلام (الصحيّح ما يموتش) في زمن هيركول وماسيست وسبارتاكوس… وزمن فريد شوقي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وصولا الى جيمس بوند وافلام الويسترن الامريكية منها والايطالية (حدث ذات مرة في الغرب، وشارل برونسن بالهارمونيكا) ..دون نسيان الافلام الهندية والاسابيع المتعددة لفيلم “ولدي” ..ودون نسيان ايضا الاحتفال بأشهر فيلم تونسي في طفولتنا (الفجر) لعمار الخليفي . وهز ايدك من المرق لا تتحرق …..كذلك مررنا بمرحلة عشق الافلام التاريخية كصلاح الدين الايوبي ورابعة العدوية وعنتر وعبلة ..ثم وبداية من سنة الباكالوريا بدات اهتماماتنا تتطوّر نوعيا… اذ اننا وربّما موضويّا احيانا اصبحنا نهتم بالافلام السياسة كـ”زاد” وزروبا اليوناني وورجال الرئيس وساكو و فانزيتي .. واكتشفنا كذلك نوعية اخرى من الافلام العميقة كـ”ذهب مع الريح” و”دكتور جيفاغو” و”فتاة ريان”…
الا ان عشرتي مع السينما منذ ان اكتشفتها انا وجيلي كانت منحصرة عموما في ثلاث مدارس …المدرسة العربية ..المدرسة الامريكية ..والمدرسة الهندية وهذا طبيعي لان السوق عالميا انذاك كانت محتكرة من هذه المدارس وبالترتيب: الافلام الهندية ثم الامريكية وفي المركز الثالث المصرية وهذا ما عنيته بالمدرسة العربية .. في فرنسا ونظرا اولا إلى الكمّ المعرفي الذي تلقيته في دراستي، ونظرا ايضا إلى الكمّ الهائل من الافلام المعروضة والتي اجبرتني احيانا على مشاهدة 4 افلام اسبوعيا على الاقل …اكتشفت نوعية مغايرة تماما لما عرفته سابقا ..نوعية عميقة في طرحها لأي اشكال انساني… نفسيا اجتماعيا ثقافيا سياسيا… وبطروحات متميّزة جدا اي بكتابة سنمائية جديدة مختلفة عن السائد… بدءا بالسيناريو ووصولا الى المونتاج والميكساج والمؤثرات صوتا وصورة… اذ يكفي ان اذكر عناوين من نوع خبز وشوكولاطة ..تاكسي درايفر .. بادرو بادروني …وخاصة خاصة خاصة “طيران فوق عش الوقواق” … الفيلم الجبار برهيبه جاك نيكولسون وهو الممثل المتحصل على جائزة غولدن غلوب سبع مرات … موش برشة، سبع مرات اكاهو ! ..
وقتها ادركت ماهية الكتابة السينمائية الجيّدة ووقتها بدأت افهم باكثر عمقا افلام يوسف شاهين ..الارض …الاختيار .. عودة الابن الضال وغيرها.. وحتى باب الحديد الذي اخرجه شاهين في بداية حياته السينمائية والذي مثل فيه المخرج بنفسه دور الرجل الاعرج بائع الجرائد واسمه قناوي والمتخلّف ذهنيا والذي زاد هوسه بحب هنومة هند رستم ومن الهوس ما قتل… ولئن شهد هذا الفيلم في اول عرضه سنة 58 من القرن الماضي فشلا ذريعا وصل بالمتفرجين الى تحطيم كراسي القاعة لانه جاء مختلفا عن السائد سابقا لعصره، فان يوسف شاهين نال به جائزة افضل ممثل في مهرجان برلين ثم هو الان مصنف في المرتبة الرابعة كواحد من افضل افلام مصر عبر تاريخها السينمائي… لانه واحد من قائمة افلام الفكر لا افلام الاستهلاك ….
اذكر انني سنة 2004 عندما دعاني معهد الملتيميديا اولا ثم معهد الفنون الجميلة لتدريس مادة العلوم السمعية البصرية، كنت اختار لهم في باب قراءة وتحليل الافلام اعمالا تحرّك الفكر اولا وقبل كل شيء من نوع (انا سام) I am Sam او (المدانون) Les condamnés… كنت ارهقهم بالسؤال عن الرسالة الرئيسية لهذه الافلام ..لأني تعلمت من فرنسا عموما ومن دراستي خاصّة ان الانسان صاحب رسالة في كل ما يقوم به او لا يكون …ما قيمة الواحد منّا دون رسالة في الحياة؟ .. علينا الا نستهين بطاقتنا، بقدرتنا على ان تكون لنا رسالة مهما كان حجمها مهما كانت بساطتها… لان الرائع في الحياة ان نغرس نبتة لا ان نتبجّح بمعرفتنا للنباتات ..ولنتذكّر جميعا اننا جميعا ودون استثناء نأكل ممّا غرسه الاخر، ودين علينا ان نغرس حتى يأكل الاخر ….ليس مهما البتّة ان ياكل الواحد منهم الغلّة ويسبّ الملّة …اولئك وُجدوا وسيُوجدون في كل زمان ومكان، المهم فقط لنكن نحن من يزرع … وهم السبّابون …
ـ يتبع ـ

تصفح أيضا

عبد الكريم قطاطة:
في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟
في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…
مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…
تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…
اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…
إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…
قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…
الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟
موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…
قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …
ـ يتبع ـ

جور نار
لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!
نشرت
قبل 3 أسابيعفي
15 أبريل 2025من قبل
محمد الأطرش Mohamed Alatrash
محمد الأطرش:
كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.
سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.
الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.
هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟
أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…
ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟
يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.


عبد الكريم قطاطة:
في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…
بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…
هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…
السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…
انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…
ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…
تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…
وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…
في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…
دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…
الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…
رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …
ـ يتبع ـ


الفاتيكان: البابا الجديد “ليو الرابع عشر”… امتداد لسلفه “فرنسيس”، وعلى نفس خطه الاجتماعي والإنساني

أوكرانيا تطلب هدنة بـ 30 يوما… وروسيا تردّ: ثلاثة أيام فقط!

رغم التعتيم أمريكيّا وإسرائيليّا… الكشف عن هوية قاتل شيرين أبو عاقلة

صلوات فيروز… أو درب من مروا إلى السماء

ندوة حرية الصحافة على ضوء التطورات الجيوسياسية والتكنولوجية
استطلاع
صن نار
- صن نارقبل 7 ساعات
الفاتيكان: البابا الجديد “ليو الرابع عشر”… امتداد لسلفه “فرنسيس”، وعلى نفس خطه الاجتماعي والإنساني
- صن نارقبل يوم واحد
أوكرانيا تطلب هدنة بـ 30 يوما… وروسيا تردّ: ثلاثة أيام فقط!
- صن نارقبل يوم واحد
رغم التعتيم أمريكيّا وإسرائيليّا… الكشف عن هوية قاتل شيرين أبو عاقلة
- جلـ ... منارقبل يومين
صلوات فيروز… أو درب من مروا إلى السماء
- تونسيّاقبل يومين
ندوة حرية الصحافة على ضوء التطورات الجيوسياسية والتكنولوجية
- صن نارقبل يومين
لأول مرة منذ سنوات… صيف دون قطع مياه؟
- صن نارقبل يومين
رغم “الحظر” المعلن… بريطانيا مستمرة في تسليح إسرائيل
- صن نارقبل يومين
ترامب ينوي اعتماد اسم “الخليج العربي” بدل “الخليج الفارسي”