جور نار
ورقات يتيم … الورقة 56
نشرت
قبل 3 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
سنواتي الثلاث بباريس شهدت تحوّلات و احداثا لا تُنسى … من هذه التحولات وفي ميدان اختصاصي (العلوم السمعية البصرية)، تعمّقت رؤيتي للفن السينمائي والتلفزيوني والاذاعي وتجذّرت من ثمة قناعات اثّرت لاحقا في مسيرتي … اذ انّ الاستماع الى اذاعات من طراز “اوروب 1″ و”فرانس انتر” و”ار تي ال” .. لم يمُرّ مرور الخفاء في نحت ماهية العمل الاذاعي وخاصة ماهية التنشيط ..
قبل تلك الفترة المعيشة في باريس كانت هنالك انماط ثلاثة من الاستهلاك الاذاعي… اولها ما تقدّمه الاذاعات التونسية والتي كانت اربع …الاذاعة الوطنية واذاعتا صفاقس والمنستير والاذاعة الدّولية “ار تي سي اي” … ولئن شذّت هذه الاخيرة عن الطابع التعليبي التي كانت عليه الاذاعات الاخرى وذلك بانتاج وتنشيط برامج مباشرة كان الزميل المنشط حبيب بالعيد من امهر روّادها لانتهاجه ولأوّل مرة نهج الالتزام في ما يقدّمه من مادة واغان لم يتعوّد التونسي على سماعها… وللامانة التاريخية، هو اوّل من بثّ لمارسيل خليفة وفرقة الميادين الاغنية الملتزمة… الاّ انه رغم ذلك بقيت الاذاعة الدولية اذاعة مقتصرة على فئة ضيقة من المستمعين نظرا إلى طبيعة لغتها (الفرنسية)…
فيما بقيت الاذاعات الثلاث الاخرى محنطة بالطابع الكلاسيكي للانتاج الاذاعي وهو طابع يعتمد على البرامج المسجّلة في اغلب ردهات بثّها … رغم محاولات النزر القليل من المجتهدين لتقديم برامج مباشرة لم تصل انذاك الى الحدّ المطلوب منها في منظومة البرامج المباشرة… حيث كان فيها المستمع غائبا تماما لا بالحضور ولا بالهاتف… اذ ان هاجس الخوف مما قد يحدث في تدخلاته كان سائدا لدى كل المسؤولين على قطاع الراديو انذاك ..اذن القناعة كانت عندهم (لا ادّخّل ايدك للمغاور ولا تلسعك عقارب)… وللامانة التاريخية ايضا كانت هذه القناعة سائدة في كل المحطات الاذاعية العربية دون استثناء… وهذا يعني انّ حريّة الصحافة المسموعة كانت مقموعة لمن يراها من زاوية القمع… وكانت تتدرج نحو التفتح المعقول بخطى سلحفاة لمن يري انّ الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي وخاصة درجة وعي المجتمعات العربية، لم تكن لتسمح بـ”ميزاب” مفتوح للحرية …
امام هذا الواقع كان العديد منّا يلجأ لمواقع اذاعية اخرى لعلّ اقربها الينا نحن المتشبعين بالثقافة المصرية من خلال ما ترسّب لدينا من افلام واغان حفظناها منذ نعومة اظافرنا، الاذاعات المصرية… كنت وجيلي نستمع كثيرا الى الاذاعات المصرية… اذاعة الشرق الاوسط من القاهرة… اذاعة صوت العرب من القاهرة… واذاعة هنا القاهرة… كنا منبهرين ببرامجها شكلا ومحتوى اذ اننا كنّا نحفظ عن ظهر قلب حتى الومضات الاشهارية التي كانت تُبث (كانت كانت كانت سيجارة حبيبي ..والفروج الدنماركي… ودخّن سالم وانت سالم وغيرها) ..نعم تصوروا ان الاشهار في الاذاعات المصرية بدأ منذ اوائل الستينات … ثم هناك حفلات ام كلثوم الشهرية المباشرة ثم مهرجان شم النسيم .. الا انّ الواقع يؤكّد ان لا وجود لبرامج مباشرة يشارك فيها المستمع المتلقّي… ربّما ما كان يجذبنا للاذاعات المصرية هو اسلوب المصريين في الحديث ونحن الذين تربّينا على اللهجة المصرية في افلامهم واغانيهم…
اذن ولتلخيص الواقع الاذاعي عموما كان المباشر محصورا على الجانب الاخباري نشرات ومواجيز وعلى مباريات كرة القدم وعلى برامج الاهداءات الغنائية والمقتصرة فقط على البريد المكتوب (اغنية لكل مستمع، وهو من اشهر البرامج الاذاعية واكثرها جماهيرية في الاذاعة الوطنية)… دون نسيان بعض المحاولات القليلة والمتواضعة جدا في نوعية المباشر كمّا في بداية السبعينات … وحتى بالنسبة للبرامج الاخبارية والتي كانت تحظى عموما بنسبة استماع جيدة للغاية، كان العديد يلجأ الى اذاعة لندن ليستمع اليها في نشراتها اليومية وهو النمط الثالث في فضاء الاذاعات المسموعة انذاك …الا ان ذلك لا يمنع القول بان المادة الاخبارية كانت تحظى بتقدير واعجاب جلّ مستمعي البلاد… كيف لا وهي تحمل اسماء متميّزة جدا في التقديم انذاك (المحرزي . منير شما …العموري.. المسدّي.. الدبابي.. الرياحي ..والطاهر مبارك) رغم انّ هذا الاخير كان الجميع يتمتّعون اكثر بصولاته وجولاته وهو يُطرب آذان الجميع بتعليقه الرياضي …
الطاهر مبارك عندي هو افضل من عرفته الساحة الصحفية الكروية اذاعيا ثم تلفزيا عبر تاريخ تونس في نقل المباريات الكروية .. هو مكشّخ ابا عن جد ..ولكنّه كان يعشق فن الكرة الجميل انّى كان صاحبه… ثم هو افضل من يصوّر لك ما يحدث على الميدان وبطابعه الخاص ومفرداته الخاصة وبمنطق عادل لا خبث فيه ولا رياء ولا تحيّز لذلك رحمه الله احبّه المستمع .. اتذكّر جيدا اني كتبت يوما في جريدة الايام مقالا اعدد فيه خصاله واواسي آلامه وهو الذي حرموه بفعل فاعل من السفر مع الفريق الوطني لكاس العالم بالارجنتين ومن ثمة قرر اعتزال المصدح رياضيا … نعم التنبير والحرقان في كل زمان …لم اهضم ذلك الوجع لحدّ يوم الناس هذا… اذ كيف لصقر التعليق الرياضي ان نقُصّ له جناحيه بتلك الوحشية ..؟؟؟ اليست هي قهرة من قهرات اولاد الحلال ..؟؟ وكم كنت سعيدا يوم دعوته للمشاركة في حفل توديع الاسطورة حمادي العقربي حتى يكون صحبة الزميل العزيز احمد العش من المكرمين في ذلك اليوم المشهود …
دعوني اقل في هذا الباب ان المعلّق الرياضي هو بالاساس من يُحوّل بالكلمة الوصف السمعي الى مشهد بصري… وهو ايضا الممتلئ كرة بادقّ تفاصيلها ولو طُلب منّي ان ارتّب المعلّقين التونسيين في هذا الاختصاص منذ الستينات الى يوم الناس هذا لقلت وحسب الافضلية: 1ـ الطاهر مبارك، 2ـ عصام الشوالي، 3ـانور الحاج ساسي .. هؤلاء عندي استطاعوا ان يكون لكل واحد منهم بصمة خاصة به … وهو الشرط الاول لأي نجاح …
لأعد الى فرنسا والى ما اكتشفته في دنيا الاعلام المسموع …انبهرت بكل صدق بالبون الشاسع الموجود بين ما تقدمه الاذاعات الفرنسية والاذاعات العربية ..هنالك ازمنة تفصلنا عن إذاعات الضفّتين شكلا ومحتوى الديناميكية الرهيبة …خفّة الروح …والمضمون الجيّد عموما … كنت ذات ليلة ادير زُرّ الراديو باحثا عن لون اخر بعد ان سهرت مع البرنامج اليومي (مستعملي الطريق) كم هم ظرفاء .les routiers sont sympas وبعد الاعتذار عن الترجمة والتي يصنفها العديد في باب الخيانة traduire c’est trahir … لا علينا البرنامج يتمثل في فتح الهاتف أمام كل مستعملي الطريق وخاصة اصحاب المهن الليلية والذين قد تحدث لهم مشاكل او عطب ما… فتكون الاذاعة وسيطا لتحسيس الاقرب اليهم مكانا بضرورة تقديم العون… برنامج خفيف الظل شكلا، جليل الخدمات محتوى… لا رئيس بلدية يتحدث عن الطرقات وعن بروز ظهور احمرتها التي اصبحت الخبز اليومي لاي كان بعد 14 جانفي، يبنيها متى شاء ويأي ارتفاع تقولشي الكياس ملك جد والدين بوه… او عن اضواء الطريق تشتعل صباحا مساء ويوم الاحد … وبعد تجي الستاغ تبعثلك وتقرّق بيك يرحم والديك ما تخليش الكليماتيزور اقل من 26 … اتّي على الاقل تذكّات شوية وبعدت على هذا الرقم المشؤوم وكوارث 26ـ26 رغم انو الكوارث اللي جاو بعد 14 جانفي هوما من نوع 26 مليار في 26 مليار… مسّطتها شويّة تقولو انتوما؟؟ باهي نرجعو لفرانسا ..
ادرت الزر كما اسلفت للبحث عن الوان اذاعية اخرى واذا بي اقع على صوت هادئ رصين بالكاد اسمع تعليقا له ..كان البرنامج يحمل عنوان (الهاتف يرنّ) .. وكان المحتوى بسيطا للغاية… فضفضة… يتدخّل مستمع ما ليُنفّس عمّا بداخله ..ويا لروعة المتدخّلين، هم ابعد ما يكونون عن السذاجة والهرهرة (هذه من تهرهير) التي لا تخلو اذاعة من اذاعاتنا منها ومن الهرهارة ….ثم يأتي ذلك الصوت الرصين الوقور والرهيب ليطلب الاذن من المتدخل بعد الاستماع الجيد والعميق لتلك الفضفضة بابداء رأيه .. نعم اعيدها جيدا يطلب الاذن من المفضفض ان يُعطي رايه … وينبري ذلك الاذاعي الفذ في تحاليل عميقة تشفي الغليل ..تماما كما يفعل الان في اذاعاتنا المرموقة كل من هبّ ودبّ ليصبح عبقر زمانه تنظيرا وتقويما… (فولة واتقسمت في اثنين مع ذلك الاذاعي الفرنسي!)… وبحثت عن ذلك الاذاعي لأعرف من هو ومن اي كوكب هو؟؟… ووجدته… وجدته وذهبت اليه في السوربون لاقول له فقط (عقّدتني والله)..انه استاذ جامعي في السوسيولوجيا …_قلتمكشي كيف اللي عندنا بالضبط !… بايجاز هناك قطار اكسبريس يقطع المسافات في ساعات، وفي المقابل كرّيطة بحمار اجرب (يكركر في ساقيه تكركير)… دون نسيان ان المشهد الاذاعي العربي لا يختلف كثيرا عن جلّ المشاهد الاخرى وفي كل القطاعات وللحديث عودة في احدى الورقات القادمة حول العمل الاذاعي …
ميدان التليفزيون لا يختلف كثيرا عن ميدان الراديو… يكفي ان اذكر قامات من نوع جاك مارتان …جاك شانسيل.. برنار بيفو .. ميشال دروكير… كل اسم في اختصاصه انذاك … فقط هاتوا لي في ذلك الزمن وجها تليفيزيونيا (باستثناء الفلتة نجيب الخطاب مع احترام النسبية) قادرا على مزاحمتهم ..؟؟؟ … تصوروا حتى في نشرة اخبار الثامنة ليلا بقناة تي اف 1 كان جل المشاهدين في فرنسا ينتظرون يوميا روجيه جيكال المقدّم الرئيسي للنشرة (في كلمة هو متعة)… لكن الاهم والاخطر في نفس الوقت كيف تُحوّل قناة تلفزية نشرتها الاخبارية الى متعة ..؟؟؟ …اليست بذلك قادرة على احتواء النظارة ..؟؟؟ اليست بذلك قادرة على الربح مهنيا اولا وذلك بالاستحواذ على اكبر عدد من المشاهدين… اي بالاستثمار في الاشهار والسبونسورينغ من جهة وبتوجيه الرأي العام سياسيا بفضل هذا المقدّم المُحنّك صنعة ..؟؟؟ وين احنا وين هوما ..؟؟؟ جلّ مقدمي الاخبار برجالهم بنساهم و في جل شاشاتنا اليوم اقرب الى معلني جنائز وهم اجدر ببرامج من نوع (البقاء لله) …
المحور الاخير في العالم السمعي البصري هو قطعا المشهد السينمائي ..كنت وكجل ابناء جيلي شغوفا بالفن السابع منذ الصغر وطبيعي جدا ان يتدرّج الواحد منّا من افلام (الصحيّح ما يموتش) في زمن هيركول وماسيست وسبارتاكوس… وزمن فريد شوقي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وصولا الى جيمس بوند وافلام الويسترن الامريكية منها والايطالية (حدث ذات مرة في الغرب، وشارل برونسن بالهارمونيكا) ..دون نسيان الافلام الهندية والاسابيع المتعددة لفيلم “ولدي” ..ودون نسيان ايضا الاحتفال بأشهر فيلم تونسي في طفولتنا (الفجر) لعمار الخليفي . وهز ايدك من المرق لا تتحرق …..كذلك مررنا بمرحلة عشق الافلام التاريخية كصلاح الدين الايوبي ورابعة العدوية وعنتر وعبلة ..ثم وبداية من سنة الباكالوريا بدات اهتماماتنا تتطوّر نوعيا… اذ اننا وربّما موضويّا احيانا اصبحنا نهتم بالافلام السياسة كـ”زاد” وزروبا اليوناني وورجال الرئيس وساكو و فانزيتي .. واكتشفنا كذلك نوعية اخرى من الافلام العميقة كـ”ذهب مع الريح” و”دكتور جيفاغو” و”فتاة ريان”…
الا ان عشرتي مع السينما منذ ان اكتشفتها انا وجيلي كانت منحصرة عموما في ثلاث مدارس …المدرسة العربية ..المدرسة الامريكية ..والمدرسة الهندية وهذا طبيعي لان السوق عالميا انذاك كانت محتكرة من هذه المدارس وبالترتيب: الافلام الهندية ثم الامريكية وفي المركز الثالث المصرية وهذا ما عنيته بالمدرسة العربية .. في فرنسا ونظرا اولا إلى الكمّ المعرفي الذي تلقيته في دراستي، ونظرا ايضا إلى الكمّ الهائل من الافلام المعروضة والتي اجبرتني احيانا على مشاهدة 4 افلام اسبوعيا على الاقل …اكتشفت نوعية مغايرة تماما لما عرفته سابقا ..نوعية عميقة في طرحها لأي اشكال انساني… نفسيا اجتماعيا ثقافيا سياسيا… وبطروحات متميّزة جدا اي بكتابة سنمائية جديدة مختلفة عن السائد… بدءا بالسيناريو ووصولا الى المونتاج والميكساج والمؤثرات صوتا وصورة… اذ يكفي ان اذكر عناوين من نوع خبز وشوكولاطة ..تاكسي درايفر .. بادرو بادروني …وخاصة خاصة خاصة “طيران فوق عش الوقواق” … الفيلم الجبار برهيبه جاك نيكولسون وهو الممثل المتحصل على جائزة غولدن غلوب سبع مرات … موش برشة، سبع مرات اكاهو ! ..
وقتها ادركت ماهية الكتابة السينمائية الجيّدة ووقتها بدأت افهم باكثر عمقا افلام يوسف شاهين ..الارض …الاختيار .. عودة الابن الضال وغيرها.. وحتى باب الحديد الذي اخرجه شاهين في بداية حياته السينمائية والذي مثل فيه المخرج بنفسه دور الرجل الاعرج بائع الجرائد واسمه قناوي والمتخلّف ذهنيا والذي زاد هوسه بحب هنومة هند رستم ومن الهوس ما قتل… ولئن شهد هذا الفيلم في اول عرضه سنة 58 من القرن الماضي فشلا ذريعا وصل بالمتفرجين الى تحطيم كراسي القاعة لانه جاء مختلفا عن السائد سابقا لعصره، فان يوسف شاهين نال به جائزة افضل ممثل في مهرجان برلين ثم هو الان مصنف في المرتبة الرابعة كواحد من افضل افلام مصر عبر تاريخها السينمائي… لانه واحد من قائمة افلام الفكر لا افلام الاستهلاك ….
اذكر انني سنة 2004 عندما دعاني معهد الملتيميديا اولا ثم معهد الفنون الجميلة لتدريس مادة العلوم السمعية البصرية، كنت اختار لهم في باب قراءة وتحليل الافلام اعمالا تحرّك الفكر اولا وقبل كل شيء من نوع (انا سام) I am Sam او (المدانون) Les condamnés… كنت ارهقهم بالسؤال عن الرسالة الرئيسية لهذه الافلام ..لأني تعلمت من فرنسا عموما ومن دراستي خاصّة ان الانسان صاحب رسالة في كل ما يقوم به او لا يكون …ما قيمة الواحد منّا دون رسالة في الحياة؟ .. علينا الا نستهين بطاقتنا، بقدرتنا على ان تكون لنا رسالة مهما كان حجمها مهما كانت بساطتها… لان الرائع في الحياة ان نغرس نبتة لا ان نتبجّح بمعرفتنا للنباتات ..ولنتذكّر جميعا اننا جميعا ودون استثناء نأكل ممّا غرسه الاخر، ودين علينا ان نغرس حتى يأكل الاخر ….ليس مهما البتّة ان ياكل الواحد منهم الغلّة ويسبّ الملّة …اولئك وُجدوا وسيُوجدون في كل زمان ومكان، المهم فقط لنكن نحن من يزرع … وهم السبّابون …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
حتّى اختتم الحديث عن دورتنا التكوينية في الراي اونو والتي كانت على امتداد شهرين، عليّ ان ادوّن هذه الملاحظات التي بقيت عالقة في خانة الذكريات ..
كلنا نعرف ان السفر مع فرد او مجموعة عنصر هام لمعرفة ذلك الشخص او تلك المجموعة معرفة عميقة .. وسفرة ايطاليا لم تخرج عن هذا الاطار ..اكتشفنا مثلا (القرناط) الذي يستخسر في نفسه شراء قهوة، في بلد اشتهر بمتعة قهوته… اكتشفنا اناسا غاية في الضمار الجميل، وكنا نحسبهم غاية في المساطة… اكتشفنا ميولاتنا الى السهرات بكلّ الالوان من حيث مشروباتنا، ومن حيث ميولاتنا لمشاهدة نوعية اخرى من البرامج الايطالية في القنوات الخاصة والتي لا يصلنا بثها الى تونس… وانا ما نقلّكم وانتوما ما يخفاكم (كولبو غروسّو ـ الضربة الكبيرة) مثال من تلك البرامج التي هي في شكل مسابقات والعاب حيث يتنافس فيها رجل وامراة للاجابة عن بعض المسابقات وبعد كلّ سؤال يقوم الخاسر بنزع قطعة من ثيابه… ستريبتيز، ما تمشيوش لبعيد .. ينتهي خلع الملابس وقت نوصلو لهاكي الاشياء …
روما ايضا هي عاصمة الاناقة في اللباس .. تقف امام واجهة متجر لبيع الملابس للرجال وللنساء ..تقف ساعات مشدوها بجمالها وفيانتها ومصدوما باسعارها … وتكتفي بالعشق ..نعم وقفت مرة امام متجر واعجبت بكوستيم (بدلة) ايّما اعجاب ..وغادرت ..وأعدت زيارة نفس المتجر مرات ومرات ولم اشتر البدلة ..الذي يعرفني يعرف اني من النوع الترتاق الفلاق في الفلوس ..ولكن كان كلّ همّي ان اخصص مدخراتي المالية لعائلتي ..وفي الاخير اشتريت ما شاء الله من ادباش وهدايا لعائلتي واكتفيت بقميص لي .. فقط فقط فقط …
وعدنا الى تونس بعد انقضاء فترة التدرب التكويني .. وان انسى فانني لن انسى ما حدث لي عند وصولي الى مقرّ سكناي بصفاقس ..ولدي انذاك كان عمره سنة ونصف ..نظر اليّ نظرة باهتة لا روح فيها ..ثمّ وبعد ثوان ارتمى بين احضاني دون ايّة اشارة من ايّ طرف من العائلة ..سعادة مثل هذه المواقف تدّخر منها فرحا طفوليا من الابن ومن والده ما يكفي لسنوات من الازمنة العجاف …نعم من مثل هذه الاحداث يستمد الواحد منّا طاقة لا تفنى في مواجهته لمصاعب ومصائب الزمن .. يكفي ان يتذكّر طفلا له يرتمي في احضان ابيه بتلك السعادة والفرح حتى يقول (وان تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها)…
سنة 1988 عشت فيها اذاعيا محطات لا يمكن ان انساها ..اوّلها التفكير ثم الانجاز لمشروع اسميته انذاك في احد برامجي (من اجل عيون الطفولة) ..والذي اردته تفكيرا منّي وانجازا من المستمعين في شكل بعث مكتبات خاصة بالاطفال المقيمين بالمستشفيات الجامعية… لنخفّف من احزانهم ووحشتهم ولنعوّدهم على مقولة (الكتاب خير جليس وخير انيس) ..قمت بدعوة المستعمين للقيام بحملة تجميع الف كتاب او مجلة لكلّ مكتبة وكان التآلف عجيبا مع هؤلاء المستمعين… ولم تمض 3 اشهر حتى ارسينا اوّل مكتبة بقسم الاطفال بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس ..وتواصل المشروع مع مستشفيات اخرى ..
كنت وما زلت مؤمنا بانّ التونسي عندما تكلّم فيه لغة العقل والقلب يستجيب ..وهذا عامل من عوامل تفاؤلي الدائم بتونس والتونسيين ..اعرف انّ تونس دخلت مرحلة سوداء في العلاقات المجتمعية والعائلية منذ 2011 ..ولكن ثقتي لا حدود لها في انّ معدن الانسان الاصيل مهما مرّغوا انفه في مخططاتهم (ونجحوا ايما نجاح في ذلك ) لا بدّ ان يعود الدرّ الى صدفته .. فالذهب قد يعلوه الغبار ولكن ابدا ان يصدأ …في نفس السنة فكّرت ادارة اذاعة صفاقس في تخصيص مساحة اسبوعية للشباب حيث ينتقل فريق اذاعي الى مناطق عديدة من الجنوب التونسي لربط مباشر مع الاستوديو الذي كنت اشرف عليها تنشيطا… هدف البرنامج اعطاء الفرص وعلى امتداد 3 ساعات للشباب ليعبروا عن مشاغلهم بكلّ حرية وبعيدا عن ايّة رقابة ..ايّة رقابة … وهذه التجربة كانت منطلقا لبعث اذاعة الشباب في اذاعة صفاقس سنة 88 وساعود للحديث عنها ..
في اكتوبر سنة 88 قامت الاذاعة التونسية بتجربة جديدة في البث الاذاعي اسمتها (فجر حتى مطلع الفجر)… وكما يدلّ العنوان هو برنامج مباشر ينطلق في منتصف الليل ويتواصل حتى الخامسة صباحا… وهو برنامج يومي ويُبث بشكل مشترك بين الاذاعة الوطنية واذاعة صفاقس واذاعة المنستير ..ينشطّه من الاذاعة الوطنية مجموعة من الزملاء ونصيبهم في ذلك 5 ايام في الاسبوع… بينما بقيّة فتات الاسبوع تتقاسمه اذاعة صفاقس واذاعة المنستير حصّة واحدة في الاسبوع …وشكرا على هذه الصدقة ..والله لا يضيع اجر المحسنين ..
كنت انا من عُينت لتنشيط تلك الحصة اسبوعيا ممثلا لاذاعة صفاقس … وللامانة كانت مناسبة متميّزة لمستمعي الاذاعة الوطنية ونظرا إلى انّ بثّ اذاعتنا لا يصل لبعض مناطق البلاد حتى يكتشفوا اصواتا اخرى والوانا اخرى واجواء اخرى… وهنا اتقدّم بالرحمة على روح الزميل الحبيب اللمسي الذي كان رابطنا الهاتفي مع المستمعين المتدخلين في ذلك البرنامج من غرفة الهاتف للاذاعة الوطنية… وسي الحبيب كان ممن يسمونه حاليا (فان) لعبدالكريم…
في اكتوبر 88 حدثان هامان عشتهما في مسيرتي الاذاعية… اولها الاعتراف بديبلومي الذي نلته من المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس سنة 1979 .. اي نعم بعد 9 سنوات من الاهمال والظلم… والفضل في هذا يعود للمرحوم صلاح معاوية الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة ….علم بالاشكال الحاصل بيني وبين الادارات والمسؤولين الذين سبقوه، فدعاني لمكتبه ودعا مدير التلفزة انذاك الزميل مختار الرصاع والكاتب العام للمؤسسة، وطلب منهما وفي اقرب وقت رفع المظلمة التي تعرضت لها ..وفعلا وفي ظرف اسبوع قام بانهاء تلك الوضعية التي طالت وبكلّ جور ..
الحدث الثاني وقع بعد زيارة المرحوم معاوية لاذاعة صفاقس للاطلاع على حاضرها وآفاق تطويرها … يومها التقيته في كواليس الاذاعة وكان صحبة زميلي رشيد الفازع الذي انتمى في بداية السبعينات الى نفس دفعتي عندما قامت بتكويننا لتدعيم التلفزة التونسية باطارات جديدة كلّ في اختصاصه ..رحّب بي المرحوم صلاح الدين معاويو وهمس لي: ايّا اش قولك تشدلي انتي اذاعة الشباب ؟؟ ..واذاعة الشباب هذه انطلقت في اذاعة صفاقس منذ 1988 وهي عبارة عن فترة زمنية بساعتين من السابعة الى التاسعة مساء… فوجئت صدقا بالمقترح ..وعرفت في ما بعد انّ المرحوم صلاح الدين معاوي كان ومنذ بداية الثمانينات متابعا لاخباري بحلوها ومرّها في اذاعة صفاقس ..
اعيد القول اني فوجئت بالمقترح ..بل لم يستهوني ..وهاكم الاسباب ..انا منذ دخولي لمصدح اذاعة صفاقس كان لي مخطط لمستقبلي المهني ..هذا كان مخطّطي: 10 سنوات اذاعة …10 سنوات تلفزة … وبقية العمر ان طال العمر للسينما …. و(اللي يحسب وحدو يفضلّو) لان الانسان في كلّ حالاته ..في طفولته .. في شبابه .. في كهولته .. في شيخوخته ..وفي كلّ قرارات حياته منذ الولادة الى المغادرة لا تخطيط له ..نعم هنالك “اجندا الهية” نخضع اليها جميعا .. قد تاخذنا نرجسيتنا وثويريتنا لنقول: سافعل .. سافعل .. سافعل ..ولكن وعند الوصول الى سنّ الحكمة سنكتشف اننا جميعا خاضعون للاجندا الالهية … انا كنت وسابقى دائما من المؤمنين بالارادة والطموح والفعل …وهذا لا يتنافى مع ما قلته بل هو متناسق مع (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ..
اعود للعرض المقترح من السيد صلاح الدين معاوي وكان ردّي الفوري: تي انا نخمم نوقّف العمل متاعي في الاذاعة لانتقل للعمل كمخرج في التلفزة وانت تقللي اذاعة الشباب ؟؟ وفعلا انا منذ سنة 88 قررت التحضير لمغادرة المصدح ولكن على مراحل اوّلها ردم كوكتيل من البريد الى الاثير واعلان وفاته .. بالمناسبة، عندما سمع المرحوم صالح جغام بنيّتي في ايقاف الكوكتيل (قطّع شعرو) كما تعرفونه رحمه الله عندما يغضب ..طلبني هاتفيا وقال لي: يا خويا عبدالكريم يخخي هبلت توقف الكوكتيل ؟؟ برنامجك ضارب ودائما الاول في الاستفتاءات السنوية .. اش قام عليك ؟؟ ضحكت وقلت له يا صالح ستعرف يوما الاسباب وبعدها نحكيو…
انذاك فكرت في ايقاف الكوكتيل وفعلت ..الكوكتيل اصبح في اذهان المستمعين اسطورة ..وانا من موقعي الفكري كنت دوما ضدّ الاساطير … اذن عليّ ان اكون متناسقا مع نفسي واوقف الاسطورة ..نعم ربما بقساوة على نفسي وعلى المستمعين اوقفت الكوكتيل ..وتلك هي المرحلة الاولى ..وفي المرحلة الثانية التجات للتعويض .. عوضته في مرحلة اولى ببرنامج مساء السبت ثم باصدقاء الليل …واختيار هذه المواقيت كان مقصودا ايضا ..كنت محسودا على فترة الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار وكان بعض الحساد ينسبون نجاحي الى تلك الفترة الزمنية من اليوم ..لذلك ومع كوكتيل الاصيل ومع البرامج التي ذكرتها كنت اريد ان ابرهن انّ نجاح ايّ برنامج ليس مأتاه فترته الزمنية… بل اقول اكثر من ذلك، المنشط هو الذي يخلق الفترة الزمنية وليست الفترة الزمنية هي التي تخلق نجاح المنشط ..وحتى عندما اوقفت الكوكتيل وعوضته بمساء السبت كان في نيتي وبكل حزم ان انهي علاقتي بالمصدح سنة 1990 لانتقل الى مخططي وادخل في الحقبة الثانية وبدءا من 1990 في عشرية العمل التلفزي …
سمعني السيد صلاح الدين معاوي بانتباه وبتركيز شديدين وانا اعلمه بنية مغادرتي العمل الاذاعي سنة 90… وقال لي (ما اختلفناش… شدّلي اذاعة الشباب توة، وعام 90 يعمل ربّي .. هذا طلب اعتبرو من صديق موش من رئيس مدير عام) ..ابتسمت وقلت له طلبك عزيز وعلى العين والراس لكن بشرط ….في بالي فيه البركة مع الورقة 85 .. وطبعا ندّلل عليكم لاترك ماهيّة شرطي الذي وضعته، للورقة المقبلة …
ـ يتبع ـ
جور نار
رغم عيوبه السبعة… الأمريكان يعيدون دونالد ترامب، ولا يستعيدون “معجزة” 2008!
نشرت
قبل 3 أيامفي
6 نوفمبر 2024عبد القادر المقري:
فوز دونالد ترامب بعهدة ثانية (غير متصلة) في سدة البيت الأبيض يحمل معه عددا لامتناهيا من الدلالات… خاصة إذا عرفنا أن منصب الرئيس الأمريكي هو عبارة عن “واجهة” لتوازن قوى وإرادات ونوايا داخل الطبقة النافذة وأجهزتها، بأكبر قوة على الأرض حاليا.
قد يبدو الأمر مستغربا خاصة من وجهة بلدان كمنطقتنا حيث تتجمع كل السلطات في يد شخص واحد تسبغ عليه أجلّ الأوصاف البشرية وفوق البشرية وحتى الإلهية… وهذا طبيعي بحكم الموروث الذي تراكم لدينا على مر آلاف السنوات، وتمركزت فيه السلطة بشكل مبالغ فيه لدى أفراد حملوا مختلف الألقاب التي توحي بالعظمة والقهر والسلطان المطلق، وبات ذلك مقبولا وبديهيا لدى العامة مهما كانت قشور بعض الدمقرطة هنا وهناك… وحتى في العشرية الماضية التي يسوّق أصحابها أنها كانت قوسين ديمقراطيين وسط عصور من الاستبداد، فلقد تصرف “الديمقراطيون” بشكل لا يختلف عمن سبق وعمن لحق… ويكفي هنا التذكير بذلك “الاعتصام” الذي دفعوا إليه بأنصارهم سنة 2012 أمام مبنى التلفزة التونسية، وطالبوا خلاله بعودة الإعلام الوطني إلى تمجيد “إنجازات” الحاكم، بدل عملنا الإخباري المحايد الذي حاولنا الشروع فيه بعد جانفي 2011…
إذن أسفرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن عودة دونالد ترامب إلى الحكم مجددا كإحدى النوادر في تاريخ تلك البلاد… إذ تذكر المصادر أنه وحده رئيس قديم يدعى “كليفلاند” حكم في بداية القرن 19 فترة أولى، ثم خسر معركة التجديد، وعاد بعد ذلك إلى البيت الأبيض … أما الـ 55 رئيسا الباقون فكانوا إما يجددون وهم في مكانهم، أو يخرجون خروجا لا رجعة بعده… وهذا قد يعكس قوة شكيمة لدى شخصية ترامب المضارب العقاري الذي لا ييأس وفي جعبته صبر التجار وعنادهم الأزلي… ويترجم هذا الرجوع خاصة رغبة الـ “إستابليشمنت” الأمريكي في حسم بعض الملفات التي بقيت مفتوحة، بل مبعثرة الأوراق، في عهد العجوز المريض جو بايدن…
من هذه الملفات أو في صدارتها الحرب في أوكرانيا… هي كما وصفها عديدون حرب أوروبية أوروبية، وقد اندفعت في خوضها (بالوكالة) إدارة بايدن أولا لتأكيد زعامة الولايات المتحدة على الحلف الأطلسي… وثانيا ربما لانتماء الرئيس المتخلي إلى جيل ولد ونشأ وكبر ومارس السياسة والأعمال زمن الحرب الباردة، وخلّف ذلك لديه نفورا من السوفيات والروس وكل ما له صلة بهم… فضلا عن سبب ثالث يتم التطرق إليه بين الفينة والأخرى وهو أنشطة ابنه “هونتر” التجارية ومصالحه بأوكرانيا، فيما يتهم الروس بايدن الإبن بامتلاك مختبرات في كييف لإنتاج أسلحة كيميائية… وعلى العموم، فقد كلفت هذه الحرب الخزينة الأمريكية ما يزيد عن 174 مليار دولار على الأقل، من المساعدات العسكرية والاقتصادية … حسب آخر تصويت من الكونغرس (الذي كان يسيطر عليه الديمقراطيون) في شهر أفريل الماضي…
وفي هذا الباب، يقف دونالد ترامب على النقيض من بايدن… فمعروف عنه موقفه غير العدائي من روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين خاصة… بل يمكن وصف علاقة الطرفين بنوع من التفاهم إن لم يكن بالصداقة… كما أن ترامب ينتهج بعضا من نظرية “مونرو” الانكفائية خصوصا في ما يتعلق بعدم الالتزام بقضايا لا تهم المصلحة الأمريكية المباشرة… فكما قلنا، الصراع الأوكراني هو شأن أوروبي، ومكانة هذه القارة (سيما بعد أن أصبحت اتحادا) في سياسة ترامب لا تعدو كونها منطقة منافسة أكثر منها حليفا تندفع الولايات المتحدة للذود عنه والإنفاق عليه…. وهذا ما يفسر تخوف العواصم الأوروبية من مآل السباق نحو البيت الأبيض، وهي عارفة ما ينتظرها في صورة رجوع ترامب بعد أن جربته في العهدة الأولى…
وتبعا لهذا، من المنتظر رؤية عديد الالتزامات الأمريكية الخارجية تتقلص إن لم نقل تتلاشى بصفة شبه كلية… لا ننسى أن ترامب انسحب من تعهدات دولية عديدة كالتي حول المناخ مثلا، وأهم منها تهديده المستمر بالانسحاب من الحلف الأطلسي ولو جزئيا… ويستتبع ذلك كما أسلفنا انحسار “السخاء” الأمريكي في مساعدة دول هذا الحلف عسكريا وحتى اقتصاديا… دول هذا الحلف ومن ترضى عنه هذه الدول أيضا… ولعل أول من استبق هذا الانحسار، كان إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الذي سارع إلى ترميم علاقاته بدولة كالمغرب… وقد تتبع ذلك خطوات مماثلة مع دول عربية وإفريقية تجمعها علاقات “تاريخية” بفرنسا والمتروبول الأوروبي عامة (في سياسات الهجرة والتأشيرات ربما)… وقد تمثل هذه الفضاءات وأسواقها بديلا، إلى حد ما، عن الدعم الأمريكي لاقتصاد القارة العجوز… عكس ما يتوقعه اليمين الأوروبي المتطرف من قمع متزايد للهجرة، اقتداء بسياسات ترامب في بلاده من هذه الناحية…
فلسطينيا… وإن كانت سياسة واشنطن المنحازة كليا للكيان الإسرائيلي لا تختلف بين شتى الجالسين في المكتب البيضاوي، إلا أن تفاصيل صغيرة قد تتغير مع إمساك ترامب بمقاليد إدارة الصراع… وهنا يتوجب الانتباه إلى الدور الإيراني في مجريات الأحداث الأخيرة الناجمة عن هجوم 7 أكتوبر 2023 وما تلاه من عدوان إسرائيلي ماحق على غزة والحنوب اللبناني… وسواء كان الطرف الثاني في مواجهة الاحتلال منظمة حماس أو تنظيم “حزب الله”، فإن هذه الفصائل تمثل باعتراف إيران نفسها، أذرع طهران في المنطقة إضافة إلى مثيلاتها في سوريا والعراق واليمن البعيد…
وإذا كانت المواجهة في عهد بايدن ظلت تكتفي بمحاربة الأذرع العربية دون المساس بالجوهر الإيراني، فإنها مع ترامب قد تغيّر مسارها ومرماها تماما… ترامب له حساب قديم مع طهران وبرنامجها النووي وليس في وارده “ملاطفة” إيران كما فعل بايدن، كما أنه قد يركز على ضرب إيران مباشرة وتهدئة الجبهة مع أذرعها… مما قد يفضي إلى تشجيع تغيير في حكومة الكيان (وقد بدأت التصدعات بعد في فريق نتنياهو) يقضي بوقف ولو تدريجي لإطلاق النار في قطاع غزة وجنوب لبنان…
يقيت نقطة أخيرة في ما يخص “كامالا هاريس” المرشحة سيئة الحظ… لقد أثبتت هذه المرأة رغم هزيمتها، شجاعة وديناميكية منقطعتي النظير… امتطت قطار الانتخابات وهو سائر لتعويض “جو بايدن” بُعيد انسحابه المفاجئ في 21 جويلية الماضي… فيما كانت الحملة الانتخابية في أوجها على مسافة 100 يوم فقط من يوم الاقتراع، وفيما كان منافسها ترامب جاهزا منذ أشهر وحملته ماضية على أشدها… فكان عليها أولا الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي ولم يكن ذلك بديهيا، ثم خوض حملة طاحنة في فترة قصيرة، ثم خاصة الرد على مثالب الخصم الشرس حول رئيسها وفترة حكمه، ثم حولها شخصيا وحول مقدار كفاءتها لاعتلاء منصب الرئيس…
ولئن تجاوزت الولايات المتحدة إرثها المثقل بالميز العنصري عند انتخاب أوباما كأول رئيس أسود ومن أصول غير بروتستانتية (ولا مسيحية حتى) سنة 2008، ولأسباب انكشف أنها جاءت وفق “كاستينغ” متلائم مع مرحلة تصعيد الإسلام السياسي لحكم البلاد العربية… فإنه لا يبدو أن ذلك سيتكرر بسهولة، خاصة أن هاريس تعترضها “عوائق” ما زالت ذات وزن في العقلية الأمريكية والغربية عامة… ورغم التطور الكبير في العقليات، إلا أنه يبدو أنه لم يحن الوقت بعد لرؤية امرأة على رأس بعض الديمقراطيات الكبرى… فقد فشلت “هيلاري كلينتون” سنة 2016 في سباق مماثل نحو الرئاسة الأمريكية، كما فشلت قبلها “سيغولين روايال” في فرنسا سنة 2007، وكلاهما بيضاوان أوروبيتان أصلا ومفصلا…
وهذا ما يضيف أسهما إلى شجاعة امرأة ذات أصول إفريقية وآسياوية، مثل كامالا هاريس…
عبد الكريم قطاطة:
الحديث عن ايطاليا البلد الذي احتوانا في تدرّبنا بالراي اونو حديث يحتاج الى مجلّدات .. اليوم ساحدثكم عن ايطاليا والمعمار والجمال ..
لا نختلف في انّ جمال المدن الايطالية له رونق خاص وهذا ما دفع بالبعض وهو يصف بعض هذا الجمال يردد مقولات من نوع: (اشاهد فينيسيا، اي “البندقية” المدينة العائمة، ثم اموت) VEDERE VENEZIA E MORIRE .. … رغم انّ تاريخ هذه المقولة يؤكّد انها قيلت عن مدينة نابولي وليس فينيزيا ..ولانّ الجنوب كان ومازال ضحية التحيّل والظلم، تحوّل المثل الى البندقية … اي نعم كل جنوب قدره الاحتقار ..وحتى ايطاليا نفسها الواقعة في جنوب اوروبا يعتبرها الاوروبيون الاخرون حثالة اوروبا… رغم انهم يدركون جيدا انّ الفنّ خُلق في ايطاليا ..والسباغيتي ايطالية او لا تكون… والمثلجات بفففففففففف دنيا اخرى .. خللي عاد من الكورة المحنونة .. نودّكم ولا نشهّيكم ..
نحكي على اوروبا .. اما كي نحكيو على العالم كُرويا بالنسبة لي تبقى البرازيل عنوان السحر وتجي بعدها تونس (متاع الجرو والقادري!! .. ايّا نبدّلو هالصحيّن) .. في زمن ما… القرن الخامس عشر… اصبحت ايطاليا زعيمة العالم ورائدته في الفنون والثقافة ..وهو ما يسمّى عصر النهضة ..طبعا النهضة متاعهم موش النهضة متاعنا …ما اقرب طز لشرّڨ …في ذلك الزمن وتحديدا في افريل 1507 وضع البابا يوليوس الثاني حجر الاساس لبناء معلم الفاتيكان… والذي هو وبعبارة موجزة يمثّل مكّة بالنسبة للمسيحيين، لانّه مركز القيادة الروحية للكنبسة الكاتوليكيّة… وككل المشاريع الضخمة في المعمار كان عرضة للعراقيل لانّ بناء معلم الفاتيكان نهائيا لم يتمّ الا في 14 ماي سنة 1590 …
وكيف نكون في روما ولا نزور الفاتيكان؟ … الفاتيكان اصبحت فيما بعد اصغر دولة في العالم 0 فاصل 49 كيلومتر مربع مساحة… وسكانا لا يتجاوز تعداده 850 فردا ..هذه المعلومات اسوقها فقط للتذكير بها لكن ما هالني وانا ألج إلى كاتدرائية “الفاتيكان”سيكستين” هذا المعمار الضخم والرهيب …كنت اتساءل كيف للانسان في ذلك الزمن (القرن 15) ان يشيّد مثل ذلك المعلم وبذلك الحجم ..اعمدة رهيبة طولا وسُمكا .. كيف صنعوها ؟؟ كيف رفعوها وهي طولا بحجم عشرات الامتار وسُمكا بقطر دائري ضخم؟؟ .. بكلّ امانة لم ار في حياتي لا الواقعية ولا الافتراضية معلما بتلك العظمة… وهو مُحلّى بابهى الزخارف والفسيفساء اتسمعني ليونارد ديفنشي ؟؟ وبتماثيل عملاقة … قلت في بداية توصيفي له هذا المعلم الرهيب ..اي نعم ..رهبته تتمثّل في انّ كلّ من لا يحمل في قلبه ايمانا عميقا بالاسلام، قادر هناك في لحظات وجيزة ان يعتنق العقيدة المسيحية !…
معلم آخر وهو في قلب العاصمة روما لا يمكن لكلّ زائر للمدينة الخالدة ان لا يذهب اليه .. انها نافورة تريفي (لافونتانا دي تريفي) ..النافورة تُعدّ من اجمل نافورات العالم وهي من مواليد القرن السابع عشر واستغرق بناؤها 30 سنة… و منذ ولادتها ولحدّ الان ظلت محلّ رعاية واصلاح وتطوير (كيف المعالم التونسية اللي عندنا بالضبط قريب يطيحو على روسنا … وهي المصنفة في خانة “دار الخلاء تبيع اللفت”)… الشيء الخاص بنافورة تريفي انّها تختزن اسطورة منذ القدم ..فالسائح عند الوقوف امامها عليه ان يرمي بقطعة نقدية في فسقيّتها… حسب المعتقدات الايطالية، فإن القاء تلك القطعة النقديّة يحقّق لصاحبها كلّ ما يتمنّى وحتما سيعود لزيارة روما ..انا كنت طبعا من الذين القوا بالقطعة النقدية .. فقط لاخذ صور تذكارية … ولانّ نيتي كانت مخوّزة .. لم تتحقق برشة امنيات ومللي دفنوه ما زاروه …
الايطالي في حياته انسان (تعشقو عشق) يحبّ جدّا الحياة بكلّ ملذّاتها .. وفي نفس الوقت يؤمن بالعمل كقيمة حضاريّة ..الايطالي يمكن ان نفهمه من اغنية لـ”توتو كوتونيو” بعنوان (دعوني اغنّ)… لاشاتا مي كانتاري… لانه حتى وهو يتحدّث ويداه في حركات سمفونية رائعة، يغنّي .. حتى وهو يمشي (وهنا الاصحّ حتى وهي تمشي) هي تغنّي وترقص …الباعة الذين ينتصبون كلّ ايام الاسبوع في اماكن مخصصة لهم يعرضون بضاعتهم على الآخرين وهم يغنّون .. ربما هم من فهموا (المغنى حياة الروح … يسمعها العليل تشفيه ..وتداوي كبد مجروح ..تحتار الاطباء فيه ..وتخلّي ظلام الليل .. بعيون الاحبّة ضيّ .. شوي شوي شوي شوي غنيلي وخذ عينيّ) .. اصبحت لديّ شكوك في انّ الكبير محمود بيرم التونسي صاحب كلمات هذه الاغنية عمل حرقة في زمانو لايطاليا واستلهم من روح شعبها الفنان في كلّ شيء ..اغنية الستّ غنيلي شويّ شويّ …
وهنا يتوقف قلمي عن مواصلة الكتابة ..معناها بعد رائعة بيرم كلمة، وزكرياء احمد تلحينا، والستّ غناء نواصل انا في لغوي؟؟ عيب يا عبدالكريم عيب …
ـ يتبع ـ
استطلاع
صن نار
- جلـ ... منارقبل 7 ساعات
ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!
- اجتماعياقبل يومين
الديوانة التونسية… عرض لعملياتها النوعية الأخيرة
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم … الورقة 85
- اقتصادياقبل 3 أيام
يوم الابتكار الصناعي بين تونس وألمانيا
- اجتماعياقبل 3 أيام
إحداث مكتب بريد ببرج السدرية/الرياض
- جور نارقبل 3 أيام
رغم عيوبه السبعة… الأمريكان يعيدون دونالد ترامب، ولا يستعيدون “معجزة” 2008!
- صن نارقبل 3 أيام
انتخابات أمريكية: تزامنا مع فوز ترامب… الجمهوريون يسيطرون على الكونغرس
- صن نارقبل 3 أيام
الاحتلال يلقي أكثر من 85 ألف طن من القنابل على قطاع غزة