جور نار

أبناء التونسيين، كلهم أوائل في أقسامهم !

نشرت

في

كنتُ أحاول جاهدا إقناع تلامذتي بأن مستواهم الحقيقي لا تعكسه بالضرورة مرآة الأعداد، إذ يكفي أن تتغيّر صيغة التمرين أو ينتقل التلميذ من قسم إلى آخر أو كذلك أن تُصحّح ورقة الامتحان من قِبل شخص آخر حتى تتغيّر العلامات بشكل ملحوظ ارتفاعا أو نزولا… وذلك من خلال القصّة التالية :

<strong>منصف الخميري<strong>

أسألهم جادّا : “لو أطلب منكم أن تُسندوا عددا لأدائي المهني معكم، فبأيّ عدد ستمنّون عليّ ؟ أؤكّد لكم أن العدد سيتراوح بين 3 من عشرين بالنسبة إلى البعض و17 من عشرين بالنسبة إلى البعض الآخر. فمن نصدّق يا تُرى ؟ هل أن مستواي يُساوي 3 أم 17 من عشرين أو المعدل الحسابي بينهما أي 10 من عشرين ؟ الواقع أن مستوى أدائي يستحق علامة أخرى مختلفة تماما لا يعرفها أحد سواي بالنظر خاصة إلى ما أنا قادر على صُنعه بمؤهلاتي الذاتية التي يصعب قيْسها بالمساطر التقليدية.

والتاريخ يزدحم بعديد الشخصيات التي بلغت مراتب عليا في الشّهرة والنجاح رغم فشلها المدرسي مثل تشرشل وإنشتاين وإيديسون وغوتييه… والإعلامي والمنشط والمنتج ومقدم البرامج التلفزيونية ذائع الصيت ميشال دروكير غير الحاصل على شهادة الباكالوريا، لأنه قرر في سن السابعة عشرة من عمره مغادرة المنزل العائلي وانطلق في البحث عن سبل أخرى للنجاح. يقول “إن مكمن قوّتي الوحيد كان العمل الدؤوب والشّاق وإلى حدود سنّ الخمسين لم أفكر بشيء آخر غير العمل. كنت أشتغل بمعدل 15 ساعة يوميا ولم أتمتع بأية عطلة مدّة عشرين عاما”. وهو قال أيضا: “إن الأشخاص الذين يعانون من إعاقة مّا لا يُحبّون مشاهدة أنفسهم، ربما لأن المرآة (الأعداد المدرسية في سياقنا هذا) لم تعد تعكس صورتهم الحقيقية، كمُجتهدين معطائين وجسُورين وحالمين باهرين”.

هستيريا المعدّلات وحرب المراتب الأولى.

في نهاية كل ثلاثي ونهاية كل سنة دراسية تستعر هستيريا الامتحانات والمعدلات والرّتب، وهذا أمر جيّد في حدّ ذاته لأنه يعكس ولعًا تونسيا خالصا بالمدرسة وإيمانا بمكانتها ودورها الحاسم في تملّك مفاتيح سعادة الأفراد ونموّ المجتمعات.  

المثير للاستغراب في هذه الظاهرة هو أن الأب أو الأم لا يبحثان عند تسلّم بطاقة الأعداد عن حقيقة مستوى منظوريهم الذي لا يتجلّى دائما من خلال الرتبة أو الانطباع العام في علاقة بالمعدل، أو البحث عن ملاحظة فطِنة وغير كسولة تساعد على تمثّل طبيعة الصعوبات التي تعترض منظورهم وبالتالي البحث عن سُبُل للتدارك… وإنما يبحثان عن رتبة وعن موقع وعن درجة في سلّم النياشين مهما كان المستوى العام للقسم ضعيفا ومهما كان التضخم في الأعداد مغشوشا وتنعدم فيه الموضوعية والمسؤولية.

المثير للدهشة كذلك أنك كلما سألت التونسيين عن رتب أبنائهم (وأحيانا دون أن تسأل) يكون الجواب حتما “الأول أو الأولى” وفي أسوإ الحالات يقولون لك : المرتبة الأولى يتصارع عليها مع ابن أو ابنة فلان (والذي عادة ما يكون مديرا أو معلما أو مسؤولا في أجهزة الدولة…). ولا تشذّ هذه العقلية كثيرا عمّا تسمّيه الباحثة الفرنسية بياتريس هيبو بـ “الأوّلانية التونسية” le primisme tunisien على معنى التغنّي دائما بالاستثناء التونسي والذي نُصنّف بموجبه دائما الأوائل في سنّ أول دستور وضعي وأول مجلة للأحوال الشخصية وأول بلد ألغى العبودية وأول امرأة تقود طائرة وأول طبيبة امرأة الخ…

أغلب الذين أعرفهم ممّن لهم أبناء متمدرسون لا يرضون بأقل من الرتبة الأولى لمنظوريهم في أروقة السباق المدرسي ! وإذا كان الأمر كذلك، فأينهم كل أولئك المتحصلين على المراتب العاشرة والعشرين والرتبة الخامسة والأربعين ؟ هؤلاء الذين كان يقول عنهم والدي “لو لم يستوقفه الجدار الخلفي للقسم لكان ترتيبه أربعون أو أكثر”.

العقدة في رأيي ليست كامنة لدى الأطفال بقدر ما هي معششة في عقلية آبائهم وأمهاتهم وحتى لدى الكثير من المربّين.

هؤلاء عاجزون بصفة عامة عن انتزاع الرتبة الشرفيّة الأولى في أدائهم المهني وعموم نشاطاتهم وحياتهم، فيلجؤون من حيث لا يشعرون الى ركوب ظهور أبنائهم علّهم يؤثثون الفراغ ويستصدرون قيمة مفقودة، خاصة في مناخ تنتعش فيه الألقاب الزائفة والعناوين المزورة والصفات المرموقة المُسندة ذاتيّا.

العقلية السائدة يغمرها الكثير من التطرف والحدية والثنائيات الانشطارية، فالناس لدى عامة الناس خيرون وأشرار، نزهاء وخبثاء، أمناء وخونة، وفي المدرسة نجباء وأغبياء، أذكياء وحمير، ونستلذّ عندما لا نتردد أثناء الدرس في وصف هذا بالنبوغ تبارك الله عليه وذاك بالمحدودية وعد الله عليه.

التلميذ المتعارف عليه بكونه ذكيّا ليس في رأيي أكثر من ذلك الذي حفظ درسه عن ظهر قلب وأرجع لأستاذه أو معلمه نفس البضاعة التي قُدّمت له (أي القدرة على الخضوع كما يقول سيريلنوك) أو من ورث عن عائلته “رأس مال ثقافيا ذا قيمة مُضافة مدرسيّا “. والتلميذ المحدود هو ذلك الذي لم تتوافق نوعية ذكائه مع آليات نظام التعلّم والتقييم القائم، وبالنتيجة فإن المدرسة لا تؤوي اليوم أذكياء وأغبياء بل أطفالا ذوي ذكاءات مختلفة وأنساق تعلم متباينة وتمشيات متنوعة في التعامل مع مناهج التدريس وضوابطها. والطفل الذي نصفه بالعبقرية والذكاء سينطلي عليه الادّعاء وتتضخّم ثقته بقدراته (المحدودة بالضرورة) وتتورّم “الأنا” فيه. أما الطفل الذي نصفه بالغباء والتخلف سينطلي عليه الادّعاء هو الآخر وسينفض يده من “جميع التزاماته” ويجعل من محدودية مستواه المؤشّر عليها رسميا (بملاحظات وأختام رسمية ذات سيادة) وضعف مردوده، شمّاعة يُعلّق عليها دونيّة نتائجه وفشله فيما بعد.

وأقول ختاما، هل بِوِسْع حرف “الألف” باعتباره أول حروف الهجاء، الادّعاء مثلا بكونه أفضل الحروف وأكثرها خدمة لجهاز اللغة : هذه الأم العطوف على كل حروفها دون تمييز ؟ لأنه مثلما قيل في الألف :

أنت أمني وأماني، ومأمني وأمنيتي، وأسراري وأنغامي، وأقرابي وأحلامي،

فقد قيل أيضا في آخر حروف الهجاء (الياء) أنت يومي، ويميني ويُمنِي، و يوسفي، ويقيني ويقظتي، ويَمِّي و ياقوتتي، ويمامة قلبي.

ثمّ،ألم يحن الوقت بعد لاعتماد بيداغوجيا التملّك والاتقان  la maîtrise  بدلا من بيداغوجيا الصّندقة والترتيب، لأن وجود الأوائل في كل قسم ليس سوى الجزء البارز من جبل الجليد ؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version