د. أحمد خالد توفيق
إننا نحمل في خلايانا الدروس التي تلقيناها في طفولتنا، ولا نستطيع منها فكاكا. نحن سجناء بيئتنا وطريقة تربيتنا الأولى. والقصة التي سأحكيها الان هي تجربة حقيقية مرت بكاتب المقال الأمريكي في طفولته..
كان المؤلف في السابعة من عمره وكان يهيم غراما بمتجر المستر جونز الموجود على قارعة الطريق.. السبب طبعا هو أنه متجر لبيع الحلوى.. هناك عبر النافذة المطلة على الشارع كان يقف ليرمق العالم السحري بالداخل، قطع الجاتوه المغلفة بالشيكولاته والكريم وقد غرست فيها أعلام صغيرة أو أعواد ثبتت عليها الفواكه المسكّرة. التفاح المكسوّ بالسكّر.. تماثيل مختلفة من الشيكولاته، وقلعة شيدت منها تقف فوق جبل من الكريمة. عشرات الأنواع من حلوى النعناع التي تذوب في الفم تاركة نارا لها نشوة..
لم يكن يملك قط المال اللازم لشراء ما يريد، فهو من أسرة فقيرة، وهو يعرف أن أسعار هذه الأنواع من الحلوى تفوق قدراته..
إلى أن جاء اليوم الذي ادخر فيه ما يكفي..
اقتحم المحل فدق الجرس الصغير المعلق بالباب يخبر مستر (جونز) أن هناك زبونا. خرج العجوز الطيب الذي يضع نظارات تنزلق علي قصبة أنفه، وتأمله وهو يجفف يده في منشفة، وسأله:
ـ “ماذا تريد أيها الرجل الصغير؟”
اتجه المؤلف الصغير إلى قطع الجاتوه وأشار لها بثقة:
ـ أريد خمس قطع من هذه..”
ابتسم العجوز ودس يده في قفازين وانتقى للفتى بعض القطع التي طلبها، وهو يتلقى التعليمات: “لا أريد التي عليها قشدة كثيرة.. لتكن الشيكولاته”
في النهاية أغلق العجوز علبة صغيرة ونظر للصبي متسائلا، فأشار إلى التماثيل المصنوعة من الشيكولاته:
ـ “أريد هذا القط وهذا الحصان.. أريد هذا القصر الصغير.. هل هذه عربة؟.. ضعها لي”
قال مستر (جونز) في شيء من الحذر:
ـ هل معك نقود تكفي هذا كله؟”
ـ “نعم.. نعم”
الآن انتقي بعض حلوى النعناع، وكان هناك الكثير من غزل البنات الذي مازال ساخنا فأنتقي منه كيسين، واختار بعض الكعك..
في النهاية صارت هناك علبة كبيرة معها كيس عملاق امتلأ بالأحلام، وسأله مستر جونز:
ـ “هل هذا كل شيء؟.. سأحسب..”
هنا مد المؤلف الصغير يده في جيبه وأخرج ما به.. أخرج قبضة من الكجّات الملونة التي يلعب بها الأطفال ووضعه بحذر في يد العجوز، وقال في براءة:
ـ “هل هذا كاف؟؟”
لا يذكر المؤلف التعبير الذي ارتسم علي وجه مستر (جونز).. ما يذكره هو أنه صمت قليلا، ثم قال بصوت مبحوح وهو يأخذ الكجّات:
ـ “بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية”
ثم دس بعض قطع العملة في قبضة الصبي، ومن دون كلمة حمل الصغير كنزه وغادر المتجر.. لقد نسي هذا الحادث تماما ومن الواضح أن أمه لم تكن فضولية، كما يبدو أنه لم يجرب ذلك مرة ثانية.. في ما بعد غادرت الأسرة المنطقة وانتقلت إلى نيويورك..
الآن صار كاتب المقال شابا في بداية العمر، وقد تزوج بفتاة رقيقة اتفق معها أن يكافحا ليشقا طريقهما.. كان كلاهما يعشق أسماك الزينة لذا اتفقا على افتتاح متجر لهذه الأسماك..
في اليوم الأول انتثرت الأحواض الجميلة في المكان، وقد ابتاعا بعض الأسماك غالية الثمن.. وكما هو متوقع لم يدخل المتجر أحد..
عند العصر فوجئا بطفل في الخامسة من عمره يقف خارج الواجهة وإلى جواره طفلة في الثامنة.
كانا يرمقان الأسماك في انبهار..
وفجأة انفتح الباب وتقدمت الطفلة وهي تتصرف كسيدة ناضجة تفهم العالم، أو كأنها أم الصبي.. وحيّت المؤلف هو وزوجته وقالت:
ـ “أخي الصغير معجب بالأسماك لذا أريد أن أختار له بعضها..”
قال لها إن هذا بوسعها بالتأكيد، لكنه شعر بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف. متى مر به من قبل؟.. لعله واهم؟..
اتجهت الفتاة إلى حوض أسماك المقاتل السيامي وهي باهظة الثمن رائعة الجمال، واختارت اثنتين فأحضر المؤلف دلوا صغيرا والشبكة وبدأ ينقل ما تريد.. ثم اتجهت إلي حوض أسماك استوائية نادرة واختارت ثلاث سمكات… وكانت تصغي لاختيارات أخيها الذي يهتم بالأسماك الكبيرة زاهية اللون طبعا..
في النهاية امتلأ الدلو ووجد نفسه يقول لها:
ـ “أرجو أن تعودي للبيت سريعا قبل أن ينفد ما في الماء من هواء، كما أرجو أن يكون ما معك من مال كافيا فهذه ثروة صغيرة”
قالت الطفلة في ثقة:
ـ “لا تقلق.. فقط ضع لي هذه وهذه”
بدأ يجمع ثمن ما وضعه في الدلو، وذكر الرقم المخيف للطفلة، لكنها لم تبد مدركة لمعنى الرقم أصلا.. مدت يديها ‘إلى جيبها وأخرجت قبضتيها مليئتين بحلوى النعناع وبعثرتها على المنضدة أمامه وسألته في براءة:
ـ “هل هذا كاف؟”
هنا شعر بالرجفة.. لقد تذكر كل شيء.. تذكر صبيا في السابعة يجمع كل ما في محل المستر (جونز) من حلوى منذ خمسة وعشرين عاما أو أكثر.. تذكر الكجّات.. ترى بم شعر المستر جونز وقتها؟..
لن تسأل كيف تصرف فقد تصرف فعلا.. رباه!.. ما أثقل الميراث الذي تركته لي يامستر جونز وما أقساه..!
كان مستر جونز قد وجد نفسه في موقف حساس، ولم يستطع أن يجازف ببراءة الصبي أو أن يشعره بالحرمان.. لم يتردد كثيرا.. وبالمثل لم يتردد المؤلف..
قال بصوت مبحوح للطفلة وهو يجمع حلوى النعناع ويضعها في الدرج:
ـ “بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية”
ودس في يدها الصغيرة بعض قطع العملة، فقالت في رضى:
ـ شكرا ياسيدي.. سأخبر كل صديقاتي عنك!”
وغادرت المحل مع أخيها.. هنا وثبت زوجته من حيث جلست تتابع هذا الموقف وصاحت في توحش:
ـ “هل تعرف ثمن السمك الذي أخذته هذه الطفلة؟.. إنه يقترب من خُمس رأس مالنا!”
قال لها وهو يرمق الصغيرين يهرعان تحت شمس الطريق:
ـ “أرجو أن تصمتي.. لقد كان هناك دين يثقل كاهلي علي مدى خمسة وعشرين عاما نحو عجوز يدعي مستر جونز، وقد سددته الآن!!”