“العالم يتغيّر بطبيعة الحال، ولكن واحدة من خاصيّاته ثابتة وغير متحوّلة: طالما هنالك بشرٌ، سيطمحون إلى شيء آخر. شيء آخر مختلف عمّا لديهم، شيء آخر مختلف عن حياة كل يوم، شيء آخر غير مجرّد الحياة. هم لا يعيشون (وكل واحد يُدرك ذلك ويعبّر عنه) إلاّ من أحلامهم وآمالهم. إنهم لا يتوقّفون عن الحلم” جان دورميسون.
حاولت اختزال السنة المنقضية في 4 لحظات كبرى (من زاوية شخصية جدا غير موضوعية بالمرة) تُلخّص على نحو ما بعض ما عشناه في 2021 الذي سيكون محدّدا في ما سنعيشه خلال السنة الجديدة التي اتمنّاها أكثر لطفا وأبهى رفقة وأقل شدّة وأكبر قدرة على خلع أبواب الأمل من كل سابقاتها عليكم جميعا.
لحظة وصول الفريق الوطني لكرة القدم إلى نهائي كأس العرب
ما يهمّني بصفة خاصة في هذا الحدث الرياضي هو كونه يشبه إلى حدّ كبير الوضع العام بالبلاد ويلخّصه.
فبالرغم من الهِنات العديدة وقوّة بعض الفرق المنافسة، وبالرغم من الوهن الذي كان عليه حارس الشّباك وروح التكتّلات البدائية بين اللاعبين… وصل رفاق حنّبعل إلى الدور النهائي ليس بتكتيكات رياضية فنية عالية أو بكفاءة مُدرّب قادر على تجاوز شتالي 1978 وإنما من خلال روح تونسية خالصة تجسّدت في قوة الأداء، رغم ضعف الامكانيات والقدرة على قتل اللحظات التي يهيج فيها الخصم ونوع من المَكر غير القابل للتشخيص … أي معرفة كيف يتغلبون دائما على ما يكبح انتصاراتهم.
كان تتويجا أعاد الأمل في إحراز كأس إفريقيا والمشاركة بوجه مشرف في كأس العالم. كما كان لاكتشاف اللاعب الشاب حنبعل وقْعًا خاصا على مزاج التونسيين ووجدانهم الذين رأوا فيه طموح شبابهم وغزارة عطاء أبنائهم في اللحظات الصعبة. لم يكن حنبعل بحاجة إلى بنية عضلية جبّارة لإحراز فرص ذهبية أهداها لفريقه… كان مثل عموم التونسيين بشكل ما متواضعا في حجمه وكبيرا في أدائه وبهيجا في طلعته.
اللحظة الثانية تمثّلت في إطلاق مسار 25 جويلية
كانت عشرية الأنفاس الحبيسة، حيث حبسنا أنفاسنا في أولى سنوات الثورة فكانت الاغتيالات التي حصدت أعزّ ما نملك ودخول ثقافة الإرهاب من القاعة الشرفية لمطار تونس قرطاج، ثم حبسنا أنفاسنا في 2014 فجاءت التوافقات المغشوشة ودخلت تونس منطقة “عيّنلي وزير ونعطيك 2 كتّاب دولة” و “ياخي ما عندناش بايْ في الولاّة ؟” و”تورّي نعرّي”…، ثم حبسنا أنفاسنا في 2019 فجاءت نتائج الانتخابات منسجمة تماما مع إرادة المانحين من موارد الدولة والواعدين بتوزيع عائدات البترول… أما في 25 جويلية حين كدنا نُسلّم بأنه لا مفرّ من رمي المنديل ولو مؤقتا في انتظار مرور عواصف “تدبير الراس” المعمّم… تنفسنا الصُّعداء وهبّ التونسيون فيما يشبه خروجهم أيام الثورة من أجل استرجاع أنفاسهم المنهوبة واستعادة الأمل في رؤية بعض الأحلام تتحقّق ومشاهدة تونس التي نعرف(الزاهية في ألوانها والمكتفية بذاتها) تعود إلينا ولو مُنهكة القوى ورثّة الأثواب.
بالنسبة إلى حوْكمة اللحظة والتساؤل عن مآلاتها، فأتمنى أن يتمّ تدارك الأخطاء قبل فوات الأوان.
اللحظة الثالثة أسمّيها خزائن تونس المُصفّحة !
عثرت خلال الأيام القليلة الماضية على تصريح لأحد خبراء التربية في منظمة اليونسكو ممّن يعرفون بلادنا جيدا مفاده أن للتونسيين 3 عناصر قوّة فريدة لا تتوفر لدى غيرهم من الشعوب وما عليهم إلا أن يُحسنوا توظيفها، وهي :
جودة حياة نادرة (ليونة المناخ والطباع المجتمعية المرنة والعناصر الطبيعية الخلابة والفضاءات العامة التي تتسع لكل الأذواق والعادات الاستهلاكية …)
المركزية الجغرافية لتونس centralité، لكونها قريبة جدا من جل البلدان الأخرى في أوروبا وإفريقيا والشرق العربي وليست بعيدة كثيرا عن آسيا وأمريكا.
المستوى العالي للكفاءات التونسية (في الهندسة والطب والتدريس والخدمات الصحية والسياحية وبعض الاختصاصات التقنية والصناعية و الفلاحية).
3 عناصر قوّة أساسية هي عبارة عن رافِعات قوية غير قابلة للتّلف مجرد التذكير بها يُعيد الأمل في إمكانية بل في حتمية الإقلاع يومًا، لأن الذي يملك كل هذا الزخم لا يمكن إلا أن يستجيب له القدر.
اللحظة الرابعة كانت نتائج الباكالوريا .
حوالي 80 ألف تلميذ أحرزوا شهادة الباكالوريا في جوان 2021 نِصفُهم على الأقل في مسالك علمية، التحق الآلاف منهم باختصاصات جامعية مشهود لها بالتميّز والقدرة على تأهيل متخرجين بملمح حديث يستجيب لانتظارات سوق شغل مفتوحة على مصراعيها وطنيا وإقليميا وعالميا، ولكنها تعجيزية في اشتراطاتها في نفس الوقت.
هذه المؤشرات الكمية التي صرّحت بشأنها وزيرة التعليم العالي آنذاك كونها “نتائج مُفاجئة وعدد غير متوقّع لم نتهيّأ لاستقباله” (تماما كما صرّح وزير للفلاحة ذات يوم أن الصّابة غير مسبوقة ولم نتهيّأ لتخزينها في ظروف طيبة)… أعتبرها شخصيا ثروة وطنية وجب التصرف فيها باقتدار كبير، لأنها ستفي بحاجيات اقتصادنا الوطني الذي سيتعافى يوما بكل تأكيد ولأنها ستكون أيضا “مادّة شخمة” (رحمه الله) نُباهي بها بين الأمم، وثروة طبيعية تدرّ على البلاد والعائلات مداخيل كم نحن في حاجة إليها.
بعد جيل العمال المهاجرين الذين ساهموا بعرق جبينهم الطاهر في تعبئة جزء من موارد الدولة وإنقاذ آلاف العائلات من العَوْز، يأتي اليوم دور جيل جديد من العقول المهاجرة لتأدية نفس الدور وأكثر.