جور نار

أسترا زينيكا

نشرت

في

عدد من القامات الواقفة و الجالسة، و الواقفة أكثر، كانت ملاصقة لسور دار الثقافة من الداخل … بضعة مقاعد منفردة أو مجمّعة، تهالك عليها بعض الشيوخ و العجائز، و هناك من جلب معه كرسيّا خفيفا قابلا للطيّ مما يحمله معهم المتقاعدون أو مرضى المفاصل … هذا هو تقريبا الديكور الخارجي لمركز من مراكز التلقيح المبثوثة على كامل الجمهورية، منذ بدأت الدولة حملتها الوقائية على كورونا …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و للصراحة، فقد كان الاعتقاد بداية أن هذه المراكز ستكون مثالا آخر لفوضانا المشهودة و اكتظاظنا الخانق الذي يحصل على أقل شيء … فما بالك بالمنجاة من هذا الوباء الذي يقتل منا العشرات كل يوم، و بالتهافت على تلاقيح يقال إن البعض يقاطعونها و الحال أنه إلى ذلك اليوم وصل عدد المسجلين إلى مليونين … رقم محترم و لأقل منه انسدّت عندنا في العادة طرقات و لفظت أنفاسها مكاتب بريد … لا، لم يكن هناك اكتظاظ و لا تدافع، بل صفّ منظّم يتقدم قليلا و لكنه يتقدم و يقترب من باب القاعة حسب أسماء المناداة …

عند الباب، هناك، بعض شبان و فتيات في زي أشبه بالكشافة أو الجوّالة أو حتى بفرق المصالح الأمنية المختصة، و على ظهر كل منهم كُتبت عبارة “متطوّع” … يمسكون قوائم ينادون منها على من يأتي دوره … و في أثناء ذلك يجيبون بأدب و بال واسع عن أسئلة الوافدين، و يفحصون وثائق مقدمة لهم و أرقاما، و يبحثون عن اسم هنا و لقب هناك، و ينظرون حتى في ميساج تليفوني يطلعهم عليه أحد الحاضرين … المواعيد بالساعة و نصف الساعة حتى … و ربما لهذا السبب قلّ الزحام و تراجعت الفوضى إلى أدنى مستوياتها، بل إلى الصفر في ذلك اليوم …

آه نسيت … اليوم كان أحدا، و قد كذّب بعض المدعوين أعينهم و هم يقرؤون التاريخ المخصص لتناول جرعاتهم، و لكن عندما سألوا قيل لهم إن المراكز فعلا تعمل كل نهار و دون راحة أسبوعية … طال الانتظار قليلا على الذين جاؤوا في موعدهم (الحادية عشرة و النصف)، و لكن تبيّن أن ذلك كان سببه تدارك بعض المتأخرين عن المواعيد السابقة … و قد أعلن الشاب المنادي أن الأولوية لأصحاب تلك المواعيد و إن تأخّروا… فهم آباؤنا المسنّون و أمهاتنا، و هل تجوز معاقبة أب أو أمّ و إن جاءا بعد فوات موعد !

يدلف إلى القاعة من يسمعون أسماءهم، فيشار إليهم بأن يجلسوا على أول كرسي شاغر … كانت تلك الكراسي مصففة ـ بتباعد ـ واحدا جنب واحد على مدار جدران الصالة الكبيرة … في أول الصفّ ـ أي أمامك ـ مقعد خلا لتوّه فيخصصونه لك، و لكن سرعان ما تنتقل إلى الذي يليه مع تقدم الحاضرين،فيأتي من خارج القاعة من يخلفك عليه و هكذا … أما سبب هذه الحركة المستمرة فيوجد هناك بعيدا في نهاية صف الكراسي، حيث باب يفضي إلى فناء داخلي لا تراه …و عندما تصل إليه، يتم توجيهك إلى قاعة أصغر بنفس النظام و توجد فيها طبيبة صحة عمومية مع بعض ممرضي التسجيل …

هي قاعة نقول إنها مخصصة لما يشبه العيادة … عندما يأتي دورك و تجلس قبالة الدكتورة، تسألك عن أمراضك المزمنة إن وُجدت، و عن الدواء الذي تأخذه، و هل مرضت سابقا بكورونا … تسجل تلك البيانات على حاسوبها الشخصي (أو تابليت) و تدوّن الممرضة بطاقتك و رقم تسجيلك و تسلمك وصلا يشابه الشريط الورقي الصغير … ثم يتم توجيهك إلى القاعة الأخيرة، قاعة التلقيح … تقصدها و في أذنك مناقشة ظريفة خاضتها امرأة لجوج بعض الشيء، قالت إنها لا تقبل لقاح “أسترا زينيكا” بل إما “فايزر” و إما لا تلقيح … أجابوها بهدوء و سجلوا اعتراضها حتام يصل إليهم اللقاح الأمريكي … فيما تمتم أحد الحاضرين بين أسنانه “فايزر؟ هذه كانت تداوي بالثوم و فقّوس حمير” !

نفس العملية تمّت بسلام في جناح التلاقيح … بعد تلقي الحقنة الوقائية، يطلبون منك البقاء في باحة المركز ربع ساعة تحسبا لأية مضاعفات فورية … كراسي متناثرة تحت خيمة بيضاء ظليلة من التي نراها عادة في أعراس هذا الزمن، و هدوء لا يقطعه سوى سلام من مغادر أنهى وقت الملاحظة ذاك … و قبل أن تخرج، يرن هاتفك رنة خفيفة: إنها إرسالية من منظومة “إيفاكس” … يؤكدون تلقيك الجرعة الأولى، و يخبرونك أنه سيتم إعلامك قريبا بموعد الجرعة الثانية … و هو ما يقع فعلا بعد يومين أو ثلاثة …

الخلاصة … كل ما ذكرناه سالفا كان حقيقة لا خيالا، و المكان هو تونس لا سويسرا، و فريق التلقيح (متطوعين، أطباء، أعوان صحة، هلالا أحمر) هم من بلادنا و ليسوا من كوكب الرئيس، نفس الكلام عن المواطنين الذين كانوا غاية في الانضباط و الهدوء …  يعني أن وطنك يمكن أن يكون جميلا بحق، و أن خدماته يمكن أن تكون الأفضل، و أن مواطنيه يمكن أن يكونوا الأرقى …

أما لماذا لا يقع هذا دائما و في أي مجال من حياتنا … فتلك قصة أطول من حكاية غرام فريد الأطرش …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version