يتساقط التونسيون كأوراق شجرة محتضرة كل يوم بالعشرات، و غدا ربما بالمئات … هناك من أنذرنا بـ 600 وفاة منتظرة يوميا، و الترقيم الدولي صار يصنفنا (عدد الموتى / عدد السكان) بعدُ في المرتبة الثانية عالميا ـ و مؤقتا ـ بعد البرازيل … و السلالات تتكاثر على أرضنا و تتنوّع من بريطانية إلى هندية إلى برازيلية إلى نيجيرية و القادم أحلك … و انتقلنا من عجز المستشفيات إلى عجز المقابر و قد نمرّ تاليا إلى عمليات حرق للجثث …
نعم نعم يا قصير العمر … هذا بلدك الذي كنت تفاخر بالانتماء إليه و الذي كان في مأمن من عديد الآفات التي اجتاحت العالم و لامست حدودنا دون أن تخترقها … زلازل إيطالية، حرب أهلية جزائرية، مغامرات قذافية، أزمة “سابرايم”، إنفلونزا الطيور، إنفلونزا الخنازير و غيرها من المحن … كلها قرأنا عنها في الأخبار و لكن شرارها انطفأ حال اقترابه من تونس و أجهزتها و يقظتها و احتياط دولتها … حتى كورونا في البداية و حين كانت تحصد أرواح جيراننا شرقا و غربا و شمالا، كنا متجنّدين لها متحصّنين و كانت أرقامنا في أدنى المستويات، و كانت الإصابات تعدّ ـ و بعد أسابيع ـ ببضع عشرات، فيما كانت الوفيات تحسب بالآحاد … إلى درجة أنه كان يشار إليها بالاسم و السن و المنطقة و التحقيق الفوري …
الآن انقلب كل شيء و أصبحنا مسرح إبادة و هناك منا من بدأ بعد في إرسال نداء استغاثة أممية … ماذا جرى؟ ما السبب في هذا الانهيار العارم؟ … طبعا ها أننا نرى الأصابع تتبادل التهم من هنا إلى هناك، و من هناك إلى هنا و هنالك، و من هنالك إلى كل أحد و كل شيء … و يلجأ الجبناء كالعادة إلى تعويم المسألة و توجيه التهمة إلى متهم جاهز لا اسم له و لا لقب اسمه المواطن … لا أدافع عن أحد و لا أعفي جمهرة الناس في هذه البلاد من دورها في حصول انتشار الفيروس و حصول الكارثة … و لكن ألم يقل سلفنا ابن خلدون إن الناس على دين ملوكهم؟
ملوكنا نظريا ثلاثة … رئاسة الجمهورية، رئاسة البرلمان، و رئاسة الحكومة … و لكن في حقيقة الشطرنج و الواقع هما ملك و وزير، و البقية بيادق … الملك من يملك السلطة الأولى في البلاد مهما كان نظامها الدستوري، أي رئيس الجمهورية الذي يعتقل الناس و يرمي بهم إلى القضاء العسكري كلما أراد … و الذي يفرض الوزراء و رؤساء الوزارة كما تفرض المطاعم الجامعية أكلاتها الرديئة على الطلبة، و الحيوط عشرة … بيده الجيش بكافة مؤسساته القضائية و الإدارية و العقارية و الصحية، فضلا عن القوات المسلحة التي توسع بها إلى خارج الجيش … و بيده الخارجية بسفاراتها و قنصلياتها و آلاف رتبها و علاقاتها و صلاحياتها و امتيازاتها و إغراءاتها … فضلا عن مصالح الرئاسة و هي ليست بالهينة إذا نظرنا إلى ميزانيتها السنوية و عددها و عتادها و هي الموروثة عن نظام رئاسوي عضوض …
أما الوزير، أو الوزير الأكبر فهو في الظاهر فقط يتلو الرئيس … و لكنه في الأصل يملك معظم خيطان اللعبة، بما فيها خيط الرئيس نفسه و الدلائل ليست قليلة … وزيرنا الأكبر أو سلطتنا الكبرى هي طبعا شيخ البرلمان و رئيسه و ماسك خزانته و كم خزانة استراتيجية أخرى … في يده مفتاح السلطة التشريعية يمرر بها ما شاء من قوانين و يحجب البقية و يماطل في معظمها … له أغلبية تبدو بسيطة و لكنه حين ينفخ النفير يحوّلها إلى كتلة ضخمة تضم من يخطر و لا يخطر على البال … و لك أن تشتم من تريد و تصرخ يا للخيانة و يا لقلب الجمازات و يا لنواب البيع و الشراء … تلك مشكلتك، أما هم فراضون مرضيّون مبررون مقتنعون …
لعبة تقاسم أدوار تتكشّف يوما بعد يوم بين الرأسين … قد تقول لا يهمني ما دام ذلك يفيد البلاد و يتقدم بها و يساعدها على الخروج من محنتها … تحلم أنت … فهما صعدا إلى هناك لا لخدمتك أو لخدمتي أو لخدمة ملايين الكلاب أمثالنا، بل بالوكالة عن لوبيات نهمة لا يشبعها و لو حجر جهنّم و لا يرويها حوض الأمازون … و بالوكالة عن دول وجدت فينا أرضا مفتوحة لا أسوار لها و لا أبواب و لا أكشاك حراسة … و في عالم غابة كالذي نحن فيه، الكل ينهش من ظهر الكلّ، و يا ويل الشعوب العزلاء العاشبة من أظافر و أنياب اللواحم …
لهذا مالك مستغرب و الوباء يفتك بشعبك فتكا منكرا ؟… مالك مستغرب أن ينهمك صاحب الرأس الأولى في بحوث عن فقه الدساتير لم يقم بها حين كان بكلية الحقوق … و تنغمس الرأس الثانية في إعداد هدية مجاملة لصندوق قطر للتنمية، بينما لا يأبه له القطريون المنشغلون بتغطية كأس أوروبا للأمم، و إعداد كأس العالم 2022 …
أما تونس، فقريبا تلعب كؤوسا و مسابقات و تتويجات، و لكن في دوري الدار الآخرة بحول الله.