تابعنا على

جور نار

أطال الله عمرك … يا جيورجيا ميلوني !

نشرت

في

سيدي الرئيس، صراحة لو كنت أعرف رقم هاتف صاحبة الشعر الأصفر “شقراء” روما جيورجيا ميلوني لهاتفتها لأشكرها…نعم لأشكرها سيدي الرئيس… وأقبّل يدها إن سمحت لي حتى وإن كنت على وضوء… (أتمنى ألا يتهمني أنصار الرئيس بالتحرّش بضيفته فوالله لا أريد شيئا غير شكرها) …

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

أقول، أتدري لماذا سيدي الرئيس؟ لأنها نجحت وفي اول لقاء بينكما في أن تضحكك…نعم نجحت حيث اخفقنا جميعا…أي نعم ضحكت سيدي الرئيس…ضحكت للحلوة جيورجيا في أول لقاء بينكما على أرض تونس الجميلة، نعم ضحكت وتسمّرنا جميعا أمام هواتفنا وتلفزاتنا وكل ما امتلكت ايادينا من وسائل إعلامية مستغربين الأمر…نعم مستغربين الأمر، لم نكن نعلم من طول انتظارنا لابتسامتك أو ضحكتك الأولى أنك مثلنا تضحك وتبتسم وتسعد…كنّا نقول لعلها هموم الوطن أبعدت عن رئيسنا الابتسامة…ولعلها الأزمة التي طالت جعلت رئيسنا رافضا للضحك…أو ربما صندوق النكد الدولي هو من أربك مزاج رئيسنا وأقضّ مضجعه فغابت عنه الابتسامة “يكب سعدك يا كريستالينا غورغييفا على زوز صوردي شردتينا”…

لكنك ضحكتَ سيدي الرئيس، نعم ضحكت أمام “جيورجيا” وردّت حلوة روما الضحكة والابتسامة بأحسن منها…أي نعم ضحكتَ لابنة “فرانسيسكو ميلوني” و”آنا باراتوري” وزعيمة “إخوة إيطاليا” ولم تضحك لنا نحن إخوة الأرض والوطن والوجع والمعاناة والصبر الطويل…لم تضحك لشعبك الذي انتظر طويلا ابتسامة أو ضحكة منك تبشرنا بخروجنا مما نحن وهذا البلد فيه…أتدري سيدي اننا حقّا اشتقنا إلى ضحكة منك لم نرها منذ وصولك قرطاج…ضحكة طال انتظارها ولم تأت من أجل عيون شعبك بل جاءت لعيون جيورجيا أطال الله عمرها وانفاسها وأظافرها…

أي نعم سيدي، ضحكت كثيرا و”كبيرا” ولا أحد منّا نحن الشعب يعلم لماذا؟ أتدري أن شعبك أصبح اليوم قليل الضحك ونادر الابتسامة، فحتى جيري لويس “رحمه الله وغفر له” لن ينجح في إضحاك هذا الشعب لو عاد حيّا…؟ وحتى “شوفلي حلّ” ما عاد يضحكنا ولم يجد حلاّ لكآبتنا… أتعلم لماذا سيدي الرئيس؟ أظنّك تعلم بكل ما يجعل شعبك قليل الضحك…قليل الابتسامة… طبعا لا أقصد كل شعبك فبعضه وهم قلّة يضحكون…كل الوقت…ويسعدون بما تفعل…كيف لا وهم يشاهدون خصومهم يتساقطون الواحد تلو الآخر…خصومهم الذين لم ينجحوا “ديمقراطيا” أو ما شابهه في ابعادهم عن طريقهم وافتكاك الحكم منهم عبر الصناديق…

ولم لا يسعدون…ولا يبتسمون…ولا يضحكون ملء اشداقهم وهم يشاهدونك وأنت تحقّق لهم ما عجزوا عنه منذ 14 جانفي من سنة النكسة والخديعة…وأنت تفسح لهم المجال ليحكموا غدا يوم يقولون لك “شكرا أكملت ما عليك”…فهم سيقبلون بكل ما تأتيه اليوم حتى وإن كان مخالفا لمبادئهم وفلسفاتهم السياسية وشعاراتهم التي يرفعونها منذ عرفناهم…فقط هم يريدونك ان تخدمهم خدمة لن ينسوها أو لنقل أنا على يقين أنهم سينكرون جميلك يوم يجلسون مكانك…إن جلسوا…هم يريدون فقط أن تقضي على كل من يمكنه الوقوف أمامهم غدا حين يحين موعد دخول مكاتب الاقتراع…إن حان طبعا…حينها ستعرف حقيقة ما قدمت لهم من خدمة لم ولن يحلموا بها لو لم تكن أنت جالسا على كرسي قرطاج…

وكأني بك لم تتفطّن لما يريدون وما يضمرون…هؤلاء الذين يضحكون ويسعدون لما تفعله لا يبالون بما تعيشه البلاد ولا يهمهم إن ساءت علاقتك بمن انتخبك وبالشعب…ولا يهمّهم إن توسعت الهوّة بينك وبين ناخبيك قبل الموعد الانتخابي القادم…ولا يهمّهم غدا إن قال لك الشعب “ماذا قدمت لنا في خمس سنوات؟” ولا يهمهم إن رفع الشعب صوته قائلا “اين وعودك؟ وأين انجازاتك؟” ولا يهمهم إن “حاسبك” الشعب غدا عبر الصناديق وقال لك “لم تفعل شيئا يستحق الذكر، فلن نختارك أنت رئيسا”…هم حوّلوا وجهتك إلى ما يريدونه منك حتى لا تلتفت إلى ما يهمّ الشعب فتنال رضاه …هم لم يساندوك في كل ما أتيته يوم 25 جويلية حبّا فيك أو دعما لمسارك بل هم يريدون أن تخلصهم من كل من افسد عليهم مخططاتهم وما يتمنون…

أعجبتهم لعبة تجفيف المنابع فصفقوا لك ورفعوا عقيرتهم بالصراخ “اضرب ما زال يتنفس”…وسيقولون يوم لا تكون جالسا في قرطاج عن دستورك ما لم يقله مالك في “السلتيا” (رحم الله سي حمادي بوصبيع)…وسيصفون عهدتك بالاستبداد والانفراد بالحكم…وسيعدون الشعب بإصلاح حاله والأوضاع…كيف لا وأنت أبعدت كل من كان يعترض طريقهم نحو الحكم من مطبات حزبية وسياسية…كيف لا وأنت خلصتهم ممن لم ينجحوا في تجاوزه عبر الصناديق…قد لا نتفق مع من أبعدتهم عن المشهد السياسي وقد لا نلتقي في أي من أفكارهم ومشاريعهم السياسية، لكن لا أحد منّا يقبل ان يقطع الطريق أمام خصومه دون تنافس نزيه لا تشوبه شائبة ليصل الحكم…

أتدري سيدي الرئيس أنهم سيُغرقون مسامعك بالتبجيل والتأليه والشكر والثناء والتصفيق والزغاريد وقد يرقصون إن لزم الامر (على وحدة ونصّ طبعا) … لن يتركوا لك لحظة واحدة تجالس فيها نفسك على انفراد وتفكّر فيها في وعن مآلات عهدتك التي شارفت على الانتهاء…عهدة حكمت أكثر من نصفها منفردا تفعل ما تريد متى تريد وكيف تريد…الآمر الناهي والحاكم بأمره…لا أحد يغامر بأن يقول لك أخطأت ليس خوفا من سطوتك لكن خوفا من سطوة من هم حولك…أتدري سيدي الرئيس لماذا لا يقولون لك: لا؟ لأنهم لا يريدونك أن تتفطّن لتبعات الوجهة التي حولوا دفّتك إليها…يريدون منك ان تنهي ما بدأته وتخلصهم من كل خصومهم بالإبعاد أو الاضعاف قبل موعد انتهاء عهدتك…

أتدري ماذا فعلت لصالح الشعب خلال عهدتك سيدي؟ لا شيء يذكر يهمّ الشعب، في حياته، ومعيشته، وتعليمه، وصحته، فقط حققت كل مطالب من ساندوك ودعموك دون أن تتفطّن بأنهم يخدعونك، ولم تلتفت لما ينفع الناس ويرفع عنهم البأس وينزع من طريقهم اليأس…عهدة ضاعفت فيها عدد معارضيك إلى أضعاف اضعاف من توحدوا بجميع الوانهم وقطعوا الطريق أمام خصمك وانتخبوك…عهدة أعلنت فيها الحرب على كل خصومك وخصوم من حوّلوا وجهتك مستأنسا بمزاج شعبي غير ثابت صنعته الازمات المتلاحقة بالبلاد منذ 14جانفي، وأجج ناره فشل كل من حكموا قبلك في إدارة شؤون البلاد واصطدامهم بواقع حكم كانوا يتصورونه “لعبة” أو “فسحة” سيصلحون خلالها حال البلاد والعباد دون عناء وفي أسرع وقت…ونسوا أن إدارة شؤون البلاد ليست فقط كرسيا تجلس عليه وتأمر لهذا بألف درهم وناقة وبعير…وتنهى الآخر وتأمر بسجنه وجلده مائة جلدة على قفاه…الحكم في زمن كالذي نعيش له واقعيته وحقيقته وأوجاعه وألمه ومشاكله التي لا يعلمها من لم يصارع أمواجه ويخرج منه سالما بأخفّ الاضرار…

أتدري سيدي الرئيس، هُمْ وأقصد من حوّلوا وجهتك نحو أهدافهم نجحوا في توسيع الهوّة بينك وبين معارضيك…وقالوا لك فيهم ما لم يقله تشرشل في “الفوهرر” أتعلم أشهر ما قاله تشرشل في السياسة…قال “ليس في السياسة عدو دائم، ولا صديق دائم، بل مصالح دائمة”…أتدري سيدي الرئيس أن من حاموا حولك ويحومون أوعزوا لك ضمنيا من خلال ما يروجونه عن معارضيك، ودون أن يتورطوا في ذلك علنا بتجفيف منابع معارضتك دون ان تدري بما كانوا يخططون ويريدون…ويضمرون…أتدري سيدي الرئيس ان عدوك الحقيقي هو من لا ينبهك لأخطائك…ومن لا يهتمّ لمآلات ما تأتيه وتقرره… عدوك الحقيقي هو ذلك الذي يصفق لك حين تأتي شيئا يوسّع الهوّة بينك وبين ناخبيك…عدوّك الحقيقي هو ذلك الذي ينصحك بمقابل…ويصفق لك بمقابل…وحين يغيب المقابل…يتحوّل إلى داعم ومساند لخصمك المقابل…عدوك الحقيقي هو ذلك الذي يزّين لك السيء من أعمالك، ويشوّه لك الجميل من أفعالك…

لذلك اسمح لي بأن أقول، علينا ان لا نغضب من ضجيج وصخب المعارضة وهرجها ومرجها، إن كنّا حقّا نريد من ينبّهنا لأخطائنا…فالاعتراف بالخطأ من اهمّ مكونات الفعل الديمقراطي…فلم نخاف المعارضة ونحن أصحاب رأي سديد وقوي وعاقل…فالرأي السديد العاقل لا يخاف الديمقراطية ولا تزعجه الحرية ولا الرأي المخالف…علينا أن نعترف أيضا ان اغلب المشاكل التي تعانيها دول العالم الثالث سببها الرئيسي غياب الديمقراطية…وان الفقر والخصاصة سببه أيضا غياب الديمقراطية…وان البطالة وتفشي الجريمة وانتشار المخدرات وتدني مستوى التعليم سببهم جميعا غياب الديمقراطية… ما حدث بعد 14 جانفي يعطينا درسًا ألا نظلم رجالنا سواء كانوا منا أو من معارضينا…فالاختلاف في الرأي ومعارضة مخططاتنا وبرامجنا وأولوياتنا لا يعنيان بالأساس ان من يأتي ذلك ليس وطنيا ويضمر بنا وبالوطن سوءا…وكما نحترم من يساندنا علينا ان نحترم من يعارضنا…فمن يساندنا قد يغفل عن أخطائنا ويزينها لنا تقرّبا منا وطمعا في غنيمة أو مقابل، ومن يعارضنا لن يغفل عن ذكر أخطائنا وسيساعدنا من خلال ذلك في إصلاح ما أخطأنا في تقديره…

ختاما سيدي الرئيس وأنت الذي ضحكت مع جيورجيا (أطال الله ضحكتها) كما لم تضحك سابقا معنا وأمامنا ابدا… أتدري متى نضحك نحن حقّا…متى نخرج من أزمتنا ونصلح حال البلاد والعباد…نضحك متى شعرنا بأننا في بلد ديمقراطي حقّا يسمح لنا فيه بأن نعبّر عن راينا بحرية دون خوف من الوشاة وامثالهم…نضحك متى نشعر بأننا نستطيع بأن نقول بصوت مرتفع ما كنّا نهمس به ونخنقه في حناجرنا…نضحك متى لا نُظلم ممن هم أقوى منّا ومن هم أقرب منّا للحاكم والسلطان…نضحك متى خرج علينا حاكمنا ليكشف لنا حقيقة أوضاعنا وإن كانت موجعة وإن كان وجعها سيزيد فالحقيقة هي ما نريد…نضحك متى جمعنا حاكمنا حول وطن واحد وإن اختلفنا في الرأي وفي التفكير…نضحك متى سمح للكاتب والمفكّر بأن يقول رأيه وإن كان موجعا دون أن يعتقل قلمه ويمنع من الكتابة…

نضحك متى استطاع كل واحد منّا أن ينتقد ويعارض السلطان دون ان يتعرّض للطرد من عمله وللعقاب…نضحك متى يختفي النفاق والحقد والكذب من مشهدنا السياسي…نضحك متى يعطى لقيصر ما لقيصر…نضحك متى عاد الشعب إلى العمل كما كان وأكثر…نضحك متى نفرغ السجون ممن نختلف معهم في الرأي والفكر…نضحك متى لا تغيب ضروريات الحياة من أسواقنا…نضحك متى يجلس الرجل المناسب في المكان المناسب…نضحك متى تغيب المحسوبية والانتهازية من حياتنا…نضحك متى قضينا على البطالة والتهميش …نضحك متى توحدنا في الحرب على الفقر والخصاصة …نضحك متى اعترفنا بأن أخطاء الماضي هي دروس للمستقبل ولسنا هنا لنحاكم الماضي بل لنجعله عبرة لنا حاضرا ومستقبلا… نضحك متى أدركنا جميعا أنه ليس من حق أحد أن يحتكر الماضي لنفسه…كما ليس من حقّ أحد أن يحتكر الحاضر لنفسه…فالحاضر لنا والماضي لأهلنا…والمستقبل لأبنائنا…

سيدي الرئيس، أتعلم أنا…اي نعم، أنا… متى اضحك؟ اضحك حين يصل كلامي هذا إلى من أعنيه بما جاء فيه، دون أن يخرج بعضهم ما جاء فيه من السياق الذي أبتغيه وأعنيه… فتعال نضحك جميعا، أنت، وأنا وكل الشعب ونثبت للعالم ونقول “الدنيا ما زال فيها الخير”…ألسنا أقرب إليك من جيورجيا ميلوني سيدي الرئيس !

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار