بالأمس كان عيد الفطر…عيد يجمع الجميع ويجتمع فيه الجميع حول طاولة واحدة…في بيت واحد…على رأي واحد ولو كان الأمر ليوم واحد…ولو اختلفوا…فهل اجتمع بالأمس الشعب حول طاولة واحدة…وفي بيت واحد…؟ لا…وهل كان شعب تونس بالأمس سعيدا كما يجب أن يكون في الأعياد؟ لا…قد يكون بعضه سعيدا…وقد يكون بعضه الآخر قابلا لما يعيشه رغم عدم سعادته…
هل نحن حقّا الشعب السعيد الذي يروّج له البعض؟ لا أظنّ ابدا فنحن اليوم أبعد ما يكون عن سعادة تجمعنا في وطن واحد نحو هدف واحد وإن اختلفنا…تعالوا لنعرف سرّ سعادة بعضنا وهم أقلية وليس كما يزعم البعض أغلبية…بلغ بنا السوء على ان تكون سعادة بعضنا بوجع ومأساة البعض الآخر منّا، أي نعم أصبحنا نسعد لآلام بعضنا وهمالأغلبية فقط لأنهم خصومنا…أو لأنهم فقط لا يتفقون مع برامجنا وسياساتنا…أو لأنهم يعارضوننا وقد ينافسونا في قادم المحطّات الانتخابية…هكذا نحن اليوم…والواضح أننا سنتوارث هذا الأمر لأجيال واجيال قادمة…فسنة 2011 عشنا وضعا شبيها بما نعيشه اليوم، سنتها صفّق بعضهم وغنى وخرج ليهتف في الشوارع بوجع ومأساة بعضنا الآخر…وها نحن اليوم في نفس الوضع، فقط، انقلبت الصورة وأصبح من كان سعيدا سنة 2011 هو من يعيش اليوم الوجع والمأساة والسجون والحصار والمنع والملاحقات القضائية…
هكذا إذن تعطينا الدنيا درسا وجب أن لا ننساه لنعتبر منه…فسنة 2011 غنى من كانوا يعارضون الرئيس الراحل بن علي رحمه الله ومنظومته وسعدوا وسهروا الليالي الطوال يتغنون بما حققوه…سعدوا بمن سحلوه…فرحوا بمن أطردوه…رقصوا على من ظلموه…وشربوا على نخب كل عرض هتكوه…نعم جميعهم فعلوا ذلك…جميعهم نكّلوا بتاريخ كامل…جميعهم من قوميين وهم أكثر المكونات حقدا ورغبة في الانتقام والابادة باستحضارهم لما وقع بينهم في التاريخ… ويسار وفروعهم …وإسلاميين بمختلف تفرعاتهم وتياراتهم…كيف لا وهم أطردوا أغلب من كانوا يجلسون على كراسي الحكم والسلطة والتسيير…كيف لا وهم ابادوا جميع المؤسسات وأفرغوها من كفاءاتها…كيف لا ولم تسلم منهم مؤسسة وطنية لم يعبثوا بمحتوياتها البشرية والإدارية…ثم شربوا على نخب حلّ الحزب الذي حكم البلاد لأكثر من نصف قرن ولم يحرّك أنصاره ساكنا دفاعا عن تاريخهم وما انجزوه…
اليوم يعاد المشهد مقلوبا وكأننا أعدنا الشريط بشكل عكسي…مع اختلاف من سعدوا اليوم بما يحصل، فمن خرجوا أخيرا وهم أقليّة يعبّرون عن سعادتهم بوجع غيرهم، خليط غريب عجيب ممن كانوا يختبئون في منازلهم أيام حكم الترويكا…هم خليط من جماعة “الصفر فاصل” في كل المحطات الانتخابية التي مرّت بها البلاد منذ 2011…وكما وقع سنة 2011 لم يحرّك انصار من يعانون وجع اليوم ساكنا دفاعا عن حاضنتهم السياسية او حتى تضامنا معها وهم يدركون ان الأمر قد يصل كما وصل سابقا مع التجمّع الدستوري الديمقراطي إلى الحلّ…فالمشهد يعاد في أبسط وأصغر جزئياته إذن…سيقول البعض “هذا أحد المدافعين عن النهضة ومن معها”…وسأضحك وأقول التاريخ يعرف من سخّر ليله نهاره لمقارعة و”مقاومة” النهضة ومعارضتها ومن معها أيام عزّها وسطوتها…والتاريخ يعرف أول من نطق دفاعا عن المؤسسة الأمنية حين وصلتها معاول الهدم والتخريب…لكن كان ذلك حين كانت النهضة ومن معها في الحكم وليسوا خارجه…فاين كانوا من خرجوا اليوم “يسكرون” على نخب سقوط النهضة و”صويحباتها” كما كنت اسميهم حين كانوا في الحكم؟ كانوا يبحثون عن ودّ الترويكا ضمانا لمصالحهم…وتقرّبا من السلطان…نعم عارضت النهضة ومن معها كما لم يعارضها أحد…وبشهادة الجميع…لكن كان ذلك وهي في الحكم…واليوم لست ولن أكون من ومع الشامتين…هكذا هي أخلاقي…أخلاق محارب تعلّم على والده أخلاق الفرسان …
نحن اليوم في تونس نخشى من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية…نحن اليوم نعيش مرضا قد يصعب علاجه ما لم نتنازل جميعنا عن تعنتنا وعنادنا الغريب في قراءة الأوضاع بمنطق آخر وعقل مختلف عن العقل الذي اوصلنا إلى ما نحن فيه…فنحن اليوم لا نخرج من مشكلة إلا ونجد أخرى لم نقرأ لها حسابا تنتظر بالباب الخلفي …فنحن اليوم نتاج خطأ ارتكبناه منذ سنة 2011 في حقّ أجيال الغد…خطأ قد يكلفنا غاليا لو نواصل في تجاهله وعدم ايلائه ما يجب من عناية وجهود …فالتاريخ عندنا يعيد نفسه في أسوأ اشكاله وصوره ونتائجه…فنحن صنعنا بتشخيصنا غير السليم لما تعيشه البلاد جيلا من الحاقدين…فأجيال الحقد ستفرّخ أجيالا تطالب بالانتقام والثأر غدا…وسيعيد التاريخ نفسه مستقبلا في شكل مأساة وفتنة… ولن تسلم البلاد من إعادة مشاهد وجعها ومأساتها مع كل عهدة سياسية…ألم يحن الوقت لندفن أحقادنا بقرار بسيط لن يكلفنا غاليا…ألم يحن الوقت لندفن رغبتنا في الانتقام من خصومنا في بئر عميقة؟
لقد ظلّ جميع ساستنا ومن حكموا ومن كانوا معهم ومن يحومون حولهم من باعة الذمم والانتهازيين يكابرون ويفاخرون بما حققوه وهم في الواقع لم يحققوا شيئا، بل خربوا وهدموا ما بناه السابقون، فلم يعيروا المشاكل الحقيقية التي تعيشها البلاد الأهمية التي وجب ان تكون…ولم يدركوا أنهم أخطؤوا في تقييم الأوضاع وأنهم اكتفوا بالانتقام ممن سبقهم ظنّا منهم ان الحلّ يكمن فقط في التخلّص من القديم ومحاسبة التاريخ وإعادة كتابته… كما انهم اغلقوا اذانهم عن سماع المشاكل الحقيقية التي وجب معالجتها والتخلّص من تبعاتها…ووصل بهم الأمر في كثير من الحالات إلى اتهام كل من يتحدث عن مشكلة ما، ومن أي نوع كان بالخيانة والعمالة وبانه يخدم اجندات أجنبية، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من تراكمات وقف الجميع عاجزا عن ايجاد الحلول الممكنة لها…
عدم اعترافنا بأن البلاد تعيش الازمة الخانقة وأنه لا يمكن حلّها دون الجلوس معّا لإيجاد مخرج لها ومنها بشكل عقلاني وواقعي وسليم، هو من أغرقنا في وحل البحث عن إلهاءات من هنا وهناك حتى وإن كان فيها ظلم ووجع للبعض من هذا الشعب للتغطية عن فشلنا، فالمنطق يقول ان أول خطوة لإيجاد حل لأية مشكلة هي ان تقر بوجودها… وثانية الخطوات هي تشريك الجميع في إيجاد الحلول لها … وثالثة الخطوات هي العمل على أن يكون القرار جماعيا وطنيا استراتيجيا يعتمد على بديهية التعايش السلمي ووحدة البلاد مهما اختلفنا ومهما بلغ بنا الانقسام السياسي…لذلك فالمنطق والعقل يفرضان اليوم الخروج وبأسرع وقت ممكن من النهج الذي سلكناه خطأ ولن يصل بنا إلى مرفأ النجاة حفاظا على وحدة أجيالنا القادمة… وهنا وجب أن أقول واصرخ عاليا علينا أن نتحلى بالشجاعة اللازمة لنعترف بأخطائنا أولا وبمشاكلنا ثانيا وقبل كل شيء وبذلك يقع تشريك كل الشعب ومكوناته السياسية والاجتماعية في عملية الإنقاذ …
ختاما أقول…أليس بينكم عمر الفاروق يا قوم…أليس بينكم ابن عبد العزيز…أليس بينكم نلسون مانديلا…؟ تعالوا لننسى وجع الماضي…ومأساة الحاضر من اجل مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة…تعالوا لنكتب تاريخا يكون شاهدا على أننا لم نخطئ الطريق وأننا لم نهدّم البناء…أليس بينكم من يرفع اصبعه ويقول…أنا عمر…وإن لست هو…فعمر بأفعاله وليس بجسده…فالجسد يفنى…والافعال تخلّد أصحابها…