جور نار

أين الدّروس المُستخلصة من باكالوريا 2023 ؟!

نشرت

في

تمثل النتائج النهائية للباكالوريا كل سنة منجما حقيقيا من المعطيات حول هِنات نظامنا التربوي ونقاط القوة فيه، ولكن لا أحد يُجري قراءة مُعمّقة في تفاصيلها ولا أحد يُحاول مساءلة هذه النتائج والإشارة إلى مكامن النجاح قصد تعزيزها وتعميمها وترصيدها، وكذلك مواطن القصور حتى نُعالجها ونبني إصلاحاتنا القادمة على مؤدّيات تشخيصها.

<strong>منصف الخميري<strong>

فوزارة التربية تكتفي سنويا حال الإعلان عن نتائج الباكالوريا بتلاوة نسب النجاح حسب الشعب المدرسية وحسب الولايات ومعدلات الأوائل المتميزين، مع التأكيد في كل مرة على أن الاختبارات جرت في ظروف طيبة دون أية إخلالات تُذكر. ولم نسمع يوما أنهم سيعكِفون على تحليل نتائج الباكالوريا واستخلاص الدروس الضرورية منها لضمان نتائج أفضل في لاحق السنوات وإنقاذ شريحة غير الناجحين التي يُعتّمون عليها بمَكر وقلة مسؤولية. فهم يؤكدون على الـ 40 % الذين نجحوا لكنهم لا يقولون للرأي العام أن جزءً كبيرا من الـ 60% المتعثرين لن يعودوا إلى مقاعد الدراسة وستبتلعهم مسالك موازية غثّها أكثر بكثير من سمينها. لا يقولون شيئا عن هذا الأخدود الجارف لأنهم مُتأسّسون في الركود واللاّحركة والتصرف كيفما اتفق في صعوبات اللحظة، دون أية قدرة على الاستشراف والاستباق وإيجاد المعالجات الفذّة التي تنقذ أجيالا وتُربحنا أميالا.

أشعر شخصيا بمرارة كبيرة أمام واقع أن نخوض في كل مرة غُمار سنة دراسية جديدة دون إجراء أي تعديل أو تحوير أو تغيير أو تطوير في ملامح الباكالوريا التونسية : هذه العقبة الكأداء التي تصنع الأمل مثلما تصنع الإحباط وتُشرِع أبواب التفاؤل كما تزرع الخيبة في النفوس والوجع في الرؤوس. ويصبح الوجع مُضاعفا عندما نُدرك أن جموع التلاميذ البالغين هذا المستوى، لدى كل منهم مهارة أو موطن نبوغ أو اقتدار ما يجعله يعبُر الجسر ويرتقي إلى مستوى ما فوق الصفر.

يغمرني اقتناع راسخ بأنه من الممكن جدا –  مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الباكالوريا-  تجميع خبراء التربية والتعليم العالي وبقية الهياكل ذات العلاقة، ومُطالبتهم بإعداد مقترحات عملية في ظرف زمني لا يتجاوز الشهر وتكون قابلة للتنفيذ في مفتتح السنة الدراسية الموالية، وذلك على ضوء قراءة مستفيضة للنتائج في كل مستوياتها وفي علاقة بالإخلالات الكبرى التالية :

أولا : ترميم المسالك، أم المعارك

قُلناها مِرارا كما قالها عاليا كل المُشتغلين على مرفق التربية في تونس، إنه من الحقائق الساطعة التي تُفرزها الباكالوريا كل عام وصول شريحة واسعة جدا من التلاميذ برصيد ضئيل من المكتسبات الأساسية المتعارضة على طول خط التعليم الثانوي مع المسالك العامة مهما كانت طبيعتها أدبية، خدمية علمية أو تقنية. والذين كان من المفروض أن تُصمّم لفائدتهم –  في منتهى المرحلة الإعدادية- مسالك ومعابر أخرى لا تستوجب تكوينا أساسيا صلبا بقدر ما تتطلب رصدا لميولات قابلة للتفعيل في شتى حقول البراعة والصناعة. ومن ناحية أخرى، علينا أن نشرع دون تأخير في قلب هرمية مسالك التعليم الثانوي رأسا على عقب، لتتقلص شعب الاقتصاد والآداب إلى أدنى المستويات الممكنة ويُضاعف حجم الشعب العلمية والتقنية… انسجاما مع الاتجاهات الكبرى في العالم اليوم تعليما وتشغيلا.

ثانيا  : الضعف الفادح في اللغات كلها بما في ذلك اللغة العربية

أمرُ مستوى تلاميذنا في اللغات الأجنبية واللغة العربية الأم لم يعد يستدعي استحضار الأرقام والنّسب المائوية، لأنه أصبح من المُسلّم به في الشارع التربوي أن عشرات الآلاف من الناجحين في الباكالوريا لا ترتقي مستوياتهم إلى درجة المعدل البسيط في اللغات. ولا أعتقد شخصيا أن ذلك قدر محتوم، لأن شعوبا أخرى استطاعت التغلب على القصور اللغوي لدى أبنائها فظلّ الكتاب صامدا رغم سطوة الشاشات وسياسة الإفساد التي تمارسها التطبيقات. أُقدّر بأن إيجاد الحلول لهذه المعضلة يمر حتما عبر التحلي بدرجة عالية من الجرأة ! الجرأة في مراجعة السياسة اللغوية المطبقة في مدارسنا ومعاهدنا (برامج وكتبا ومقاربات) والجرأة في الإقرار بأننا نحن معشر الأساتذة (أو عدد كبير منا على الأقل) لا نُجيد تدريس اللغات ونُساهم بالتالي في تعميق أزمة ضعف تلاميذنا في اللغات.

ثالثا : تدنّي القدرات التواصلية العامة والشفوية منها خاصة

في نفس السّياق تقريبا، وبشهادة كبرى الجامعات الوطنية والعالمية التي يلتحق بها من تميّز من الناجحين في باكالوريتنا في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، يشكو أغلب تلاميذنا من ضَعف مستوى القدرة على التعبير كتابيا وشفويا في مستوياته الدّنيا، أي التحرير أو التكلّم بشكل سليم في موضوعات تتصل باليومي في حياتنا وليس بالضّرورة في علاقة بالعُمق الفلسفي الذي نلحظه في كتابات نظرائهم الألمان أو الطليان. وهذا مردّه في رأيي غياب التدريب الشفوي في كل المستويات الدراسية وضعف نسق المطالعة لدى شبابنا التي بدونها لا يمكن لقلمٍ أن ينمو ويتعزّز.

رابعا : من أجل خطة وطنية للارتقاء بالنتائج في جهات ومعاهد بعينها

يُسيئُني دائما أن يتوفّر سنويا أمام وزارة التربية لوحة قيادة تعكس واقعا مأزوما مُفصّلا جهة جهة ومعهدا معهدا، ولا تُبادر رغم ذلك بمحاولة رأب التصدّعات ومعالجة الإخلالات. فأيّة دولة وطنية تقبلُ بأن جهات بأكملها تعجز عن إرسال مشروع طبيب أو مهندس واحد وأن شبكة كاملة من المعاهد تتشوّق إلى ملاحظة حسن جدا في الباكالوريا منذ عشرات السّنين، وأن جهات أخرى في المقابل تُرسل أبناءها وبناتها بالعشرات إلى أرقى المسالك وأكبر الأقطاب الجامعية المُولّدة لفرص العمل والأمل…ويُترك المشهد على حاله.

خامسا : تراجع مردود منظومة المواد الاختيارية

بُعثت المواد الاختيارية تاريخيا من أجل تحقيق هدفين أساسيين على الأقل : تنويع ملمح التكوين بما يتجاوز المكوّنات الأساسية في كل شعبة دراسية، وإتاحة فرص أكبر وأوسع للتوجيه الجامعي بعد الباكالوريا. لكن مع مرور الوقت، تقادمت هذه المنظومة الرّديفة وتآكلت بالشكل الذي نزل بها إلى مجرد مواد يحاول من خلالها مترشح الباكالوريا اقتناص بعض العلامات الإضافية يُحسّن بها معدّله النهائي. ذلك أمر بيّن تُفرزه الباكالوريا سنويا ولكن لا أحد يُبادر بفعل أي شيء يُعيد الاعتبار لمكتسبات منظومتنا التربوية ويُطوّق الانحرافات التي تشهدها.

سادسا : من حق التربية إبداء الرأي في مآلات أبنائها عند وُلوجهم التعليم العالي

بمجرّد الإعلان عن نتائج الباكالوريا، يجتاز التلميذ التونسي “منطقة منزوعة الهوية” لأنه لم يعد تلميذا ولم يصبح طالبا بعدُ ! فلا التربية تُرافقه ولا التعليم العالي يحتضنُهُ. هذا بالإضافة إلى أن التربية لا تُستفتى إطلاقا ولو بشكل صوري في ما يُرصد من مآلات لأبنائها بشكل أحادي، والحال أن هيئات التفقد في التعليم الثانوي هي الأدرى بالطينة المعرفية التي يفدُ بها التلميذ على مدرّجات الجامعة.  فأما آن الأوان ليكون للتربية كلمتها في الكيفية التي يتشكّل بها مصير مُخرجاتها؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version