بلد غني جدا بلا نقطة بترول مثل سويسرا، ثروته الأولى هي نظامه البنكي الفريد … و بلد فقير جدا فيه على أي حال (نقول بضع قطرات) نفط و غاز مثل تونس، و لكن مصدر فقره الأوّل و الأهمّ هو بالذات نظامه البنكي …
صورتان متقابلتان ترِدان على الذهن خاصة كلما نادى أشباه خبرائنا بإعادة طبع عملتنا عسى أن نقاوم التهريب … و هي حيلة ساذجة أو متساذجة لا تستفيد منها في النهاية سوى مطابع النقود … و هي بدورها موجودة في وطن بطل التنس “فيديرر” الذي يمثل مصدرا آخر من مصادر الثروة السويسرية ، للتذكير … و من المفارقات، أننا بكل المقاييس أغنى و أمتن من تلك البلاد التي أحسدها من كل قلبي … نحن أغنى بما تحت الأرض و ما فوقها من مساحة و عدد سكان و عدد أيام مشمسة (أي صالحة للعمل) و منفذ على البحر أطول من نهر الراين … و مع ذلك …
بنوكنا التونسية تصنع البؤس لحرفائها لا الرفاه، و تقتلهم انتظارا بدل الخدمة الناجزة، و تذبحهم استغلالا دون أن تسعدهم شروى نقير … هي عبارة عن حقق بيروقراطية ثقيلة تدخل إليها مرتبكا و تغادرها و أنت تشارف على الانتحار، أوراقها الإدارية أكثر بكثير من أوراقها المالية، و زحام ضرائبها ورسومها و مكوسها و غراماتها يتنافس مع زحام المواطنين الصاغرين على شبابيكها … رأس مال البنوك الأخرى مال وفير و ثقة و تشجيع على الإيداع و الاستثمار، و رأسمال بنوكنا قلم مربوط بخيط و مطويّات مزيّنة بمائة بشرى كاذبة …
بنوكنا التونسية أسد عليّ و في الحروب نعامة … فهي متعالية عليك و عليّ و على باقي مخلوقات البلاد، ومرتفعة فوق منازلنا الواطئة بمبانيها الشاهقة المالئة شارع محمد الخامس غابات من الرخام و الزجاج الفاخر و الألومنيوم … و لكنها ضئيلة ضئيلة جدا أمام بنوك الآخرين و لو كانت من دول الجوار … و لا تجد أحدا يعرفها خارج حدودنا و لا تسمع لها صوتا و لا يُفتح فرع … حتى في العواصم التي بها مئات الآلاف من مهاجرينا … حتى هناك، يضطرّ التونسيون للتعامل مع بنوك المكان و عندما يستفهم أحدهم لماذا لا يصادفنا بنك تونسي واحد في باريس أو لندن أو روما أو برلين أو دبيّ … يُجاب فورا: ماذا تخرّف؟
البنوك كما قلت أعلاه رأسمالها الثقة … و في حالتنا، اذهب و اسأل أناس الشارع عن مدى ثقتهم في بنوكنا ونظامنا البنكي، حاولْ أن تسمع لفظة أخرى عدا: لصوص، سُرّاق، أولاد حرام، استغلاليين، مصاصي دماء إلخ … أما مستعملو لغة أكثر تقنية فيصنّفون بنوك تونس ضمن مؤسسات الاقتصاد الريعي … أبشع أنواع الاقتصاد الريعي … بعد شركات التأمين طبعا.
لا وهم لي في إصلاح بل هي مجرد فضفضة و طفطفة و زفير صدر مكلوم من بين 12 مليون صدر … فلمن تشكو و حكومتك لا سلطة لها على هذه الأوكار و لا كلمة لها معها؟ … و كيف لا يكون ذلك و هي ـ أي الحكومة ـ انضمّت بعد إلى طابور المتسوّلين أمام مكتب الصرّاف؟