اليوم عودة المدارس … و هي للتذكير، مفتتح العام الدراسي الخامس و الستين منذ أن تمّ رفع العلم التونسي على كافة مؤسساتنا السيادية و أولها وزارة التربية و ما تفرّع عنها … و منذ أن صار هناك كتاب قراءة بالعربية … و منذ أن صار التلاميذ ينشدون في آخر الحصة “علَمي بالأمس كنت” و “من خلال الغيوم لمعت في الفضا” …
اليوم عودة المدارس، و ما من أحد منّا لم يبعث من القلب بتحية حبّ إلى معلّميه و أساتذته عبر الأجيال و موقعهم في الذاكرة كمكان الشمس من المجموعة الشمسية … و معلمونا أصناف: أبوانا طبعا، و سلك التدريس الذي أخرجنا من الأمية المطلقة إلى العلم النسبي، و وسائل الإعلام التي بدأناها بمجلة عرفان و أنهيناها بموقع يوتيوب و لا ندري ماذا غدا …
للصحف و الإذاعات و التلفزات ـ رغم رداءتها في آخر السنوات ـ لها علينا أوّلا فضل تعليم و تثقيف و فتح أفق لا يُمارَى اليوم، و ليست تلك المحامل بمسؤولة عمّا صار ينشره مستغلّوها من أثر سيّء … و ثانيا و بالنسبة لبعض الفئات، كانت هذه الوسائل منصات انطلاق لأكثر من نجم، و مضخّم صوت لمن لم يكن أحد يسمع أصواتهم، و أداة تذكير بمن بدؤوا مغمورين و انتهوا نسيا منسيّا …
و كم غاظني منذ أيّام ما سمعته من أحد هؤلاء المستفيدين من وسائل إعلامنا التي عاملته بسخاء تشجيعي لا نظير له … فعلا، فقد حظي ابن بوشناق بما لم يحظ به العشرات من هواة الإخراج و الكتابة و التمثيل و غير ذلك من المهن الدرامية و غير الدرامية … أنتج في بدايته شريطا سينمائيا تجريبيا (قال إنه فيلم رعب) فتداعت صحفنا و إذاعاتنا و تلفزاتنا إلى الحديث عنه بالليل و النهار و دون انقطاع … و من قبل حتى أن يشاهده كثيرون من عامليها، راحوا يكيلون له الثناء تلو الثناء، رغم أني شخصيا نفرت من معلقته (أفيش) القبيحة الشكل و التصوّر …
و ربما كان ذلك أخذا بخاطر أبيه المطرب الكبير، مارست وسائل إعلامنا بعد ذلك نفس السخاء مع نفس الولد … حين فتحت له تلفزاتنا أبواب بثها و إنتاجها و ساعات ذروتها، ليقدم مسلسلا لم يجد أفضل من إعادة الحديث عن عرض النوبة الذي يعاد الحديث عنه منذ 30 سنة و بلا توقّف … لا علينا … المهمّ ركنت التلفزة جانبا أكداسا من مشاريع المسلسلات المعروضة عليها منذ دهور، و أعطت الأولوية لهذا الشاب اليافع و موّلت عمله و صوّرته و دعت له خيرة فنانيا و فنيينا، و قامت ببثه في أعلى أوقات رمضان … و زادت على ذلك بأن أشبعته استضافات و تقديمات و ترويجات و تشريفات لم ينلها قبله أناس أفنوا عمرهم في عالم الدراما و مات بعضهم تحت طبقات من غبار النسيان و التناسي … و فيهم حتى من ما زال ينتظر قبض أجرته منذ عشرين سنة تزيد …
و بدل أن يكتفي الأخ الكريم بما ناله في النوبة 1، جاد علينا بعمل “جديد” لم يكن سوى النوبة 2 … و قد ذكّرني هذا بما وقع مع مؤلف السلسلة الإذاعية القديمة “شناب” الذي استنجدوا به منذ سنوات قليلة عساه يقدم فكرة بديعة و هو المبدع الذي لا ينضب معينه … فغاب مدة ثم جاءهم بجديده الجديد الجديد، فماذا كان؟ “بنت شناب” ! … لا علينا ثانية، المهمّ أن بوشناق الإبن جوزيَ على ابتكاره المزوَدي الثاني و بما أنه صار مترسّما في برمجة رمضان، فقد اشتروا منه هذه السنة أيضا عملا ثالثا و ما زلنا ننتظر طلاّت أخرى بنفس الانتظام … و معها طبعا هذا التكثيف الإعلامي و التركيز في جميع البلاتوهات على هذا المخرج الشاب و أخباره و أحاديثه و كل ما يمتّ له بصلة …
و بدل أن يشكر المدلل من دلّلوه، و أن يعترف بفضل من بجّلوه على بقية الخلق، سمعته منذ أيام يرغي و يزبد و يشترط … لن أحضر مستقبلا في أية وسيلة إعلام دون مقابل، أي لن تروا وجهي و تسمعوا صوتي و أشرّفكم بحضوري، ما لم تدفعوا سعر هذا الشرف و ذاك الحضور … قال هذا دون أن يستثني أحدا أو ينسّب كلامه، و يبدو أن لحضوره في منابرنا يجلب لها من موارد الإعلانات ما يستوجب إعطاءه نسبة من تلك الموارد التي يضخّها المستشهرون لأجل طلعته العابرة للقارّات … حتى عمر الشريف في زمانه لم يفعلها بهذا الغرور و التضخّم …
لا يهمّني شخصيا في من يستأهلون هذا الوعيد و أكثر منه … و لا في القنوات التجارية التي تصرف فلوسا ليست فلوسها و التي عليها شبهات تبييض أموال … بل في هذا التعميم الحربي الذي فرضه ابن صاحب “علّمني و خذ بيدي” على الجميع بما في ذلك القنوات غير التجارية … بما في ذلك الإذاعة الوطنية و التلفزة الوطنية و كلاهما مرفق عمومي يسحب أمواله من جيوب المجموعة، و كلاهما أنفق ما أنفق ليتحوّل هذا الشاب إلى نجم يشترط و يُقسم و يجزم …
و لو كان الأمر بيدي، لطاوعته في قراره ذاك و قرّرت عدم استدعائه في أي برنامج … و دعها تفلس تلك الإذاعة أو التلفزة التي لا يتكرّم عليها سيدنا بحضوره … لعلها تعيد ملء مواردها ذات يوم، حين يتنازل و يعود إليها، و يجد أن ظهوره صار فعلا بمقابل … و لكن عليه هو أن يدفع لا أن يدفعوا له …