دفءُ نار

أيّ مدرسة لا نريد ؟!

نشرت

في

جرت العادة أن يطرح السؤال على نحو يستحثُّ التفكير بشأن الأهداف والغايات المطلوب مجتمعيّا من المدرسة تحقيقها، لكن في ورقتي هذه، سأحاول ولوج مسألة إصلاح منظومتنا التربوية الواهنة من باب استعجال المبادرة بتطويق جملة من الظواهر السلبية القاتلة وإنقاذ الأجيال القادمة من النار التي تكتوي بها الأجيال المتمدرسة اليوم… حتى لا يقع السّقف تماما.

<strong>منصف الخميري<strong>

بادرني معلّمي وصديقي ذات يوم قائلا إن المدرسة هي عبارة عن ورشة تصنيع تُشرف عليها أجهزة إدارية متمرّسة وصناعيون أي مدرسون لهم خبرة وتجربة وتأهيل مهاري… لكنهم ليسوا أحرارا في صنع ما يريدون بل مُلزمون بصنع ما يريده المجتمع. أيّدته في فكرة أن الطلبيّة اليوم بمعنى الانتظارات وملمح التلميذ المنشود يعبر عنها المجتمع بشكل باهت وغير دقيق. ففي أحسن الأحوال يقولون لك نريده تلميذا ناجحا ومتفوقا ويحتل المراتب الدراسية الأولى ليكون طبيبا أو مهندسا…فقط.

أعتقد بالتالي أن عموم الأولياء يعرفون جيدا ما لا يجب أن يكون ولكنهم لا يعرفون على وجه التحديد المآلات المنشودة إذا أخرجتهم من مُربّع “المتعارف عليه”.

فالمجتمع لا يريد (حتّى وإن عبّر عن ذلك بصفة عفوية) مدرسة بسرعتين أو مساريْ سباق : مسار يؤمّه المتميّزون ليبلغوا بعد سنوات معدودة أعلى المراقي الجامعية التي تفتح بدورها الأبواب مُشرعة على أكثر الفرص التشغيلية بهجة ومردودا … ومسارا آخر يعجّ بجمهور “منحنى غوس” أي ما يزيد عن ثلاثة أرباع التلاميذ الذين لا يتوفر أمامهم ما يكفي من تنوّع الممكنات التأهيلية التي تُعدّ بالمئات لتفجير مكنوناتهم ومواهبهم المكبوتة.

والمجتمع يزدري مدرسة ركيكة الفهم ومتصلّبة عاجزة عن التطور ومواكبة ما يحدث لدى جيرانها في سنغافورة وفنلندا. مدرسة ركيكة الفهم وبطيئة التفاعل لأنها مازالت توزع التلاميذ إلى صنفين كبيرين : مجتهدين موعودين بالنجاح والذهاب بعيدا في دراساتهم، وكسالى مصيرهم الانقطاع والانحراف والانجرار إلى مسالك التهريب والارهاب والجريمة.

والمجتمع يكره مدرسة خارطة مسالكها الدراسية الممكنة لا تتجاوز مستوى التفكير البدائي في ستينات القرن الماضي حيث يتكوّن الشعراء والفقهاء في شعبة الآداب، وخبراء المحاسبة في شعبة الاقتصاد، والميكانيكيون في شعبة التقنية، والمهندسون في شعبة الرياضيات، والأطباء في شعبة العلوم التجريبية، وتقنيو الإعلامية في شعبة تكنولوجيا الإعلامية.  خارطة نموذجية في التكلّس وضيق الأفق والخصي الممنهج.

والمجتمع يعرض عن مدرسة نكديّة ومُنفّرة لا بهجة فيها ولا مُهجة، حيطانها رثّة وبِنيتها حافية وسوء التحصيل أفجعها و وهن البرامج أوجعها و الهمُّ أنحلها والغمُّ أضناها (الأرملة المرضع لمعروف الرصافي بتصرف) .

والمجتمع يبغض مدرسة نصف مكتسبات التلاميذ فيها تُجنى في الأقبية المهيّأة والمستودعات الحزينة.

والمجتمع يمقت مدرسة بمؤسسات نموذجية لا تزيد الموهوبين موهبة بل تزيد المنتفخين أعدادا قدرة على المنافسة وتكديس أفضل العلامات بدلا من مقاربات نموذجية ومؤسسات نموذجية لِمَ لا، تنتشل كل أولئك الميئوس منهم وتشدهم إليها حتى يشتدّ عودهم ويشدّون الرحيل المثمر إلى الحياة.

والمجتمع لا يألفُ مدرسة تُلقي بأبنائها وبناتها – أثناء ساعات الفراغ، وما أكثرها- في شارع لا تسمع فيه إلا طنين البعوض وعواء الذئاب وبطش المتصيّدين والمُروّجين.

والمجتمع يرفض مدرسة لا تجرؤ على مراجعة برامجها البالية وهيكلة تعليمها المهترئة ومهزلة لغة تدريس العلوم فيها … مدرسة لا تكلّف نفسها مشقّة إعادة النظر في مناهج تدريس علوم أساسية كأنها حجر صوّان وتربيات لا تربّي وإنسانيات لا تؤنسن وفنون لا تُهذّب.

والمجتمع يشمئزّ من مدرسة لا يطيب فيها العيش لأن النموذج المدرسي المهيمن يبحث عن الإخضاع وفرض الطاعة بشكل محافظ، لا أن تتحرر العقول ويكون الفرد قادرا على عدم الامتثال والتماثل مع معرفة لماذا يتصرف على نحو يُكسبه ذاتيّة ويُحمّله مسؤولية.

والمجتمع لا تعجبه مدرسة تقطع مع مبدإ قابلية التعلم الموزعة بعدل بين جميع الأطفال وتعتبر أن هنالك جملة من الحتميات لا يمكن إحباطها وتطويق تداعياتها السلبية في الوسط المدرسي لأن الذكاء بالنسبة إلى بعض مدارسنا ومُدرّسينا هو نعمة من الله يهبها لمن يشاء من عباده… وكذلك الغباء.  

والمجتمع سئم مدرسة تتحول إلى “مصنع للكراهية والظلامية تنتج وحوشا تتولى إطفاء النجوم” كما قال الكاتب والصحفي الجزائري الطاهر جاووت قبل اغتياله في ماي 1993. 

والمجتمع ملّ مدرسة بمدرّسين لا يتعهدون تكوينهم متمسّكين بدفاترهم الصفراء ومعتبرين أن ثلاث سنوات جامعية تخللتها مئات الإضرابات كافية للاقتدار ثم الترسيم والاستقرار.  

والمجتمع في النهاية ضاق ذرعا بمدرسة تعجز عن دمج بناتها وأبنائها بل تجتهد سلبيا للإلقاء بهم خارج أسوارها المتّسخة وبمدرسة ترفض المشاركة في التقييمات الدولية لكي لا تحتل المواقع الأخيرة في الترتيب العالمي كمن يكسر المحرار لكي لا يرى مستوى حرارته المرتفعة والتي تستوجب إنعاشا استعجاليا.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version