بنات أفكار

إصدارات: “قصائد الشاعر الرائد صالح سويسي”… لعبد الرحمن الكبلوطي

نشرت

في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد القادر المقري:

القيروان تدهشك بأسرارها كما تفعل العرائس الروسية التي كلما كشفت عن وجه واحدة نجمت لك أخرى في نفس الجمال وأكثر… ففي كل المضارب لها خيمة، وفي كل العصور لها شاعر، وفي كل الأغراض معلّقة… وفيما فيروز تصدح بحُصرية “ياليل الصب”، ويجيبها عبد الوهاب بمعارضة من الشوقيات، يقتفي الرواة والناشرون أثر ابن رشيق شاعرا وناقدا، وابن شرف شاعرا وموسوعيا، وتكرّ سبحة الأسماء حتى زمننا الحديث من الشاذلي عطا الله إلى محمد الفائز إلى جعفر ماجد إلى ما سمي في الثمانينات بـ “مدرسة القيروان” المتصوفة (الوهايبي، القهواجي، الغزي…) إلى هذا الشاعر المتفرّد حقا في وقتنا المتخم بالمتشابهات: عبد الرحمن الكبلوطي…

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

الكبلوطي اقتلع مكانه في ستار الكعبة القيروانية على ازدحامها بالحُجّاج والمنشدين، سالكا إلى ذلك دربا قلّ أن سلكه غيره… فهو شاعر له نبرة خصوصية تعرفها من دون أن تتعب في اسم صاحبها، وقد نعود يوما إلى ذلك… ولكنك وأنت منشغل بأشعاره الرامية أغصانها على الخمسين سنة الأخيرة (ولا أكبّره) يفاجئك بين فينة وأخرى بمصنّف غير شعري وإن كان على وشيجة بالشعر… إنه التوثيق والتحقيق لشعراء آخرين قد تكون أغفلتهم الذاكرات، أو تغافلت عن زوايا من عطائهم، فيما أضاءت بقوة أركانا أخرى لنفس الأعلام…

سبق للكبلوطي أن أثرى المدوّنة البحثية بمؤلفات عن امرئ القيس والشعر الفرنسي وأنطولوجيا عن شعراء القيروان عامة، ثم بتحقيق دواوين لمحمد الفائز القيرواني والشاذلي عطا الله… وهاهو أخيرا يصدر عن دار الأمينة للنشر والتوزيع، كتابه الجديد “قصائد الشاعر الرائد صالح سويسي القيرواني”… وهو أيضا ثمرة جمع وتحقيق وتبويب مضنية، ولكن حصيلتها إنصاف لا ريب فيه لشاعر ومصلح يجهله كثيرون، ويظلم مكانته كثيرون أيضا…

يقع الكتاب في 259 صفحة (بما فيها الفهارس والحواشي) من القطع المتوسط وطباعة جيدة الحرف والورق، ويتحلى غلافه الأول بصورة المحتفى به ، فيما يقدم غلافه الأخير نبذة عن المحقق وسوابقه شعرا ونثرا ودراسة ومسرحا… ولكن الأهمّ من هذا حرص محقق القصائد على مقروئيتها شكلا وموضوعا…

فبعد مقدمة تترجم للشاعر وحياته ومؤلفاته… وتفسر وجاهة اختياره وتحدد تموضعه في الحركة الأدبية والسياسية والإعلامية مطلع القرن العشرين… ينحو المحقق إلى إعطاء فكرة عن تنوّع القصائد وفتح شهية القارئ لتناولها قصيدة قصيدة حين يأتي دورها… كما يبيّن طريقة اشتغاله على مادة شعرية متناثرة بين الصحف القديمة ومصنفات دارسين سابقين ونسخة أولى من “ديوان” لقصائد الرجل كانت مشوّشة حافلة بالنقائص … دون أن ينسى سواء عند عرض هذه القصائد أو انتقاء أبيات منها في المقدمة، أن يشير كعادته إلى البحر العروضي الذي اتزنت به، عائدا دون قصد إلى هويته التعليمية الصارمة، وغامزا ـ داريا أو دون أن يدري ـ من قناة بعض شعراء الزمن الأخير المختلة أوزانهم كما تختلّ لغتهم وقرائحهم…

بعد جمع المتن الشعري وتصحيح أخطائه، عمد المحقق إلى تبويب هذه القصائد حسب أغراضها، ووضع لكل باب عنوانا مسجوعا كأنه لكتاب من عصر خال، وهو أقرب لشخصية الكبلوطي ظرفا وبلاغة… وإليكها:

ـ حب القيروان الأبية… وأجواؤها الروحانية

ـ خدمة الأوطان بالعلم والإيمان

ـ مجتمع الخطوب ومستودع العيوب

ـ خواطر وتأملات من تجارب الحياة

ـ حسن التوجيه في رحلات الترفيه

ـ أثر الثقافة ودور الصحافة

ـ فكاهات ومداعبات في المجالس والمراسلات

ـ المدح والتهاني مع أخلص الأماني

ـ قذائف الأهاجي، من مِنها الناحي؟

ـ رثاء الأصدقاء ومناقب العظماء

إلخ

وبين معابر هذه القصائد وأبواب عرضها، تجد نفسك مجايلا للشاعر مجالسا له، معاشرا للناس والخطوب ممن ومما عاشر وعاش… فقد عمّر صالح السويسي بين سنتي 1871 و1941، سبعين حولا لم يسأمها كما فعل زهير بثمانينه، واخترق في زمنه أحداثا امتزج بها أو سمع عنها أو رمت بظلالها على بلده ووجدانه ولو بعد أمد… ففي سنة ولادته انهزمت فرنسا أمام بيسمارك، وما عتمت بعد عشر سنوات أن استعادت سطوتها ولكن جنوبا، حيث احتلت القطر التونسي الذي ظل عصيّا عليها طيلة نصف قرن من استقرارها بالجزائر قبل ذلك… كما تخللت الفترة حربان عالميتان، ومؤتمر صلح وثورة مصرية أدت إلى تحرر نسبي… في الأثناء أيضا نشأت ثم تفجّرت حركة وطنية ونقابية وثقافية تونسية محتدمة… ورافق ذلك انفتاح نوافذ وروافد، ومحاولات نهضة وإصلاح، ومدارس فكر وأدب وفنون… وظهرت أسماء محمد عبده والشابي وقاسم امين والطاهر الحداد وطه حسين وحافظ وشوقي … وهبت رياح أدب المهجر وأبوللو وتحت السور والرشيدية وزخم الصحافة والمسرح لما بين الحربين…

ولد السويسي كما ذكرنا سنة 1871 في مدينة القيروان، منارة شمال إفريقيا وحاضرة بني الأغلب، وأرض “حصباؤها درّ ومسكٌ ترابها” وأضاف قائلا فيها:

بلاد لها عزّي وغاية مطلبي

ونفسي لها تصبو على منتهى البعد (46)

أو:

يا جنة الخلد بل يا قيروان ومن

حبي لها فاق عن وصف وتبيين (62)

وجال في ثناياها معيدا تذكارات مجد ومتنهدا على عهود ذهبية ابتعدت، فكان هذا التصوير الأندلسي الروح، للفسقية القيروانية:

وعشية راقت ببركة أغلب

حيث المياه جرت بأحسن منظر (48)

هذا عن المكان… أما الزمان فهو فترة ظلام وجهل وفقر وتخلف، زاد عليها الاحتلال الأجنبي سوءا على سوء… فإذا بالسيد يُستعبد، وبالعزيز يُذل:

فالله قد جر الشقاء لذا البلد

ولكم سلاه المجد والعيش الرغد (92)

ما أبعدنا عن رغيد عيش غابر، أما في تلك الأيام فقد:

تغيّرت البلاد ومَن عليها

ودون رجوعها خرط القتاد

تلبّد في أفاق الفكر جهل

فأوجب كل شرّ في العباد (72)

ويفصّل شاعرنا مظاهر البؤس التي رانت على البلاد والتي منها أيضا بغي المترفين وتفاقم الظلم المؤذن بخراب العمران، على حد تعبير ابن خلدون:

يجور الظالمون وبعد حين

ويا ويل الذي في الكون جارا (74)

ينذرهم ويعيد عليهم ما قيل في فراعين الماضي:

قل للألى بغرور الملك قد فتنوا:

آثار من غبروا درس إلى الجيل (54)

وقت فسدت فيه الرعية بعد الراعي:

سرت المطامع في الورى

فجميع اهل الارض أشعب (103)

شعب فيه فاسدون وطمّاعون، ولكن فيه كادحون شرفاء، فإذا به يهتمّ بوضعهم على غرار ما فعله معاصراه الحامي والحداد، فهاهو مع عمال مات منهم من مات في حريق بمصنع:

وقد كان قبل الصبح يذهب باكرا

ليكسب أجرا قدر ما يحمل الظهر…

مضى عنهمُ صبحا وعاد إليهمِ

حريقا، فكيف اليوم يُمتلك الصبر (93)

ولكنه يلتفت إلى النخبة فيجد تذبذبا عكس الرواية الرسمية التي سادت بعد عقود:

فالشعب ينظر حائرا

لم يدر للزعماء مذهب (103)

تماما كما خاب ظنه في رجال الدين:

خطباء هذا العصر خطب في الورى

ووجودهم ضرب من النكبات

لا لوم إن تبدو المساجد فرّغا

والعذر بان لتارك الصلوات (90)

فإذا به يهبّ في أبناء البلاد خطيبا بدوره:

يا أهل تونس قومي استدركوا رمقا

من عزكم قد أراه اليوم منقلبا

هيا ادفعوا عنكمُ دهماء مظلمة

سحابها أرعدت ما أرسلت صببا (69)

الواقع نفسه كان يمر به ما جاورنا من ديار بني يعرب، وكذا الدعوة إلى نهوض بدأت بوادره هنا وهناك:

ما آن أن تنهضي يا أمة العرب؟ (70)

وفعلا فقد أطلّت بشائر إصلاح وتيار تنوير حمل رايته مصلحون كبار منهم الشيخ المصري محمد عبده، وقد عبر السويسي عن عرفانه لهذا العلَم العالم، وقال محزونا حين بلغه خبر وفاته:

والعلم منذعر لموت إمامه

وتصدعت مصر البلاد وهنده (194)

ويبدو أن دعوات شاعرنا للإصلاح قد ألّبت عليه أكثر من مؤلّب:

فكم خائن تحت الخفا يتستّر

وفي صحف الأعداء دوما يحرر (76)

يحررون في صحافة العدوّ، وأيضا في تقارير وشاية إلى سلطة المستعمر، وما لبث ذلك أن رمى به سنة 1897 في دياجير العقوبة والمنفى إلى الجنوب التونسي:

فكم فوّقوا نحوي سهاما من الأذى

وصاغوا من الأقوال كل مفنّد

رموني إلى الأعدا بكل سعاية

وصرت عن الخلان أشهر مُبعد* (45)

إبعاد زجري وتغريبة شقاء دونما شك، إلا أن المنفى يخفّ لظاه مع حفاوة توزر وأهل الجريد بضيفهم القيرواني، حفاوة بلسمت بعضا من جراحه وتركت فيه أثرا طيبا:

تجردت في ارض الجريد عن الضنى

وعافية ألبستُ قد حلها الركب

بها الهمم القعساء والفخر والأُلى

نموذجا في توزر صانها الرب (127)

لعلها نوع من التضامن الوطني يتجاوز الأشخاص إلى المصير المشترك، وها أن شاعرنا يَنشُد حب الناس فينشد:

انا شاعر كالطير حل بأرضكم

أغنّي على الأغصان في وضح الفجر

أريد التقاط الحَبّ بالحُب فيكمُ

فان لم أجد حُبّا رجعتُ إلى وكري (96)

ويختم بَوْحه باستشراف نهاية للطغاة شبيهة بوعيد الشابي في “حذار”، ولعلها نفس روح النبوّة الثائرة ترى بعين الشعر ما لا تدركه عيون الساسة:

أرى تحت الرماد وميض جمر

ويوشك أن يصير إلى اتقاد (73)

أما من حيث “التقنية” الشعرية، فيمكن أن نقول إن السويسي خزّاف متنوع الصنعة مشتغل على صلصال القصيدة في مجمل أغراضها، من الرثاء إلى الحماسة كما رأينا، إلى الهجاء وهو فيه جريريّ الإيلام:

يا ايها الاعور المنحوس طالعه

ابشر باخذ شديد البطش مقتدر (هجاء 189)

يعني قذفا وتهديدا، لم يكن سهلا هذا الرجل ! ومن الهجاء ينقلب صاحبنا إلى المدح، وهل خير من الرسول الأكرم مستأهلا لهذا:

يا (مصطفى) أنا في جمالك عاشق

ولقد تركت هوى الذي لا ينفع (50)

عشق واهتداء أيضا:

فكم ضل الذي قد تاه عشقا

ومن يهوى الرسولَ فلا يضلّ (52)

ولعل هذا الضرب من المديح النبوي أكرم وأسلم عاقبة من غيره:

مدحنا اناسا لا مروءة عندهم

وفعلهم من فعل ابليس اشنع (114)

عشق النبيّ، وأيضا عشق الجمال كأيّ شاعر، وهاهو صاحبنا في إحدى الغزليات:

قلت يا ربة الجمال انعطافا

فالغواني من طبعهن السخاء (219)

قبس من الشوقيات؟ نعم وهو معترف بذلك ومؤكد حبه لأمير القافية، ولكن ذلك لم يمنعه من صوغ رقائق أخرى تمس بعذوبتها الوجدان:

ارى الحب منقوشا على كل صفحة

من الكون حتى في النبات وفي التُرب

تعانُق أشجار وتغريد طائر

وتقبيل اوراق وزهر مع العشب

…. وفي جذب انواع الحديد لبعضه

بقوة تاثير غرام بلا ريب (221)

بل ويجنح إلى الوصف الحسّي ويتفنن في ذلك منتهجا منهج الموشح الأندلسي أو ما يقترب منه:

تلك العيون السود

حرب على الأُسود

وانظر الى الخدود

شقائق النعمان (224)

كما أن شاعرنا اعترته أحيانا حالات وجودية، فإذا بقصيدته تنضو فيلسوفا معرّيّا متأملا:

عيش ونعش معدّ

لنقل تلك الرفات (105)

ويختزل معاناته الطويلة بأسلوب مهجري:

قاسيت في هذي الدنا

كل العنا

ومآل جسمي للفنا

يوم الرحيل (107)

…وجبراني حينا آخر، ألم يصدع صاحب “العواصف” ذات يأس من حضارة مصطنعة (باطلة هي المدنيّة وكل شيء فيها)؟ كذا فعل السويسي القيرواني، ولكن بأكثر تجريحا، في قوله:

كل تمدين تراه

زخرفا من صنع وَبْش (113)

وينزاح التعبير حينا آخر إلى ألسنة الحيوان وقصص الغاب الآدمي في حقيقته:

فجاءت الطيور للحمائم

تشكو إليها فعل ذاك الظالم (81)

وحينا ثالثا إلى توظيف ديكورات ألف ليلة وليلة:

فطار ذاك القصر في الفضاء

وصار ذاك الجمع في هباء (84)

إنها النهايات التي عرفتها كل الممالك الجائرة، أكانت من أهل البلد أو من الدخلاء عليه، ولكن ليس ألطف منها ما ينتهي إليه شاعر بعد رحلة عمر:

فلا يكسب الشعر صاع شعير

فرحمة ربي على الشاعر (110)

رحم الله هذا الشاعر العتيّ الذي لم نفِه هنا كل حقه وهو الذي كتب في هذه الأغراض كما كتب في غيرها، وقال سخرية أيضا وفكاهة وصحافة وترسّلا ووصف مدن وطبائع ناس، وملأ الدنيا في زمنه كما أقفرت منه في أزماننا وذاكراتنا… وأطالت القدرة عمر صديقنا أستاذ الشعر والنثر عبد الرحمن الكبلوطي حتى يضيء أمامنا مزيدا من الدروب التي جهلناها أو التبست علينا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*بعد تعديل من المحقق، تلافيا لخطإ عروضي في أصل النص

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version