إعلامنا مِن حمار للركوب … إلى إسطبل بحراسة “الهايكا”
نشرت
قبل 3 سنوات
في
مصائب الدنيا عديدة، و لعل من ألدّها عندنا ما يسمى بالهيئات المستقلة … من هيئة الانتخابات التي إن أفلحت في شيء فقد نجحت في تسويق التزوير و الفساد و توزيع الأدوار الأحلك في تاريخ تونس، ملفوفة كلها بلافتة “انتخابات نزيهة و شفّافة” … إلى هيئة الحقيقة و الكرامة التي لم نفهم هل هي “تولك شو” على غرار فرّغ قلبك، أم قباضة مالية، أم محكمة موازية لتلك التي في باب بنات … إلى هيئات أخرى لن نطيل فيها و لكن نقتصر منها على ذات الاسم العريض الطويل و الذي نختصره فرنسيّا في كلمة “هايكا” …
هيئة الإعلام السمعي البصري هذه، أوّلا منذ أن تركّبت و نحن نسمع بقضاة و محامين و أساتذة و مهندسين و عدول منفذين وعدول إشهاد و لا أدري من … كلهم يريدون تمثيلهم فيها و جميعهم و جميع غيرهم نالوا ذلك … و تدخلت كذلك محاصصات الأحزاب و النقابات المهنية و خوماضة المجتمع المدني المتراوحة من المتحرر جدّا إلى المربّط جدّا … كل القوم يريدون مقعدا في تلك الهيئة التي من كثرة ما تزاحموا على بابها انخلع الباب و تلاشى بين الأرجل … و حين أصلحوه و أعادوه إلى مكانه و أداروا العظْمة، انغلقت الفردتان على كل المهن التي بقيت بالداخل … و بقي بالخارج على الرصيف، الصحفيون !
و بعد ذلك باشرت هذه الهيئة عملها … و من يومها لم نسمع سوى عراك و تلاكم و تلاطم، عقبت ذلك استقالات أو إقالات أو تصفيات … و انتقل ذلك إلى الخارج حيث بلاتوهات الإذاعات كلّ يسبّ و كل يقشتل … الذي لم يمنحوه رخصة، و الذي حجروا عليه، و الذي منعوه من الإعادة، و الذي ضربوه بخطيّة، و الذي “زدموا” عليه بالقوة العامة و قالوا له (قشّك و على برّة) … و كان ذلك يتمّ بمباركة السلطة التي تلعب على الحبال حسب رأس الزبون كما يقول الفرنسيس … فإذا كنت من أقارب السلطة، لك أن تشتم اللجمي و السنوسي ـ شتما مقذعا ـ حتى إلى يوم غد … أما إذا كانت لك معها مشكلة، فهي تنتصر للهايكا و تسخّر لها ضدّك الرجال و العتاد و السلاح الناري لو لزم …
لا علينا … تاهت الهايكا و تهنا معها في ترتيبات إسناد الباتيندات و الذبذبات و هذا في حد ذاته موضوع طويل لا يختلف عن إسناد رخص التاكسي و باقي التراخيص التي ترعرع بها الفساد التونسي الحر الأصيل … و تاهت ثانية و تهنا معها في كلمة قالها مقدم برنامج أو صورة “زرف” بها مخرج أو غمزة طرأت على عين أحد الضيوف … و في أثناء ذلك أعيدت القسمة كم من مرة، و المحاصصة ألف كرّة، و دائما هناك قوق و نقار و ريش متطاير و فرّوج مقذوف من النافذة بين حين و آخر …
ضاع وقت كثير … كان يمكن تخصيصه لإلزام كل مؤسسة بخطّ تحرير و هيئة داخلية تفرض احترام ذلك الخطّ … و كان يمكن تخصيصه لمقاومة هذه الفوضى اللغوية التي لا نجدها في فرنسا أو أنكلترا أو إيطاليا أو مالطة العورة … لغة إذاعاتنا ـ بما فيها الوطنية الرسمية، بما فيها الإذاعة الثقافية ـ صارت “أكلوني البراغيث” أفصح منها و أنقى و أرقى … لغة شارع؟ بل أشنع من لغة الشارع، بينما المفروض أنكم تتوجهون لملايين الناس، و بخطاب من الواجب أن يكون محترما في الشكل و الموضوع … لغة شباب؟ بالعكس فشبابنا على علاّته، أثقف من كلامكم المكسّر و تربيتكم المعدومة … عناوين برامجكم استلاب و ضعف شخصية و استعمار جديد لن يعترف بكم كبشر و لو بُستم ساقه … و يبدو أنكم تفهمون في الحداثة كما تفهم جارتنا في السمفونية الخامسة …
كان يمكن تخصيص ذلك أساسا في شروط الانتماء إلى مؤسسة صحفية … معروف أن وسائل إعلامنا مغزوّة بالعوامّ و المشرّدين و ضحايا التسرّب المدرسي منذ عقود … لذلك عمّت لدينا صحافة الثقافة المتوسطة و اللغة الركيكة و الذمم السهلة الشراء و بأرخص مقابل … و لم نقدر على إيصال صوت بلادنا و لا ثقافتها و لا حتى عناوين تاريخها و لا أيّ شيء عنها خارج حدودنا … عجزنا عن ذلك حتى في زمن الفضائيات العابرة للحدود و المفتوح أمامها مجال البلاد المغاربية و العربية و المتوسطية و الإفريقية … و عندهم ألف حق عندما لا ينتبهون إلينا، فلمن تريدون لهم أن يقرؤوا أو يستمعوا و على ماذا سيتفرّجون؟
و لكن في السنين الأخيرة، غار الجرح بانتشار ظاهرة من أخطر ما يكون … و تتمثل في اجتياح أصحاب المهن الأخرى (غناء، تمثيل، مزود، محاماة، مهن رياضية …) و بعض الذين لا مهنة لهم ـ أو لهنّ ـ أصلا، مقرّات إذاعاتنا و تلفزاتنا … لا كضيوف عابرين أو كمارّة يعطون رأيهم “بالواقفة” في شارع بورقيبة، بل كمعلّقين قارّين و مقدمين منتظمين تراهم و تسمعهم كل أسبوع و حتى كل يوم … كل من يفشل في ميدانه، كل من تكسد سوق عمله، كل من يجد بعض التعب في تحصيل قوته، كل من تنسحب منه الأضواء و يبحث عن فرصة ثانية للظهور … جميع هذا الرهط يبذل المساعي و يوظّف العلاقات و يستغلّ المكان المباح، ليهجم على الغنيمة و يتحوّل في ثوان إلى “إعلامي” و زميل لك بالقوة و الذراع … أيّ زميل؟ بل هو مَن أصبح صاحب الدار و أنت الذي انضممت إلى طابور الغرباء و الدخلاء …
يستفزّك كلام أحدهم فيكون مثلا مدرّب كرة فاشلا في كل محطاته و لكن يجد خبزته المخبوزة في تلفزاتنا الخيرية … يتربّع فيها كهارون الرشيد و عندما يسألونه يوما متى يعود لعمله الأصلي في الملاعب يجيبهم: “لا، هكة أحسن لي” … طبعا يا بابا … أو تكون محامية استنجد بها أحد مديري القنوات لإخراجه من السجن … و كمكافأة لها، صيّرها صحفية بكامل الحقوق و الشروط … فاستطابت المقام و أغلقت مكتبها، و من يومها ودّعت القضايا و المحاكم و روب المحاماة … أو يكون مغنّيا دمامة وجهه و قبح سلوكه و لسانه أشهر من أغانيه، جرّب كل شيء و فشل في كل شيء و تعلّقت به قضايا تحيّل و تحرّش، فينتشله بعض أدعياء التقديم و يضعه جنبه كالتعويذة … يطول به الوقت و يأتي موسم تجديد الشبكات، فإذا به يخرج في الإذاعات مصرّحا بأنه “يدرس” العروض التي جاءته … و طبعا تلك العروض ليست للمشاركة في أيام قرطاج الموسيقية … بل صار بعضهم يتحدث عن “ميركاتو” لتوزيع الكعكة بين أفراد هذه العصابة المنتحلة، و الآكلة البرّ و البحر …
عيّنات من هؤلاء، كرّهتني أوّلا في مناظرهم بعد أن كنّا نحترم بعض ما قدّموه في فنّهم الأصلي … و عيّفتني في مهنهم التي جاؤوا منها كالمغول للسطو على مهنة غيرهم … و تزداد النذالة رسوخا، حين يستغلّ قسم من هؤلاء نجوميتهم الجديدة (كأشباه إعلاميين) في تلميع نجوميتهم القديمة الآفلة … فترى منهم مثلا، من يَبِـيضون عملا مسرحيا تافها و يروّجون له في موقعهم التلفزي، و تتم استضافتهم بتلك الصفة و الدعاية لهم (و أحيانا يكون المنشط مشتركا في ذلك العمل و مداخيله) و تحقق “المسرحية” مداخيل بتأثير من كل هذا … و يصبح السيد أمير المسرح و الصحافة في آن واحد … يا سلام …
كل هذا على حساب عشرات الشباب الصحفيين، و حتى مَن هم أقلّ شبابا و لكنهم أفنوا نصف العمر في خدمة صاحبة الجلالة بما أتيح لهم … فيهم من هجّ إلى الخليج، و فيهم من يشتغل جنديّ خفاء ينزل إلى الشارع و يشقى لإعداد مادة يتبجّح بها منشطون أصفار فيقبضون الملايين و تنوبه ملاليم لا تسدّ الرمق … و فيهم من يموت جوعا و مرضا و نسيانا … و بالمناسبة كم يوجع قلبي مصير موهوب محترف كبير كجمال الكرماوي، تمّ إقصاؤه و استبعاد أمثاله من أهل المهنة … ليحلّ محلّهم الطفيليّون و أنصاف الجهلة و المخنّثون و الداعرات و خادمات المنازل، لو كانت الشمس في مدارها …
هذه هي “الهايكا” و هذا عصرها و هذا عصير ثمارها و حصاد الذين أتوا بها … و يقيني أنها إن لم تجد الحلّ، أو لم تنحلّ، أو لم تغرب نهائيا عن الوجوه، فسيتولّى أهل مهنتنا المغتصبة الدفاع عنها بالمخلب و الناب … بل بالسكّين و البندقية و المدفع الرشّاش، و سيكونون على ألف حق …