فكّرت طويلا هذا الأسبوع قبل أن أكتب … فما فائدة الكلام أمام الهيجان الشعبي الحاليّ و أمام ما نعيشه من تشنّج و توتّر على جميع المستويات… و لكن و أمام ما شاهدته من فيديوهات لا إنسانيّة و ما تابعته من صيحات فزع و ما طالعته من كتابات و تعاليق إقصائية متطرّفة، قررت أنّي نعبّر و ما هي إلا بعض ملاحظات أكتبها و أمضي …
ملفّ الأفارقة من جنوب الصّحراء (الإجصيون كما يطلق عليهم) هو ملف متشابك يتداخل فيه الأمني مع الإنساني و الاقتصادي مع الاجتماعي و الحقوقي مع الثقافي و لابدّ من مراعاة هده الجوانب في التعامل معه
إنّ الحرص على الأمن الوطني و سيادة البلاد و احترام قوانينها من البديهيات التي لا جدال فيها و لا يمكن لأحد أن يرفضها، و لكنّ ذلك يمكن أن يتحقق دون التنكيل بالآخرين و تعريضهم للخطر … و قد كان بإمكان وزارة الدّاخلية و مختلف المصالح المعنيّة تطبيق القوانين و معالجة الأمر على الميدان و التعامل مع الإجصيين بطريقة تدريجية دون بروباغندا و إثارة للرّأي العامّ و دون انتهاك لكرامتهم، و ذلك بالتنبيه على من لا يملكون وثائق قانونيّة منهم و إمهالهم فترة معقولة لتسوية وضعياتهم و تيسير الإجراءات الإداريّة عليهم للتسريع في ذلك، و التخاطب مع سفراء بلدانهم بطريقة دبلوماسية تضمن تدخّلهم و تعاونهم لحلّ الأزمة و تحفظ لتونس حقوقها و صورتها أمام الرّأي العام الدّولي .
و إنّ محاربة شبكات الاتجار بالبشر أمر ضروري دفاعا عن البلاد من ناحية و حماية لإنسانية الإنسان من ناحية أخرى . و هي شبكات دولية ممتدة و ظاهرة عالمية منتشرة تحتاج تعاونا و حشدا أمميا في أجواء أكثر هدوءا … و كان بإمكان تونس التصرّف بطريقة براغماتية تحمي حقوقها و تضمن مصالحها، و ذلك باستعمال هذه الظاهرة كورقة ضغط على البلدان الأوروبية التي تريد منا لعب دور شرطي البحر الأبيض المتوسط و حارس حدوده الجنوبية … و لكنّ التشنّج الشعبي و الرّسمي جعل صورتنا تهتزّ لدى الأمم الأخرى و صرنا رسميّا بلدا عنصريّا ينتهك حقوق الإنسان
بلاغ رئيس الجمهوريّة بداية هذا الأسبوع – و إن تراجع عنه نسبيّا في لقائه منذ يومين بوزير الدّاخلية – ضاعف من النزعة العنصرية لدى الشعب التونسي و ساهم في إذكاء حملات التجييش ضدّ الإجصيين و أضفى مشروعية على تصرّفات البعض و همجيتهم، فاعتدوا على الأجانب و أطردوهم من بيوتهم ليلا وسلبوهم أموالهم و أتلفوا أمتعتهم و أحرقوها أو افتكوها، و اعتدوا عليهم في وسائل النقل العمومي ماديا و لفظيا حتى من كان منهم يحمل أوراق إقامة قانونية – بل إنّ الاعتداءات طالت حتى أصحاب البشرة السوداء من المواطنين- و تمّ التعامل معهم جميعا على أساس أنّهم مجرمون يقتلون و يسرقون و يعتدون على السكان، و يرغبون في افتكاك بلادنا و تغيير ” تركيبتنا الديموغرافيّة ” و ثوابتنا و عاداتنا و تقاليدنا، و وُضِعوا جميع في نفس السلّة و أُخِذ الجميع بجريرة البعض و صار العقاب جماعيّا لتصرّفات فرديّة .. و كأنّ المواطنين ملائكة ليس فيهم من يعتدي و يسرق و يغتصب و يقتل …
أ لم يفكر الرئيس قبل إصدار بلاغه في وضع الشركات و المؤسسات التونسية في الدول الإفريقية ؟ أ لم يفكّر في أمن جاليتنا من عمّال و خبراء في البلدان الإفريقية و في ردّة فعل هذه البلدان و شعوبها؟ أ لم يفكّر في صورة تونس و التونسيين في العالم ؟ أ لم يتوقع أن تندد البلدان الإفريقية بما ورد في بلاغه ؟
تونس التي كانت تحظى بسمعة ممتازة في مجالها الإفريقي نظرا إلى دبلوماسيتها الناجحة و دفاعها عن قضايا التحرر، و كفاءات أبنائها و سمعة تعليمها و جامعاتها التي تخرّج منها عديد الأفارقة الذين يحتلون اليوم مناصب مهمة و سيادية في بلدانهم، و يعترفون بجميل تونس و يدافعون عنها و يعتبرون سفراء غير رسميين يحسنون الترويج لها و لصورتها… و في الوقت الذي يطلب فيه كلّ العالم ودّ إفريقيا باعتبارها سوقا مازالت قادرة على التّطوّر و تحقيق النّموّ، و تتصارع الدّول و تتسابق على وضع استثماراتها في البلدان الإفريقية، صارت تونس اليوم نموذجا سيّئا و محلّ تنديد من بلدان الجوار بدل أن نعمل على توطيد علاقاتنا بهده الدّول و على توظيف وجود أبنائها لمصلحتنا، وأن نسوي وضعياتهم دون لغط أو إثارة للرّأي العام
أ لم يفكّر الرئيس و باقي المسؤولين في وضع المهاجرين التونسيين غير الشرعيين في أوروبا؟ أ لم يغادر عشرات الآلاف في السّنة الماضية وحدها نحو صربيا و السواحل الإيطاليّة؟ أ نرضى أن يعامَل أبناؤنا بنفس الكيفيّة و أن يقع استغلالهم و تجييش الرّأي العامّ في بلدان إقامتهم ضدّهم؟ أ لا نخشى عليهم من صعود الأحزاب اليمينية المتطرّفة و من التضييقات التي تسلّط عليهم؟ أ لم يرتكب أبناؤنا جرائم في حق الأوروبيين في بلدان إقامتهم؟ هل نرضى بأن يوصم كلّ مهاجرينا بالإجرام أو الإرهاب و يتحمّلون ذنبا لا يد لهم فيه؟ أنرضى أن يطردوا من أعمالهم أو يلقى بهم إلى الشارع كردّة فعل على تنامي أعدادهم أو أخطاء بعضهم ؟
حسب الأرقام الرسمية المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2020، عدد الأجانب في بلادنا لم يبلغ 60 ألف و عدد الأفارقة من دول جنوب الصحراء يقدّر بـ 21 ألفا و 500 بين مقيمين شرعيين و غير شرعيين .. و حتى و إن تضاعف العدد في السنتين الأخيرتين بسبب تنامي ظاهرة الهجرة و بسبب الظروف الإقليمية و السّياسية فإنّ الرقم لا يمكن أن يشكّل خطورة بدرجة ما تمت إثارته من جدل … و هو نفس العدد تقريبا للمقيمين من دول المغرب العربي فلماذا لم يتحرّك الشعب ضدّ باقي الجنسيات من عرب و أجانب؟ أم لأنّ لونهم غير مميّز و لا يمكن التفطن إليهم و إلى أعدادهم بسهولة ؟
في مثل هذه الأيام من السنة المنقضية كان الشباب التونسي مستعدّا لاستقبال الروسيّات والأوكرانيّات الهاربات من الحرب .. نفس الشعب كان منذ أيام قليلة مستعدّا أيضا لاستقبال السّوريات و التركيات لإيوائهنّ بعد أن هدم الزلزال بيوتهنّ … نفس هذا الشعب أيضا تثور ثائرته اليوم ضدّ الأفارقة من جنوب الصّحراء و لا أدري كيف يمكن أن يفسّر علماء النّفس و الاجتماع هذه الازدواجية في الخطاب و التعامل
و لكنّ الأكيد أننا شعب يقطر عنصريّة و ما يحصل هذه الأيام ليس اكتشافا بل تأكيد لحقيقة مرّة .. في البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه سكّان عاصمة من العواصم الكبرى أو ضاحية من الضواحي الصينية و لا تتجاوز مساحته مقاطعة من مقاطعات بعض البلدان
نقطر عنصريّة في بعضنا البعض و بين جهاتنا فلا نقبل أن يتزوّج ابن المدينة من ابنة الرّيف و لا ابن الجنوب من ابنة الشمال و لا ابنة السّاحل من ابن الدّاخل و لا ابن العرش الفلاني من ابنة العرش الفلتاني … و أحيانا يرفضون حتى تشغيلهم أو تأجير منازلهم لهم و إلاّ فمن أطلق عبارات من نوع كاجيبي و زيرويت و جبري و قعر و نزوح و من وراء البلايك و من أطلق نعوتا من نوع الساحلي بيه و الصفاقسي عليه و الجربي كذا و الجماعة هاذوكم حاشى دين الإسلام (أو حاشى المحل) و الجماعة الأخرين سرّاق و غيره و غيره .
فإذا كنّا نتصرّف بهذه العقليّة فيما بيننا و نحن أبناء بلد واحد فكيف نستغرب تصرّفاتنا مع أصحاب جنسيات إفريقيا جنوبي القارة؟