جور نار

إلى أين يأخذنا انقلاب قيس سعيد … أم ينقلب قيس على سعيّد؟

نشرت

في

أين نحن ذاهبون بما يأتيه ساكن القصر؟ هل سيأخذنا الحقد إلى ما لم نكن نريده، أم سيغلب العقل والمنطق ساكن قرطاج درءا للأسوأ؟ سيقول البعض ماذا تقول يا هذا وماذا تهذي؟

<strong>محمد الأطرش<strong>

أقول إننا فعلا في نفق مظلم قد لا نخرج منه أبدا، فرئيسنا يعيش أكبر ورطة عرفها في حياته، ولن ينجح في الخروج منها دون أن يحكّم فعلا عقله، وأن يبتعد عمن حوّلوا وجهته إلى أكثر مما كان يريد وينوي…فمن حوّل وجهة رئيسنا يا ترى؟ الإجابة في غاية البساطة، من صفقوا له ومن صرخوا باسمه طويلا هم من حوّلوا وجهة الرئيس إلى دائرة الانتقام والثأر والتصرّف كأنه السلطان أو الإمبراطور الذي يملك نصف البلاد والعباد…

قيس سعيد يعيد نفس الخطأ الذي وقعت فيه معارضة بن علي سنة 2011، فمعارضة بن علي لم تكتف بإصلاح أوضاع البلاد والبحث عن حلول لمشاكلها ومشاغل شعبها بل بحثت عن الانتقام والثأر لنفسها، ولجميع قواعدها من كل من انتموا وخدموا منظومة بورقيبة وبن علي…فجاءت بسهام بن سدرين وفرحات الراجحي وبعض الأغبياء والحمقى أمثال عماد دغيج وريكوبا وعاثوا في البلاد فسادا بمساعدة اتحاد الشغل الذي أطلق العنان لحقده الدفين، وحرّر مبادرة الانتقام لقواعده، من خلال روابط حماية الثورة المزعومة…فسحلت كفاءات البلاد، ووقع طرد أغلب من كانوا يشرفون على أكبر المؤسسات العمومية، وانتقمت من الصفوف الأولى والثانية والثالثة من كفاءات الإدارة التونسية، ثأرا منها ومن انتمائها وعملها مع منظومة بن علي، وجاءت بالصف الرابع والخامس وأهدتهم أغلب المواقع العليا التي لم يحلموا بها سابقا فأعلنوا مقابل ذلك البيعة، والولاء للحاكم الجديد النهضة ومن معها…

 ثم أعلن علي العريض وبمساعدة من الاتحاد حملة واسعة لتسوية وضعيات كل القطاعات فاصبح العامل البسيط متصرفا عاما…والرقيب العادي في المؤسسة الأمنية ملازما والملازم عقيدا، فغرقت ميزانية البلاد في وحل خلاص الأجور، وانتفخت كتلة الأجور إلى أن وصلت سنة 2020 إلى حجم ما كانت عليه ميزانية الدولة سنة 2010… وهكذا سقطت البلاد في نفق لم تخرج منه إلى يومنا هذا…فمنظومة النهضة ومن معها لم يحققوا ولو وعدا واحدا من وعودهم لمن خرجوا آخر سنة 2010 وبداية سنة 2011 على منظومة بن علي…فلم يتغيّر حال العاطلين ولا حال المظلومين، بل ساءت كل أمور البلاد وتدهورت أوضاع كل العباد، فتضاعف عدد العاطلين وغرق الآلاف منهم في المتوسط بعد ان اختاروا الموت هربا من جحيم بلاد احتلها التتار، أما “الطرابلسية” عنوان فساد عهد بن علي كما يسمونهم، فقد دخلوا السجون وافلست مؤسساتهم بعد أن جاء لإدارتها “طرابلسية جدد” ممن لا يفقهون في إدارة شؤون الدولة والمؤسسات..

 أما الاتحاد فقد حرر المبادرة لفروعه الجهوية والمحلية للتصرف في البلاد والعباد كما يحلو لهم وكما يريدون…فاصبح الفساد “مهيكلا” و”منظما” و”مؤطرا” ومعترفا به، وأصبح الاتحاد خلال عهدتي العباسي والطبوبي حاكما بأمره يفعل ما يريد كما يريد حيث يريد …فالاتحاد لم يترك حكومة واحدة لم يساومها ولم يهددها بالإضرابات، وبمقاطعة العودة المدرسية، وبغلق مواقع الإنتاج، فهو من كان وراء كل غلق لمؤسسات الدولة …وهو من كان وراء كل اعتصام أمام مواقع الإنتاج وهو من كان وراء هروب أغلب المستثمرين الأجانب من البلاد إلى دولة شقيقة…

أما النهضة فقد استغلت “باتيندة” التحدّث باسم الله لتطلق العنان لفصائلها المتشدّدة تكفّر الناس وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، كما أنها فتحت المجال واسعا أمام رحلات التسفير إلى سوريا لإسقاط نظام بشار، في محاولة غريبة عجيبة لإعادة مجد الفتوحات الإسلامية …فالتحى نصف الشعب خوفا ونصفه الآخر طمعا وتقرّبا، وبقي بعض الفقراء يقاومون هنا وهناك بعد ان ارتمت أغلب النخب الوطنية في حضن شيخ النهضة…فكبرت النهضة وأصبحت غولا بمساعدة أغبياء اليسار، فاليسار كان أيضا من أكبر أسباب ما تعيشه البلاد اليوم فهو من خرج بعد 14 جانفي مهددا مولولا، ومطالبا بنصب المشانق لكل من انتموا لمنظومة بن علي، وكأنه اكتشف المقابر الجماعية، أو كأنه عاش الإبادة الجماعية فأغلب قيادات اليسار كانت تعمل سرا مع بن علي…فاليسار هو من كان وراء حل الحزب الحاكم، وهو من كان وراء المحاكمات غير الشرعية للعديد من الشخصيات الوطنية، بعضها مات قهرا وبعضها لا يزال يعاني من مخلفات ما عاشه وما عاناه…واليسار هو من كان وراء هجرة أغلب أصوات المنظومة القديمة إلى النهضة في انتخابات 2011 حين فتح الغنوشي بيته داعيا الجميع دخوله …هكذا كان حالنا مع من يسمونها “ثورة”…ثورة الحقد والانتقام والثأر ..

هذا السيناريو الذي عاشته البلاد مع معارضة بن علي نعيشه اليوم بكل تفاصيله مع قيس سعيد فالرجل لم يكن ينوي أول مرّة الاستحواذ الكامل على سلطات البلاد والتحكّم في تفاصيل الدولة، بل كان يريد فقط الثأر نفسه وإستعادة ما افتكّته منه “حكومة المشيشي” سيئة الذكر، فماذا حصل إذن ليصبح قيس سعيد خاطبا لودّ العرش كاملا دون نقصان؟

مباشرة بعد استغلاله لخروج الشعب غضبا من حكومة المشيشي والنهضة ومن معهما وإعلانه وجود خطر داهم ووجوب الانقلاب على المنظومة الحاكمة التي يعتبر هو أحد أهمّ أطرافها بتفعيل الفصل 80 من الدستور، خرجت علينا فرق الانشاد وسلاميات المدح و”الزغراطات” والمئات ممن خرجوا علينا سنة 2011 يطالبون بنصب المشانق، نفس الجوقة التي أهدت الحكم للنهضة سنة 2011 خرجت مباشرة بعد قرار ساكن قرطاج لتدعمه، وتسانده وتصرخ باسمه وتنصبه ملكا على البلاد، هؤلاء لم يكتفوا بــ”القوادة” بل عادوا لصنيعهم القديم الشيطنة وخلق الروايات الخيالية والثأر والانتقام، هؤلاء الذين فشلوا في كل المحطات التي مرّت بها البلاد عادوا طمعا في أن يتصدّق عليهم ساكن قرطاج ببعض الفتات ويشركهم معه في حكم البلاد، فخطابهم اليوم هو خطاب حاقد إلى أبعد الحدود…خطاب تحريضي وخطاب يدعو إلى الانتقام من منظومة بورقيبة وبن علي ومنظومة السنوات العشر ومنظومة 2019 التي يرأسها ساكن قرطاج الحالي…هؤلاء لم يكتفوا بالانقلاب على منظومة حكم المشيشي والنهضة ومن معهما، وهو الأمر الذي قبل به الجميع حتى بعض من كانوا مع المنظومة، وأنا أحد أكثر من طالبوا بإسقاط حكومة المشيشي حين كتبت يوما واحدا قبل انقلاب ساكن قرطاج مقالا في نفس هذه الجريدة عنوانه “هل اصبح المشيشي خطرا على البلاد؟”…

بعض هؤلاء الذي هرولوا إلى دائرة قيس سعيد خدعوه وأوهموه أنه قادر على إخراج البلاد مما هي فيه، وأن كل الوسائل التي بحوزته ستجعله يكسب الرهان بسهولة، فكان أن جاؤوا بقائمة من تقرير عبد الفتاح عمر لرجال أعمال اقترضوا الكثير من الدولة سنوات حكم بن علي، وأوهموه أن استرجاع هذه الأموال من رجال الأعمال سيكفيه عناء التفكير في كيف يخرج البلاد مما هي فيه اقتصاديا…فسقطوا في شرّ أفكارهم الشيطانية فتلك القائمة سوّت وضعياتها ولم تعد صالحة لأي إجراء أو محاسبة…وبعد الخيبة الأولى نصحوه بالعمل على استرداد “الأموال المنهوبة” فبحث في الأمر فلم يجد جوابا يكفيه عناء التفكير في وضع البلاد الاقتصادي …هكذا أوهموا ساكن قرطاج بأنه سيخرج البلاد مما هي فيه ببساطة…لكنهم أوقعوه في الخطأ…فماذا فعل بعد ذلك؟ انطلق في حملات لمقاومة الفساد دون أية دراسة للملفات، فأصبحت كل الأسماء التي يشتبه في فسادها “فايسبوكيا” تحت الإقامة الجبرية ومعرّضة لهتك الأعراض والادعاءات الكاذبة من لدن جوقة التصفيق والمدح والثناء من أغبياء اليسار ومصفقي ساكن قرطاج الذي اساؤوا إليه أكثر مما نفعوه…

بعد أكثر من شهر شعر قيس سعيد بأنه في ورطة كبيرة، لن يخرج منها بالسهولة التي كان يتصورها والتي أوهموه بها…فحكم بلاد تعيش أزمة خانقة لن يكون بالسهولة التي رسمها  بعض الاغبياء ممن امتلأت قلوبهم حقدا على كل خصومهم، وعلى كل من حكم البلاد قبلهم…فقيس سعيد انساق وراء مزاج من هم حوله فاستعدى أغلب مكونات المشهد السياسي، فبقي وحيدا دون سند سياسي غير عشرات الآلاف من المصفقين وحسن الزرقوني الذي أدخل ساكن قرطاج في أحلام قد لا تتحقّق لو واصل على هذا النحو…فالتصفيق لن يوفر موارد رزق للعاطلين ولن ينعش خزينة الدولة ولن يدفع ديون البلاد لمستحقيها ولن يوفر أجور العملة والموظفين…

فماذا سيفعل يا ترى؟ لا شيء غير الهروب إلى الأمام من خلال “لا عودة إلى الوراء” التي أعادها ألف مرّة…فالرجل سيعلن تعليق العمل بالدستور أو الاستغناء عنه تماما، أي نعم الاستغناء عن الدستور الذي وفّر له فرصة الانقلاب دستوريا على رفاقه في المنظومة فهو وإن أنكر ذلك، جزء من هذه المنظومة…وبذلك سيكشف لكل العالم أن ما فعله هو انقلاب كامل الشروط لا غبار للاستثناء فيه…وهذا الانقلاب لن يقبل بالسهولة التي ربما أوهموه بها سواء كان ذلك خارجيا أو داخليا … وكشفه للانقلاب سيتركه فعلا وحيدا في مواجهة أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فكل القوى الأخرى ستتكتل ضدّه لترفض أي دستور سيصاغ في غرف مظلمة من أصدقاء ساكن القصر وهم كثر وبعضهم بدأ فعلا في كتابة القصائد المدحية لمولاهم من خلال ما يكتبونه من مقالات وتدوينات عن القانون وتفاصيل القانون …فهم يخلقون المبررات والحجج ليكون مولاهم على حقّ…وليكون لهم غدا أقرب موقع من مولاهم في أحد قصور الحكم…كما أن الرجل سيعدّل أو سيعدّ قانونا جديدا للانتخابات وسيعلن عن حكومة جديدة أعان الله من سيكون وزيرا أول على رأسها فهو من سَيُحَمِّلهُ ساكن قرطاج مسؤولية كل المصائب التي ستعرفها البلاد اقتصاديا واجتماعيا في قادم الأشهر قبل أن يعلن إقالته…ثم وفي مرحلة أخيرة سيعلن ساكن قرطاج عن موعد للانتخابات التشريعية فماذا لو رفض الجميع دستور مولانا….وما سيفعله مولانا…ماذا لو قاطعوا كل من يقرره مولانا…هل فكّر في أمر كهذا مولانا أم أن من أوهموه أنه المنقذ نسوا أن ينبهوه إلى تبعات كل ما يفعله وما يأتيه؟

خلاصة قولي…كل ما تعيشه البلاد ومنذ أكثر من عشر سنوات يحكمه المزاج والحقد والرغبة في الثأر والانتقام عند البعض منّا…فاليوم وحين نستمع إلى أي خطاب من ساكن قرطاج نشعر بمنسوب مرتفع جدا من الحقد ورغبة جامحة في الانتقام من الجميع…والأحقاد لا تقاوم الفساد أبدا…وما لم نترك المزاج جانبا…ونتخلص من الأحقاد التي تنخر صدورنا فلن نخرج مما نحن فيه…نحن في عين الإعصار، ولا أحد من كبار قومنا تفطّن للخطر الداهم الذي لم يتفطّن له ساكن قرطاج…فكم سيدوم الاعصار يا ترى…وهل ستشرق الشمس بعده أم سيعمّ الظلام…؟؟ وإلى أين يأخذنا انقلاب قيس سعيد، أم ينقلب قيس على قيس؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version