جور نار

إلى من يهمّهم أمر المدرسة التونسية … (ج 2 والأخير)

ما يُمكن الاحتفاظ به في التقرير السنوي الرابع للجمعية التونسية للإعلام والتوجيه

نشرت

في

تحدّثنا في الجزء الأول من هذه الورقة عن أهمّ ما ورد في التقرير السّنوي الرّابع للجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني، في ما يتصل بمحور التوجيه المدرسي وأهم الإشكاليات التي يعاني منها هذا المفترق المدرسي الهام من حيثُ خارطة المسالك والشعب الدراسية والاختلال الحاصل بين هذه المسالك في ما بينها وبين الجهات، وتأثير ذلك على مُخرجات التعليم الثانوي وعلى وُلوج الجامعات بالنسبة إلى الحائزين على شهادة الباكالوريا.

<strong>منصف الخميري<strong>

أما الجزء الثاني والأخير فنُخصّصهُ لمحور التوجيه الجامعي وأهم ما يميّزه كجسر حاسم يؤمّن مرور آلاف التلاميذ سنويّا من مرحلة دقيقة إلى مرحلة أخرى أكثر دقّة، وكآلية يتوزّع بواسطتها هؤلاء على مئات المسارات الأكاديمية في التعليم العالي حسب كل شيء إلا حسب ما يرغبون فيه… إذ يتمّ انتقاؤهم حسب معدّلاتهم وحسب باكالورياتهم وحسب طاقة الاستيعاب المحدّدة سلفا وحسب السنّ أحيانا أو حسب دراسة مواد اختيارية بعينها من عدمها أحيانا أخرى… أمّا انتقاؤهم حسب رغباتهم وما يؤثّث حُلمهم فهو اعتبار لا أهمية له في أذهان من يقومون على هذا المرفق، إلا متى اقترن باشتراطات كميّة تحتسبها التطبيقات الإعلامية بدقة متناهية تصل إلى أربعة أرقام بعد الفاصل !

الملاحظات في هذا الباب عديدة ومتنوعة والمؤاخذات كثيرة والنقائص تتفاقم من سنة إلى أخرى، لكنني سأتوقّف عند أهمّها وحسب ما يقتضيه هذا السّياق التعبيري الضيّق :

أولا :

العائلة التونسية مستعدّة مُكرَهةً لدفع كُلفة طبع دليل التوجيه الجامعي في نسخة ورقيّة… ولكنهم يستميتون في رقمنة ما لا يُرقمن !

يُسجّل بكل أسف في هذا المجال استماتة وزارة التعليم العالي في حجب كُتيّب التوجيه الجامعي، مُكتفية بالنسخة الرقمية دون تقديم أي تفسير مقنع لهذا الإجراء غير الشعبي وغير العادل. وينبع تمسّكنا بالإبقاء على النسخة الورقية انطلاقا من اقتناعنا العميق – ومن خلال معايشتنا اليومية للناجحين الجدد في الباكالوريا وأوليائهم كل سنة – بأن المترشح للتوجيه الجامعي لا يُمكنه حسم اختياراته المصيرية بناءً على مساءلة 220 صفحة مكثّفة، والتدقيق في مئات المسالك الدراسية والمؤسسات الجامعية وآلاف المعلومات والمعطيات والضوابط والملاحظات والإحالات … كل ذلك على شاشة الهاتف الجوّال ! نحن متأكدون أن مضامين مهمة جدا طيّ هذا الدليل يتمّ إهمالها والقفز عليها نتيجة صعوبة الولوج إليها، وفي ذلك هدْرٌ غير مبرّر لفرص ثمينة تُتاح أمام الناجحين في الباكالوريا والحال أن العائلة التونسية مستعدّة تماما لدفع دينار أو دينارين لتسديد كُلفة هذا القنديل غير المُكلف.

ثانيا :

آن أوان القطع مع الاعتباطية ومنطق “ملء الفراغات” في تحديد طاقة استيعاب الشعب الجامعية

نتفهّم تماما إكراه “ضرورة إيجاد مقعد جامعي لكل ناجح في الباكالوريا”، كما نُدرك في نفس الوقت عدم تحكّم وزارة الاستيعاب (أي التعليم العالي) بأعداد من ينجحون في هذه الباكالوريا أو تلك وضرورة توزيعها وفق منطق مَا على المؤسسات الجامعية القائمة في مختلف الجهات… لكن ما نأسف له كمُتابعين عن قرب لهذه المسألة، أن لا تتلازم هذه الإكراهات مع السّعي إلى ضمان حدّ أدنى من الوظيفية والنجاعة في ارتباط بالملمح الخصوصي لكل نوع من أنواع الباكالوريا ومقتضيات التشغيلية والانتظارات المُجتمعية بصورة عامة.

ويمكن أن يتحقّق هذا الانسجام المنظومي النسبي عبر ثلاث آليّات تنسيقيّة رئيسيّة هي :

  • التنسيق مع وزارة التربية للاطلاع بدقّة على مضامين التكوين في التعليم الثانوي (وهو أمر مفقود تماما في اللحظة الراهنة) وضمان التواؤم والاتّساق مع ما ينتظر الناجحين في الباكالوريا من دراسات ومضامين تكوينية في مختلف المسالك التي تُفتح أمامهم جامعيّا.
  • التنسيق مع الهياكل ذات العلاقة مع تشغيل أصحاب الشهائد الجامعية العليا (الوكالة الوطنية للتشغيل والمعهد الوطني للإحصاء ومعهد الدراسات الاستراتيجية والبنوك المموّلة لمشاريع المتخرّجين الشبّان والجمعيات المدنية المشتغلة في المجال…) من أجل أن تكون طاقة الاستيعاب المفتوحة هنا وهناك بمقادير مدروسة تراعي اتجاهات سوق الشغل المحلية والعالمية وكذلك طول بطالة المتخرّجين من تخصّصات معيّنة أصبح يعرفها الجميع.
  • التنسيق مع التكوين المهني الذي يستوعب سنويا عددا من الحائزين على الباكالوريا في مستوى مؤهل تقني سام (وهو رقم تتعدد التساؤلات حول منسوبه لكن لا أحد باستطاعته الإجابة عنها) حتى تُؤخذ هذه الأعداد بعين الاعتبار في تحديد طاقة الاستيعاب النهائية، وحتى لا توصد أبواب بعض المجالات التكوينية بشكل مغلوط لا يراعي العدد الكبير ممّن لا يلتحقون بالتعليم العالي العمومي لأسباب مختلفة.

ثالثا :

الدورة المخصصة لإعادة التوجيه والنّقلة الجامعيتين تحكمها ضوابط مُجحفة وجائرة أحيانا.

توقّف تقرير الجمعية عند بعض الإجراءات التي سنّتها وزارة التعليم العالي خلال السنة الماضية (بشكل يكاد يكون سريّا… مثلما تمّ الترفيع في طاقة استيعاب المعهد الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا أمام شعبة الرياضيات تحت الضغط دون إبلاغ الناجحين بذلك) والتي كان لها كبير الأثر السلبي على شريحة واسعة من الناجحين في الباكالوريا، والذين حاولوا جاهدين تعديل النتائج الأولى للتوجيه الجامعي بما يتناسب أكثر مع طموحاتهم وميولهم الدراسية  أو بما يُقرّبهم أكثر ما يمكن من جهة سكن عائلاتهم دون جدوى.

من هذه الإجراءات :

–  التخلي عن الحق التاريخي للناجحين في الباكالوريا القاضي بتمكينهم من إعادة التوجيه إلى الشعب المطلوبة التي يترشحون إليها بمجموع نقاط يساوي أو يفوق مجموع نقاط آخر موجّه خلال الدورة الرئيسية.

–  الامتناع عن الموافقة على إعادة التوجيه أو النقلة نحو شعب معيّنة لتلاميذ يعيشون أوضاعا صحية أو اجتماعية حادّة جدا رغم موافقة اللجان المختصّة.

–  الحجب غير المبرّر للشعب التي تتطلّب اختبارات وبعض الشعب الأخرى خلال الدورة المخصّصة للنّقل وإعادة التوجيه، بما حرم أعدادا كبيرة من الناجحين في الباكالوريا من الالتحاق بهذه الشعب رغم توفّر شرط مجموع النقاط وشرط “المهارة الخصوصية”.

– التذرّع باعتبارات واهية في قرارات عدم الموافقة على عديد مطالب إعادة التوجيه والنقلة مثل الاكتظاظ الذي تعاني منه بعض المبيتات الجامعية، والحال أن العديد من التلاميذ المعنيين يرغبون في العودة إلى جهاتهم الأصلية بحيث لا يحتاجون فيها إلى الإيواء الجامعي.

–  عدم أخذ عدد المُلتحقين بالتكوين المهني في مستوى مؤهل تقني سام والمهاجرين للدراسة بالخارج (وهم بالآلاف سنويا) بعين الاعتبار، في تحديد طاقة الاستيعاب المتبقية بما جعل عديد المؤسسات الجامعية تبلغ مستوى تعبئتها القصوى بشكل صوري لا يعكس حقيقة نسب الامتلاء التي تشهدها هذه المؤسسات عند انطلاق كل سنة جامعية.

ويظل السّؤال قائما :

متى يقتنعون أننا سنُسائلهم يوما لا محالة : ماذا فعلتم لفائدة أبناء تونس حتى تكونوا جديرين بالامتيازات التي تمتّعتم بها من قوت التونسيين  والكراسي التي جلستم عليها تحت يافطة الارتقاء بخدمات المرفق العام وتيسير سبل الوصول والتميّز، أمام من نجح تحت سياط كُلفة الدروس الخصوصية والعرق والدموع ؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version