تكاد تحولات عميقة تضرب بنية الإقليم، الذي نحيا فيه وترتبط مصائرنا به، دون أن ننتبه بما هو كاف وضروري لما يحدث حولنا ويؤثر في أوضاعنا ومستقبلنا.
<strong>عبد الله السنّاوي<strong>
نحن أمام استدارة استراتيجية متزامنة لقطبين إقليميين كبيرين، إيران وتركيا، تختلف في حساباتها عما جرت عليه الأمور بعد احتلال العراق قبل نحو عقدين. عند سقوط بغداد نشأ فراغ استراتيجي في المشرق العربي ضرب الأمن القومي في صميم أدواره. بطبائع الأمور فإن التاريخ لا يعرف الفراغ. تقدمت إيران وتركيا لملء الفراغ الإقليمي في ذلك البلد العربي الجوهري بطريقتين مختلفتين. كان الدور الإيراني أكثر حضورا عسكريا وسياسيا عبر تحالفات وأدوار خشنة لتأمين ما تعتقد أنه خطر مستقبلي محتمل على أمنها ومصالحها.. اتسع نطاق نفوذها في أكثر من بلد عربي دون أن تؤسس لأوضاع استقرار يعول عليها واستقطبت عداوات لا يستهان بها.
بقوة الحقائق التي قد تستجد بعد الإحياء المرجح للاتفاق النووي فإنها سوف تجد نفسها مدعوة لفتح صفحة جديدة مع العالم العربي فيما يشبه الاستدارة الاستراتيجية. المقاربات سوف تختلف في الأزمات التي تتداخل فيها، دون تخل عن تصورها لمصالحها الأساسية في أية تسويات مقبلة. التهدئة بقدر ما هو متاح وممكن، عنوان إيراني رئيسي مع اللاعبين الإقليميين الآخرين.
تركيا مدخلا ومصر ودول الخليج أساسا دون تخفيض سقف الصراع مع إسرائيل، لأنه إذا ما جرى أي تراجع جوهري في مستوى ذلك الصراع، بمساومة أو أخرى، بضغط أو آخر، تخسر أهم أوراقها الإقليمية بالنظر إلى ما تحوزه القضية الفلسطينية الجريحة من شعبية حقيقية في الشارع العربي. يتعين ــ هنا ــ الالتفات إلى مناورات ومقايضات ربع الساعة الأخيرة قبل إعلان التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي حيث إسرائيل طرف رئيسي فيها بالتحريض المباشر على طهران.
لا توجد نقاط خلاف حقيقية حول الاتفاق نفسه، فنحن أمام عملية إحياء لا عملية إنشاء اتفاق جديد. الخلاف كله حول ما يلحق إحياء الاتفاق من تداعيات، مستقبل المشروع الصاروخي الإيراني وأدوارها الإقليمية وألا يكون بوسعها مستقبلا إنتاج سلاح نووي، حتى إذا تحللت الولايات المتحدة من الاتفاق ومزقته مرة ثانية بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة عام (2024).
تحاول إسرائيل حصد أكبر مكاسب ممكنة بالاستثمار في التراجع الفادح لشعبية الرئيس الأمريكي “جو بايدن” قبل الانتخابات التشريعية المقبلة المرجح أن يخسرها حزبه الديمقراطي. بصورة أو أخرى فإن بايدن المأزوم داخليا والمستنزف استراتيجيا في الحرب الأوكرانية يحتاج إلى إنجاز سياسي خارجي يلتزم ببرنامجه الانتخابي ويرضي بالوقت نفسه الحلفاء الأوروبيين دون أن يبدو أنه قد خضع للإيرانيين في نهاية مفاوضات غير مباشرة على مدى ما يقارب العام.
بالمقابل فإن الإيرانيين حريصون على إثبات أنهم حصدوا تنازلات جوهرية من الولايات المتحدة، والتأكيد على أنهم لم يتوقفوا طويلا أمام تصنيف “الحرس الثورى” في خانة الجماعات الإرهابية، لأنه لم يكن من خطوطهم الحمراء. إنها معركة الصورة، صورة الإدارة الأمريكية قبل انتخابات الخريف وصورة النظام الإيراني في عين شعبه وأنصاره. في أية استدارة استراتيجية متوقعة إثر إحياء الاتفاق النووي تطرح الأسئلة الكبرى نفسها على جدول أعمال الإقليم
ـ أين الأولوية: للداخل الإيراني وتحسين أحواله المعيشية من فوائض النفط والأموال المجمدة أم لرفع منسوب أدوارها الإقليمية؟ بالنظر إلى الاضطرابات الاجتماعية التي تنشأ من وقت لآخر فالأغلب أن تكون الأولوية للداخل المنهك بأثر العقوبات دون تخفيض كبير في مستوى أدوارها الإقليمية.
ـ ما فرص إنهاء المحنة المأساوية اليمنية بتفاهم سعودي إيراني؟ هناك مفاوضات جارية تقول التسريبات إنها توصلت إلى اختراقات يعتد بها دون أن تعلن تفاصيلها انتظارا إلى إحياء الاتفاق النووي.ـ
ـ ما الذي قد يستجد على الساحة السورية التي تطاحنت فوق أراضيها مصالح واستراتيجيات وقوى دولية وإقليمية؟ السؤال السوري بذاته يلفت النظر إلى الطرف الإقليمي المضاد على مسارح صراعاته، اللاعب التركي، الذي أقدم على استدارة استراتيجية لافتة في الأيام الأخيرة بالانفتاح على النظام السورى برعاية روسية وقبول إيراني وغياب عربي. أخذت أنقرة وقتا طويلا لتكتشف أن انخراطها في الأزمة السورية بالتسليح والتدريب والتمويل لجماعات عنف وإرهاب قوض من شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانشقاقات داخل حزبه والانتقادات المتصاعدة من معارضيه.
عندما تقدمت تركيا لملء الفراغ الاستراتيجي بعد سقوط بغداد عبرت عن نفسها بقوة نموذجها في الحكم ومعدلات الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي فى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. في ذلك الوقت قيل على نطاق واسع إن القرن الجديد سوف يكون تركيّا في الشرق الأوسط، غير أنه تقوض بصورة مزرية، الليرة التركية انهارت والبلد كله وجد نفسه مدفوعا بأفكار “العثمانية الجديدة” إلى منزلقات استنزفت دوره الإقليمي واحترامه فى محيطه. باسم حماية الأمن القومي تورط الأتراك إلى حدود بعيدة في المستنقع السوري.. ودخلوا في مواجهات عسكرية لا نهائية مع الأكراد المتمركزين على الحدود المجاورة بالعراق. وباسم العثمانية الجديدة أقحموا أنفسهم في صدامات مفتوحة مع دول عربية كمصر والخليج على خلفية الموقف المتناقض من جماعة “الإخوان المسلمين”.
المراجعات التركية بدأت فعليا بعد فشل الانقلاب العسكري على أردوغان عند منتصف عام (2016). بدأ التحلل التدريجي مع الجماعة والاقتراب الحثيث من مصر والخليج. الآن القواعد تكاد تختلف تماما باستدارة استراتيجية شبه كاملة حيث تتبدى احتمالات لقاء قريب بين الرئيسين التركي والسوري لبدء صفحة جديدة تنتقل بمقتضاها العلاقات من “العداء المطلق” إلى “التفاهم الممكن”. لا يمكن تخيل حل الأزمات المتراكمة بضغطة زر، الجديد والمهم أن المقاربات اختلفت.
بنظرة أوسع فإن تركيا تحاول الاستثمار إلى أبعد نقطة ممكنة في الحرب الأوكرانية. نجحت في التمركز بين القطبين الأمريكي والروسي. بحكم عضويتها في حلف “الناتو” فهي طرف رئيسي مفترض بالحرب الأوكرانية. وبحكم موقعها الجغرافي بالقرب من الحدود الروسية فهي معنية بألا تفلت الأمور إلى حدود تضرب مصالحها وأمن مواطنيها وتمد خطوط التفاهم مع موسكو.
باسم أنها الوسيط الأكثر مقبولية فى أية مفاوضات مقبلة لتسوية الأزمة الأوكرانية أدارت التوازنات المعقدة. نجحت فى إنهاء أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية بمفاوضات جرت فى إسطنبول شاركت فيها الأمم المتحدة. قايضت بالوقت نفسه الناتو على انضمام السويد وفنلندا إلى عضويته بشروط ترى أنها تدخل في صميم أمنها القومى، قاصدة مباشرة الأكراد على حدودها. لم تتردد أن يحضر رئيسها قمة في طهران ضمته إلى الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي بتوقيت متزامن مع القمة الأمريكية العربية في جدة. وظفت التوازنات لتعظيم نفوذها الإقليمي، لكنه ظل معلقا في الهواء إلى حين أن يستقر على أرض في الأزمة السورية بالذات والخصوص.
فيما أبدت أنقرة استعدادها للانفتاح على دمشق وجهت ببراغماتية زائدة رسالة مضادة تطمئن إسرائيل بإعلان إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها.
في الاستدارة الاستراتيجية الماثلة فرص وتحديات وكمائن وتساؤل يطرح نفسه: أين نحن من ذلك كله؟!
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.
أعصاب المرأة قوية في أمور عديدة، لكن الموقف الذي يجمد الدم في عروق معظم الرجال ولا يجسرون على تصوره هو عملية الشراء …
لا أعتقد أن عنترة بن شداد الذي صارع الأسُود في الوديان المقفرة بيده العارية، كان يجسر على القيام بهذا النشاط الأنثوي المعتاد: الدخول إلى محل لمشاهدة كل شيء واستعراض كل شيء والسؤال عن كل شيء، بينما هو لا ينوي الشراء وجيبه خاو تماماً. رأيت الكثيرات يفعلن هذا العمل البطولي، بينما أعترف لك بأنني اشتريت أشياء كثيرة جدًا في حياتي لمجرد أنني خجلت من البائع.
يحكي أنيس منصور في كتاب (200 يوم حول العالم) أنه كان في سنغافورة يستمتع بمشاهدة التنسيق البديع في محل للخضراوات والفاكهة، هنا اقتنصه بائع .. ووجد أنيس نفسه يغادر المحل وهو يحمل ثياباً داخلية باعها له الرجل دون أن يطلبها منه، ولا يعرف سبب وجودها في محل للفاكهة!
كلما تقدمت السيدة في السن ازدادت ثبات أعصاب ولم تعد تشعر بالحرج على الإطلاق. عرفت سيدة من هذا الطراز تذهب لشراء شيء .. تعرف أن ثمنه مائة جنيه … أقول لها وأنا أهرع خارجاً من باب المتجر:
“ـ “انتهى الأمر .. هيا بنا ..فمهما خفضت السعر سيظل عالياً ..
لكنها تقف في ثبات وتنظر إليّ منذرة كي أصمت .. هذه معركتها وقد احتشد الأدرينالين في دمها حتى ليوشك على أن يسيل من أنفها.
تقول للبائع في ثبات:
ـ “عشرون جنيهاً!”
أُوشِكُ على الفرار لكنها تطبق على معصمي بقوة: اِنتظر ولا تكن رعديداً…
البائع يضحك في سخرية ويقسم بقبر أمه أن ثمن هذا الشيء 85 جنيهاً… مكسبه خمسة جنيهات لا أكثر … لكنها تبدو مصممة، وفي النهاية تقترح ثلاثين جنيهاً. ..
يدور الفصال المرهق الذي يستمر ساعات عدة… البائع يقسم بقبر أمه ألف مرة… صحيح أن السيدة المسنة الجالسة هناك هي أمه، لكنك تقبل هذا باعتباره من آليات التسويق..
في النهاية تظفر السيدة التي أرافقها بسعر لا يوصف… أربعون جنيهاً … لكنها غير راضية .. تشعر بحسرة لأن هذا يعني أنه كان بوسعها أن تصل لسعر أقل ..
أربعون جنيهاً … هذا نصر مؤزر ..
تخرج من حقيبتها عشرين جنيهاً وتؤكد:
ـ “ليس معي سوى هذه .. يمكنك أن تعوضها في المرة القادمة ..”
لكن البائع يكون قد بلغ درجة البله المغولي .. لا يعرف ما يقول ولا ما يشعر به. يريد الخلاص منها بأي ثمن لذا يوافق .. هنا تناوله المال وتطلب منه:
ـ “سأقترض منك خمسة جنيهات لأنك لم تترك لي نقوداً أعود بها لداري”
أمد يدي لجيبي لكنها تباغتني بنظرة مرعبة .. لا تفسد كل شيء علي .. يا لك من غبي ..
يناولها البائع خمسة جنيهات وهو زائغ العينين لا يعرف ما يدور من حوله، فلو طلبت منه مفاتيح بيته أو رقم حسابه في المصرف لأعطاها بكل سرور .. الحياة بالنسبة له تنقسم إلى ما قبل لقاء هذه السيدة وهو مرحلة سعيدة، وما بعد لقائها وهو جحيم ..
في النهاية نغادر المتجر حاملين الشيء الذي كان سعره مائة جنيه فصار خمسة عشر .. تقول لي في حسرة:
ـ”ربما لو بذلت مجهوداً أكبر لصار بعشرة جنيهات”
ـ “لو بذلت مجهوداً أكبر لأعطانا البائع مالاً أو أهدانا المتجر كله ليتخلص منا”
ـ “لا أحب أن يخدعني أحد”
ولأنها لا تحب أن يخدعها أحد فهي تحطم أعصاب الباعة وعقولهم في كل مكان. كما قلت لك تملك النساء أعصاباً أقوى من الرجال بكثير، ولا يمكن أن نحلم أن نكون مثلهن تحت أية ظروف..