جور نار

“إِنَّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا …”

نشرت

في

لا أعرف إن كنت وحدي من يشعر اليوم بالغربة في وطن ضاع عنّا منذ احدى عشرة سنة ونصف السنة؟ فنحن اليوم تائهون في وطن تائه…نحن اليوم نبحث عن وطن ولدنا فيه وأضعناه…وكبرنا على أرضه وخذلناه…وضحكنا فيه وابكيناه…وسعدنا به وفيه وأحزنّاه…وبكينا فيه واسعدناه…لكن لم نشعر فيه بالغربة أبدا…

م<strong>حمد الأطرش<strong>

قد يقول بعض الحاقدين على الماضي لأنهم لم يكونوا من مؤثثيه أو من بُناته: “عن أية سعادة تهذي يا هذا؟” وسأقول …نعم كنّا اسعد بما كنّا فيه لأن الحقد لم يكن بهذا الحجم الذي نحن اليوم فيه…وسيضيف بعضكم “ألم تعانوا استبداد بورقيبة وغطرسة بن علي؟” وسأقول “قد يكون بعضنا عانى ذلك…وقد يكون بعضنا دخل السجون من أجل ذلك…وقد يكون بعضنا ظلم في كل ذلك…لكن أبدا لم نشعر بالغربة التي نشعر بها اليوم…فمنذ احدى عشرة سنة ونصف مات الكثير من أصدقائنا فلم نبكهم كما يجب البكاء…ولم نحزن كما يجب أن نحزن …فحين نشعر بالغربة في أوطاننا حتى مذاق أحزاننا يصبح بلا طعم…حتى البكاء على الأصدقاء يصبح بلا دموع”…

سيقول بعضكم كنتم تعانون من الحرمان…وسأقول حرمان اليوم أكبر…وسيقول بعضكم الآخر ألم تعانوا من الاقصاء…وسأقول اليوم نعاني أكثر…وسيصرخ البعض أيضا ألم تشتكوا من التشويش والتهميش …وسأجيب تشويشكم اليوم أكبر…وتهميشكم اليوم أخطر…وسيواصل بعضكم ويقول ألم تعيشوا التجميد والترهيب والتخويف…وسأقول عانينا وكنّا اسعد فترهيب اليوم أفظع…وتجميد اليوم أوجع…وتخويف اليوم أغرب…وأشنع…

نعم، نحن أضعنا وطنّا كنّا فيه أسعد، رغم كل ما قيل فيه…فمن كان يحكمنا لم يقل يوما إنه الاصدق…والأوفى…والأرقى …والأتقى…لم يقل يوما إنه عمر الفاروق أو ابن عبد العزيز أو حتى صلاح الدين وأنه جاء ليعدل بين الناس…وليعيد المجد لهذا الشعب…ولم يفاخر يوما بأنه جاء ليصلح حال البلاد والعباد…لأن من حكموا قبله كانوا عنوان الفساد…ومن كان يحكمنا لم يشتم الماضي…ولم يبصق على الحاضر ولم يلعن المستقبل…ففاخر بالماضي لأنه كان فيه…وتشرّف بالحاضر لأنه كان من صانعيه…وآمن بالمستقبل لأنه آمن بمؤثثيه…فكيف حال حاضرنا ونحن نعيش الغربة فيه؟

وطننا اليوم غربة أشدّ من غربة الوالد والولد…ففيه تُثبط العزائم…وتُقتل الهمم…وتُنصب مشانق الإعفاء والوأد للكفاءات…وطننا اليوم أصبح مرتعا للفاشلين…والوصوليين…والانتهازيين…وطننا اليوم أصبح مقبرة للأذكياء الموهوبين …وللعلماء المبدعين…وطننا اليوم أصبح مرتعا للجهلة والسُذج…ففيه يهمل العالم…وفيه يسحق الكبير…وفيه يحاصر المبدع…وفيه يشرّد المناضل…وفيه يهمل التاريخ…وفيه يصفع الكريم…وفيه يجازى اللئيم…وفيه يُتبول على أمجاد الأجداد…ويُبصق على موروث الأحفاد… أهذا حقّا وطننا الذي اضعناه…؟

 أفظع ما نعيشه اليوم داخل هذا الوطن الذي غيّر عطره بعطر آخر…فلم تعد رائحته تلك التي نعرفها وألفناها منذ ولادتنا، فنحن اليوم كالقطط التي اضاعت أمها لأنها لعقت قطة أخرى فأضاعت رائحة أمها وأضاعت أمها…أقول أفظع ما نعيشه اليوم في هذا الوطن ضياع معايير التقييم، فنحن اليوم في وطن يكذّب فيه الصادق…ويصدّق فيه الكاذب…ويؤتمن فيه الخائن ويخوّن فيه الأمين…

الوطن الذي اضعناه منذ احدى عشرة سنة ونصف السنة، أصبح اليوم حفلا تنكريّا ضاعت فيه رائحة الوطن …وهتكت فيه أعراض الوطن…ولوّثت فيه مبادئ الوطن…وانتحرت في آخره قيم الوطن…واغتصبت فيه كل معاني الحريّة…الوطن الذي اضعناه أصبح لا يشبع من أوجاعنا ومن مآسينا، ولا يأبه لصراخنا وما ينزل في مآقينا…وطننا الذي ضاع أصبح اليوم وطنا للجياع…يأكل الشعب ترابه إن جاع…فيسجن بتهمة أكل مال اليتيم… تراب الوطن…ونحن يتامى الوطن…فمن يا ترى أكل أموال اليتامى…تراب الوطن؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version