جور نار

ابنتي على خُطى جدّها المهاجر …ولكن بشكل آخر

نشرت

في

أنهيتُ ورقتي الأسبوع الماضي بالقول إننا مررنا في تونس من جيل السّواعد المهاجرة في ستينات القرن الماضي وسبعيناته إلى جيل العقول المسافرة في السنوات الأخيرة…

<strong>منصف الخميري<strong>

وفجأة حضرتني صورة والدي رحمه الله الذي هاجر إلى فرنسا كعامل بناء قبل خمسين عاما لتتأسّى به إبنتي السنة الماضية ولكن بشكل مختلف، وتساءلتُ لِمَ لا أكتب نصّا أقارن فيه بين جيل أبي وجيل إبنتي وبينهما جيلي أنا الذي ظل رافضا (في الجزء الأكبر منه) عنيدا للإقامة بعيدا عن شذى الزعتر وعطر الليمون وظلال النخيل، رغم انفتاح كل حدود العالم أمام التونسيين وبدون تأشيرات ولا تحقيقات إلى حدود سنوات غير بعيدة.

فماذا عن أهم الفروقات بين الجيليْن ؟

جيل الأمس رصيده الوحيد قوّة سواعده. أذكر أن لجان انتداب العمال التونسيين وبتنسيق مع جهات الانتداب الأجنبية كانت تختبر المترشحين للعمل بالخارج في مهارات يدوية محدّدة (البناء وتوابعهُ) ولكن التعليمة الأجنبية غير المُعلنة في الاتفاقيات المكتوبة هي أن يكون الفرد قوي البنية وليس له ما يُعيقه عن صبّ جام عرقه في حظائر إعادة بناء أوروبا المُدمَّرة. أمّا جيل اليوم، فرصيده غير مادّي ومتنوّع أكثر، يتوفر على مكوّنين أساسيين على الأقل: الذكاء والمعرفة والاقتدار من ناحية والقدرة على مسك ناصية اللغات من ناحية أخرى. وهو كما أتصوّر سلاح ذو حدّين لأن الافتقار إلى سلاح اللغات لدى الجيل الأول جعله يتقوقع على نفسه ويختار العيش ضمن غيتوات مغلقة تمنع من الاختلاط بسكان البلد المُضيّف والاندماج في ثقافته ومنظومة قيمه، عكس الجيل الثاني الذي مكّنته اللغات وخاصة اللغة الانكليزية من التحوّل إلى جيل كوْني قادر على التأقلم أينما حلّ. لذلك أقول أن أبي كان مهاجرا أمّا إبنتي فهي مسافرة. 

الفرق الثاني أن جيل الأمس رغم انضباطه الأصيل وتعفّفه عن اقتراف كل ما يمكن أن يسيء إلى صورته وسمعة بلاده عكس ما نلاحظه للأسف لدى عدد غير قليل من شباب أحياء الأقليات في العواصم الأوروبية الكبرى، لم يكن مُرحّبا به دائما على أرض الاستقبال لأنه مختلف وداكن البشرة ولا تُبهره كثيرا أضواء المدينة (علاوة على أنهم لا يفهمون بعض الانزياحات التي تبدو لهم غير جيومتريّة كأن يمتنع التونسي عن أكل لحم الخنزير ولكنه يشرب بعض الخمر أو لا يصلي ولكنه يصوم مؤمنا خلال شهر رمضان أو لا يحجّ ولكنه يتبرّك بأوليائه الصالحين وفقير لكنه شديد التمسّك بقيم بدويّة كالأمانة والحياء وعدم الغدر…).

جيل اليوم من جهته، يتمتّع بمناعة قوية تقيه شرّ غُلاة التيّارات العنصرية المتمددة وتراه مزهوّا بصورة إيجابية حول نفسه بحكم شهائده الجامعية واعتراف المؤسسات التي يعمل لحسابها بكفاءته. والدليل أن الرأي العام الغربي سيحتفظ لمدّة طويلة بصورة الأطباء والممرضين التونسيين العاملين في أوروبا والذين ساهموا بشكل فعّال في إنقاذ آلاف الأرواح من الموت المحقّق أثناء انتشار وباء الكوفيد، بالإضافة إلى تمكّن شبابنا المسافر من اللغات بما يُيسّر اندماجه بأكثر يسرًا والذّود عن كرامته بكل لغات العالم عند الاقتضاء… ألم يقل بعض الأجانب إنه من الخطأ استعمال تعبير “المهندسون التونسيون الأكفاء” لأن صفة “تونسي” تُغنيك عن إضافة “كفء” ؟

الفرق الثالث : لدي انطباع حذر  بأن جيل الأمس متصالح أكثر مع هويّته وثقافته ودينه وصلواته في غير توتر وفي غير طموح مرَضيّ إلى أسلمة أوروبا وجعل سكانها يدفعون الجزية يوما وهم صاغرون. هو جيل لا يُسرُّ حدّ التماهي مع الآخر ولا يستنكف حدّ الكره والاستعداء. أما جيل اليوم فأصبحنا نخشى عليه من التأثر بمدارس دينية إسلامية حديثة تستغل غُربة بعض شبابنا وعوْزهم أحيانا لتجنيدهم وإرسالهم إلى المحرقة باسم نُصرة إخوتنا في الدّين وباسم أنه لا إيمان بالله بغير الكفر بالطاغوت.  (لاحظوا أن أولى خطوات التجنيد تبدأ بجعل الشاب يشكّ في صحة إيمانه إن هو قاوم منزعهم) وكم من شاب أنتُزع من مدرسته أو عمله أو جامعته ليصبح مجاهدا ذبّاحا في إدلب أو باب المندب.

الفرق الرابع : جيل اليوم منخرط تماما في عالميّته وليس له حنين زائد عن اللزوم نحو تفاصيل ثقافية وحضارية أضفينا علينا نحن القُدامى قداسة خاصة، لذلك تراه يستمع إلى غولدمان وستروماييه وأندوشين وكابرال وأنجيل بشكل طبيعي ويختار لباسه كما ينتقيه التايواني أو الإيفواري. أما جيل أبي الذي أمطرنا باسطوانات فريد الأطرش وأم كلثوم وعلي الرياحي ونورة الجزائرية (التي غنّت “يا ربّي سيدي واش عملت أنا ووليدي… ربّيتو بيدي وأدّاتو بنت الروميّة”) فكان جيلا غير قادر على التعاطف مع أدامو ولاما وميشال ساردو لكونها أطباقا ثقافية لا تلين لها ذائقته الناجزة.

الفرق الخامس :  كُنّا نودّع والدي باكين وخائفين عليه وعلينا… أمّا اليوم فنودّع أبناءنا مبتسمين منتشين متمنين لهم النجاح والتوفيق وموفور الصحة. من ناحية أخرى، كان جيل الأمس شديد التمسّك بأصوله وجذوره التي لا بديل عنها مهما حصل، لذلك هو يعود دائما… أما جيل اليوم فقد تكون العودة بالنسبة إليه تعني سفرة إلى برشلونة أو رحلة إلى تايوان أو جولة في أدغال الأمازون. وهنا يحضرني آخر إصدار لرسّام الكاريكاتور الفنان لطفي بن ساسي Partir ou rester حول ظاهرة رغبة مئات الآلاف من التونسيين في الهجرة خارج الوطن (مليون و700 ألف عبّروا عن رغبتهم في الهجرة) الذي يقول أحد رسومه “كانت الأم تصب الماء وراء المهاجر كي يعود، أما اليوم فقد تخلّت الأمهات عن هذا التقليد لأنهن تردن لأولادهن أن يبقوا هناك أكثر ما يمكن”.

مهاجرون أو مسافرون أو حارقون أو راغبون في المغادرة… كلها عناوين لبلد لم ينجح في شدّ بناته وأبنائه إليه فراحوا يبحثون عن مقوّمات كرامتهم وراء البحار. لكنّهم سيعودون يوما بكل تأكيد حين تصبح لنا دولة تجرؤ على فتح معاجم اللغة لاقتفاء معاني مفردات يبدو أنها لا تعرفها من قبيل “اقتصاد المعرفة” و “التواصل عبر الرقمي” و “التجديدات التكنولوجية” و “القدرة على التأقلم مع تغيرات العالم” الخ… التي يحذقها شبابنا ويُتقن تفاصيلها.

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version