لا أخفي أنني كنت دائما من المعجبين بشجاعة هذا المذهل “برنار تابي” الذي توفي البارحة … و لم يتناقص إعجابي بما يفعله خاصة، حتى في الفترات التي نُسبت إليه فيها أشنع التهم، و مرّ من حاكم تحقيق، إلى هيئة محكمة ، إلى عنبرة سجن …
كنت وقتها أعتقد أن فرنسا المتخلّفة أساسا عن باقي أوروبا و العالم الغربي، تشبهنا كثيرا من حيث حسدها للناجحين و ذوي المواقف الصريحة و المتمرّدين على عنصريتها و صلفها … و أنها لذلك تحيك لهم المؤامرات، و تفبرك الملفات، و تستعمل أجهزة محايدة جمهورية في الظاهر و تابعة ملكية في حقيقتها … تستعمل هذه الأجهزة ـ و منها القضاء ـ للقضاء على كل من يخرج على النفاق العامّ و إجماع الأمّة … و يشترك في هذا المصير أبناء فرنسا المركز، مع أبناء المستعمرات و أشباه المستعمرات … و لذلك كان ذلك البلد أبشع من احتلّ، و أذلّ من احتُلّ، كما أنه البلد الوحيد في أوروبا الغربية الذي يعيش هجرة أدمغة (مثلنا) و لكن نحو الولايات المتحدة و كندا و بعض الدول الآسياوية …
و في حالة تابي، اتّضح أن شعوري و مشاعر كافة المعجبين بمواقفه لم تكن على باطل … فقد اعترف قضاة عديدون و رجال أمن و مباحث بعد مرور سنين على محاكماته المدوية، أن تلك كانت ملفات ملفقة و يعض بعضهم اليوم على أصابع الندم … و هو نفس القضاء الذي أصدر حُكما بالغ التخفيف على الرئيس الأسبق “ساركوزي” رغم تورّطه في قضايا ترمي به وراء القضبان لآماد طويلة … و معلوم أن رئيس الصدفة ذاك، كان مرشّح لوبيات سوداء صعدت به إلى الحكم و استفادت منه، و ها هي تستعمل نفوذها لتخليصه من ورطات و فضائح متتالية …
ما أذكره من برنار تابي، أنه أوّلا جلب كأس أوروبا لناديه الجنوبي المحتقَر ألوانا و سكّانا … و عاشت هذه المدينة اليونانية الواقعة على سواحل فرنسا، ليلة من ألف ليلة عربها و أفارقتها أكثر من فرنسييها … و عبثا حاول عتاة رأس المال الاستعماري هناك، و أمراء النفط الملتحقين بهم، أن يعيدوا إنجاز “تابي” في مدن أخرى و يجلبوا إليها الكأس ذات الأذنين الكبيرتين … دون جدوى إلى اليوم و بعد قرابة الثلاثين سنة … فهناك تابي واحد، و مرسيليا واحدة …
و أذكر عنه ثانية عداءه الشديد لبورجوازية العاصمة المغرورة و أقصى يمينها على وجه الخصوص … تحدّى “لوبان” في أوج عنفوانه و انتشاره و وقاحة خطابه … تحداه بالسياسة، بالانتخابات، بالمعارك التلفزية، و حتى بالاستعداد لملاكمته على الهواء مباشرة كما يقول مذيعونا … تقول كان “جان ماري” عجوزا و ابنته امرأة؟ أعاد رئيس مرسيليا الأسبق نفس التحدّي مع وقح بغيض آخر هو الدعيّ “إيريك زمّور” حين سمعه يتطاول على الجزائريين … “أنت جزائري مرتدّ يا مدّعي حبّ فرنسا، و الجزائر لا تتشرّف بك” قال له … قبل أن يردّ على تطاول آخر منه: “أعدها و سأقوم و أضع لك قدمي في مكان مّا من بدنك !” …
قل عنه (على الموضة) إنه شعبوي، أو بلطجي كما كان يصِمه أعداؤه … و لكن في بيئة متوحشة كبيئة فرنسا السياسية، و في دولة تعبد القوة و تتظاهر بالعدل، و تحتقر الفقراء في بلدها و في بلاد الغير … لا يمكن إلا أن تشدّ على يد سليل أسرة كادحة كهذا، يشمت في رحيله أعداؤه الكثر بعد أن عانوا منه الأمرّين … و لكن يبكيه كل من في تلك العاصمة المتوسطية الجميلة الصابرة، و يودّعونه كزعيم و أيقونة مجد و كرامة …