وهْجُ نار

“اسألوا عن حبايبكم، مش كل الناس موجودة بكرة” !

نشرت

في

قد لا يعرف بعض أبناء جيل “حوماني” ومثيلاتها من أغاني الثوار الاشاوس الذين فتحوا مكّة والحجاز وأرض نجد وشرّدوا التتار والوندال…أقول قد لا يعرف جهابذة الفنّ السوقي الذي نسمعه اليوم الفنان علاء عبد الخالق، وقد لا يعرفون حتى رفيق دربه الذي بكاه طويلا حميد الشاعري…

<strong>محمد الأطرش<strong>

الفنان علاء عبد الخالق توفي منذ أسبوع تاركا وراءه حزنا ولوعة في قلوب كل من عرفوه وعاشروه وعرفوا فنّه وإن لم يكن في حجم العباقرة الذين سبقوه…علاء عبد الخالق ترك وصية قبل وفاته بسنتين تقريبا على حسابه الخاص فايسبوك يقول فيها: “اسألوا عن حبايبكم، مش كل الناس موجودة بكرة “…نعم هكذا كتب علاء وكأني به أدرك انه لن يكون قريبا من الموجودين “بكرة” وان موعد مغادرته لن يطول انتظاره كثيرا…وجاء “بكرة” ومات علاء…

تعالوا لنلتقي مرّة واحدة في ما نفكّر وما نقول وما نضمر…تعالوا لمرّة واحدة نتّفق في كلمة وجب قولها قبل فوات الأوان…هل نحن شعب يتواصل…يسأل عن بعضه البعض…ويحنّ إلى رؤية بعضه البعض…؟؟ لا وألف ألف لا…هل نحن ذلك الشعب صاحب “وينك” و”شنية أحوالك” و”هالغيبة” و”امتى تطلّ” و”توحشناك” و”ربي يخليك لي يا غالي”…لا سادتي نحن اليوم من الخوارج أولئك الذين خرجوا عن اخلاق دينهم وأمتهم وأهلهم وأجدادهم…نحن شعب دينه الحقد والحسد وإضمار السوء…نحن شعب لا نعترف بنهاية المطاف…بالمغادرة…بلقاء الربّ…بالحساب…

تعالوا نقول حقيقة غفلنا عن قولها خوفا من بعضنا البعض…هربا من كلام هذا وتنمّر الآخر ووشاية هذا وهاتف الآخر وعلاقة هذا بابن شقيق صاحب السلطة، والجالس على كرسي الحكم…وصديق الآمر الناهي وصاحب الظلم المتناهي…هل نحن شعب واحد حقّا كما يقول دستورنا الحالي ومن سبقه من دساتير البلاد؟ لا…نحن أكثر شعوب العرب تشتتا وانقساما رغم وحدة مذهبنا…نحن الشعب الذي يقول في بعضه البعض ما لم يقله اليهود في محمّد عليه الصلاة والسلام، حتى وإن كان بعضنا يعاني سكرات الموت الأخيرة…

ولحظة سماعنا بوفاته ننزع عنه جبّة الوسخ والقذارة التي أغرقناه فيها طوال حياته بما أشعناه عنه وفيه وكتبناه عنه، واتهمناه به، لنجعل منه هكذا بين آخر ثواني الحياة ولحظة الموت الرجل الطيب والانسان الذي ترك اثرا لن يمّحي، ونقرأ عليه سورة الفاتحة ألف مرّة ومرّة مع فاصل موسيقي راقص، ونبكي طويلا امام قبره ونحضن اطفاله ونحن نصرخ وجعا على فراقه وعيننا الحولاء “الوسخة” تنظر رغبة لأرملته التي لا تزال فارعة الطول وممشوقة القوام، وقد نصبح شعراء بعد موته فنقول فيه ما قاله أبو نواس في الخمرة…ولا تستغربوا بعضنا إن شربوا كاس نبيذ على نخب موته…

ما أكذبنا وما اقذر ما نفعله …هكذا نحن ولأنه يعرف أن كل العرب سواسية في أحقادهم وما يضمرون… أراد علاء عبد الخالق أن يترك وصيّة لنا جميعا، فهو يعلم أن كل العرب يكرهون كل العرب وأن أمّة العرب يتمنون الشرّ لكل العرب…وأن أمة العرب هي امة الحقد والحسد…علاء قال “اسألوا عن حبايبكم، مش كل الناس موجودة بكرة” وكان أول من غابوا صباح “بكرة”…

نحن في تونس ذاكرتنا قصيرة إلى ابعد حد…بورقيبة مات رحمه الله ولم نتعّظ…ولم نسأل عن “حبايبنا” كما أوصانا علاء… لكن بورقيبة ترك من بكاه طويلا وخلّد ذكراه…مزالي مات رحمه الله ولم نقرأ الدرس…ولم نسأل عن “حبايبنا” كما أوصانا علاء… لكن مزالي أيضا ترك من بكاه وخلّد البعض من ذكراه…بن علي مات رحمه الله ولم نتعّظ…ولم نسأل عن “حبايبنا” كما أوصانا علاء…لكن بن علي أيضا ترك من بكاه ومن يذكره إلى يومنا هذا وخلّد ذكراه…أتدرون ان بعض هذا الشعب اليوم يتمنى الموت لبعضه الآخر…أتدرون اليوم ان بعضنا يتمنى ذبح البعض الآخر من الوريد إلى الوريد…أتدرون لماذا؟ لا شيء بيننا…فقط حقدنا على بعضنا البعض… وحقدنا لماذا يا ترى؟؟ لا شيء غير “السياسة” عليها اللعنة…

فالسياسة هي العاهرة التي أغوت كل الإخوة وراودتهم فانقلبوا على بعضهم البعض…هي التي اغوتنا وأغرتنا بالكرسي…الكرسي الذي يتآكل كل ما كثر وطال ظلم الجالسين عليه…لا شيء غير الكرسي عليه اللعنة…لا شيء غير المصالح الضيقة عليها اللعنة…أي نعم عليهم جميعا اللعنة…ونحن أيضا نستحق كل لعنة…فنحن اللعنة التي اصابتنا…فهل سنجد نحن غدا من يبكينا حين نفارق…ونحن الذين لم نجد اليوم ونحن على قيد الحياة من يسأل عنّا…ألسنا للبعض حبايب؟ ألسنا للبعض الآخر أقارب…ألسنا للبعض الآخر أصدقاء وطلاب مآرب…

لنعترف ونقًلْ إننا سنرحل غدا… أو بعد غد… أو بعد بعد يوم آخر …نعم سنرحل جميعا… سواء كنّا من الأغنياء او أصحاب الجاه أو من المتسولين…أو حتى الملوك والسلاطين… والرؤساء والأمراء وعباد الله الصالحين…لكن لماذا لم نتوقّف عن الحقد…رغم علمنا بالمغادرة وبالوداع القريب لا يزال بعضنا يؤذي بعضنا…ولا يزال بعضنا يظلم بعضنا…لن يشفع لنا مالنا…وجاهنا…وحاشيتنا…وعسسنا…وجلادنا…وقد لا نجد من يبكينا وينزل دمعة لأجلنا…

سادتي …أو “حبايبنا” كما كتبها علاء عبد الخالق…أتعلمون أن رحلة المغادرة ستكون فردية مهما عرفت من أصدقاء ومهما جالست من أصحاب سلطة وجاه…مهما ازدحم حولك الناس…غدا ستقف وحيدا أمام الخالق…هل تعلم بكل ذلك…؟؟ إن كنت تعلم فلم ظلمت…ولم وشيت…ولم أخطأت في حق الناس…ولم شمتّ… ولم أغضبت…ولم اعتديت…ولم اتهمت زورا…ولم شهدت زورا…ولم أبكيت…ولم أحبطت…ولم خذلت…ولم أوجعت؟؟؟

لماذا نبحث دائما عن أخطاء بعضنا البعض ونحن من أخطأ أكثر…لمَاذا لمْ نلتمس الأعذار لبعضنا ونحن من يطلب التماس الأعذار؟ لماذا نصرّ إلى يومنا هذا أن البقاء للأقوى فنأتي ما يفعله الأقوياء والجبابرة…أليس البقاء الحقيقي للألطف…للأحنّ… للخيّر… لمن هو أحسن عملا وأجمل أثرا…أليس البقاء لمن صنع خيرا ولم يحقد ولم يفتن ولم يكذب…؟ أليس البقاء لمن يملك مشاعر الإنسانية ويعامل الناس بها…أليس البقاء لمن يبتسم في وجه الناس ويخدم الناس ويرأف بحال الناس …لماذا إذن البقاء للأقوى وجميعنا مغادرون؟ فمن يا ترى سيبقى في ذاكرة الناس وقلوبهم…الظالم أم المظلوم…الكاذب أو الصادق…الجلاد أو الضحية…الخائن أم الوفي؟؟

لماذا حين نمتلك القدرة على فعل الخير لا نفعل الخير…؟؟ ولماذا حين يعطينا الله القدرة على نفع الناس، لا ننفعهم؟؟ ولماذا حين يمكننا من إعادة الأمل وابعاد اليأس والإحسان للناس لا نبادر بفعل ذلك؟؟ في الخلاصة…نحن شعب لا يريد أن يترك أثرا جميلا…ولا يريد ان يسعد من يحب ولو كان بابتسامة…نحن شعب لا يؤمن بالعطاء…بالودّ…ولا يؤمن حتى بالمنع عند الحاجة…فالمنع عطاء أيضا…فستر عيوب الناس واسرارهم عطاء…وكفّ اللسان عن الناس عطاء…وكتمان الغضب عن الناس عطاء…أتدرون ما قاله الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه؟ قال: إِنّ القُلوبَ إذا تنافر ودُّها شِبْهُ الزُجَاجَة ِ كسْرُها لا يُشْعَبُ…يا هؤلاء؟؟؟ “الدنيا فيها الموت…الدنيا فيها الموت”…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version