وهْجُ نار

استفتاء دون حضور جمهور الفريق المنافس … ودون تقنية” الفار”!

نشرت

في

من سيذهب إلى مكاتب الاقتراع يوم الاستفتاء؟ ومن سيمرّ أمام أبواب هذه المكاتب ضاحكا مستهزئا دون مبالاة…؟ ومن سيمكث في منزله مقاطعا المشاركة في كل ما يحدث…؟

<strong>محمد الأطرش<strong>

لا يمكن الجزم بأن كل قوى المعارضة لـــ”انقلاب” قيس سعيد على شركائه والرافضة لدستوره الذي صاغه على مقاس توجهاته وميولاته وفلسفته السياسية سيزورون مكاتب الاقتراع، فبعضهم يعتبر مجرّد المشاركة بــ”لا” اعترافا لما أتاه قيس سعيد وبشرعية ما قام به يوم 25 جويلية الماضي، وشرعنة لكل قراراته ومراسيمه التي جاءت بعد ذلك التاريخ…وبعضهم الآخر يعتبر المشاركة بـــ”لا” والحضور بكثافة كاملة شاملة مع حشد الاتباع والانصار والداعمين والمساندين هو السبيل الوحيد لإسقاط دستور سعيد وبالتالي نزع الشرعية الجماهيرية والانتخابية التي كثيرا ما تفاخر بها هو وأتباعه في العديد من المناسبات عن الرئيس… والحال أن الشرعية الشعبية والانتخابية في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية يعود الفضل فيها للأحزاب وقواعدها وأتباعها التي قررت التصويت بكثافة مطلقة لقيس سعيد قطعا للطريق أمام من جعلوا منه امبراطور الفساد “نبيل القروي”…

النهضة ومن معها…بين خيارين

هل ستُقدم النهضة على معاقبة من أخرجها من الحكم وحمّلها مسؤولية كل الخراب الذي حلّ بالبلاد منذ 14 جانفي إلى يومنا هذا، وألصق بها وبقياداتها كل تهم الأرض والسماء؟ وهل ستقدر النهضة على حشد كل من جاوروها في الصلاة…عفوا في الحكم وتوافقت معهم ولو لفترة قصيرة للوقوف إلى جانبها في “أم المعارك”؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه هذه الأيام، فالحملة الاستقطابية والمراودة الواسعة لنعم ممن تطوّعوا للدفاع عن دستور قيس سعيد وإخوته تعيش احتشاما واضحا وجليّا للجميع…فلا أثر لحملة استمالة واستقطاب ولا لمراودة استفتائية في الطريق العام أو في الفضاءات والساحات العامة…ولا أثر لذلك أيضا في أغلب مقاهي المدن الكبرى ولا في حوارات روّادها…

الخيار الأول…

يكمن خيار حركة النهضة الأول (حسب بعض أتباع قيس سعيد أو ما يتمنونه ويأملونه ) في دعم مسار قيس سعيد “الدستوري” طمعا في مصالحة غير معلنة بينها وبين هذا الأخير…وقد يذهب في ظنّ بعض قيادات الحركة سواء كانت المحلية أو الجهوية أو الوطنية ان قيس سعيد قد يغفر لها كل ما اتهمها به أو ما ألصق بها من أتباعه لو أنقذته بالتصويت له بــ”نعم” من هزيمة تكاد تكون مؤكّدة لو يشارك الجميع بــ”لا”، وقد تكون هزيمة مذلّة سياسيا لو كان الفارق هامّا وهامّا جدا…ويعتبر البعض هذا الخيار لو قررته مؤسسات النهضة انقلابا على شيخها وابعادا له من قيادة الحركة، رغم أن البعض يقول ان الشيخ قد يناور بهذه الفرضية من أجل إطالة عمر حركته سياسيا، وإنقاذ نفسه وبعض قيادات حركته من “محاسبة” قد تبدو مؤكّدة لو وضع قيس سعيد كل السلطات  بين يديه وكسب شرعية جماهيرية أخرى، واستباقا لفرضية إيقافه ولو تحفظيا لبعض الأيام في إطار آليات حملة مسانديه الانتخابية فقد يستفيد الرئيس من إيقاف الغنوشي لإقناع من خاب ظنّهم في محاسبة بعض قيادات الحركة …لكن هذا الخيار قد يكون سببا في خلق الانقسام في الجبهة الداعمة والمتحالفة مع الحركة والمعارضة لكل ما جاء به قيس سعيد منذ انقلابه على شركائه في الحكم…وقد يخدم هذا الانقسام قيس سعيد ويمكّنه من فرصة أخرى للتربّع على عرش البلاد ربّما لأكثر من عقد كامل أو يزيد، وقد يخدع مرّة أخرى الشيخ ومن معه بعد أن يضمن مباركتهم لدستوره بــ”نعم” وينقلب عليهم بقرار حلّ كل من عارضوه من الاحزاب منذ يوم انقلابه عليهم…فهل تفعلها النهضة درءا للاندثار المحتمل لو توسعت رقعة سلطات قيس وشعبيته، ونال شرعية واسعة دون دعم من الأحزاب الكبرى كما كان الحال في أكتوبر 2019 أم تقرأ عواقب الأمر وتعدّ لأم المعارك سواء بالمقاطعة الاستراتيجية الشاملة التي قد تكون مكاسبها المعنوية والسياسية داخليا وخارجيا ضئيلة جدا ليس أكثر أو بالمشاركة الحاشدة بــ”لا” والتي أكاد أجزم أنها ستكسبها مع حلفائها وبفارق كبير؟

الخيار الثاني…

ينقسم هذا الخيار إلى قسمين، أحدهما المشاركة بــ”لا” والثاني المقاطعة الشاملة، وقد تقرّر النهضة معاقبة سعيد ومن معه والثأر لنفسها مما فعلوه بها وببعض قياداتها وتحشد حشودها من القواعد والاتباع والمناصرين والداعمين والمساندين والحلفاء وقد يفوق حشدها عدد من صوّتوا لقيس سعيد في الدور الثاني، فحقيقة الميدان اليوم غير تلك التي يفاخر بها أنصار الرئيس سعيد فأتباع هذا الأخير خسروا عديد المرّات معركة الشارع، ولم يؤكّدوا حجمهم المبالغ فيه افتراضيا… النهضة على يقين أن قيس سعيد لن يتراجع عن خياراته حتى ولو كلفه الأمر هزيمة مذلّة في كل المعارك السياسية القادمة…كما تدرك أنه غير قادر على إخراج البلاد مما هي فيه بل سيكون سببا في تأزم الأوضاع في كل مناحي الحياة أكثر مما هي عليه، وأنه سيتحمّل لوحده تبعات كل ما حصل منذ 14 جانفي فهو من اختار الانقلاب عليهم وتحمّل كل مسؤوليات الدولة بمفرده وهو من سيأخذ على عاتقه وزر كل الخراب الذي عاشته البلاد… لذلك لن تغامر بمساندته…

تدرك قيادات النهضة ومن تحالفوا معها ان المقاطعة ليست السلاح الأمثل في معركة تعتبر أهمّ معاركها السياسية على الإطلاق، لكنها ومن معها يهدفون باختيارهم للمقاطعة رفضا لدستور سعيد، إلى تحقيق مكاسب معنوية وسياسية أهمّها تعرية وكشف حقيقة انقلاب سعيد للراي العام الداخلي والعالمي، فالمقاطعة حسب رأي العديد من قيادات النهضة ومن معهم في التحالف المعارض هي الوسيلة الأمثل لكشف نوايا سعيد الحقيقية للرأي العام العالمي وجميع المراقبين للاستفتاء، وقد تؤكّد بالحجج والأدلّة وبما سيقع لو اختار سعيد فعلا اعلان نتائج الاستفتاء بمن حضر حتى وإن كانوا بعدد ضئيل جدّا، وقد تثبت بذلك ما يدور في الأوساط المعارضة للرئيس حول إمكانية “تزوير” نتائج الاستفتاء والتحكّم في  مساره النهائي من خلال التعنّت في عدم تحديد عتبة نسبة المشاركة، فأغلب الاستفتاءات التي وقعت في بلدان القارة الافريقية تمّ تحديد عتبة نسبة المشاركة فيها، ففي استفتاء تقرير مصير جنوب السودان سنة 2011 بلغت نسبة المشاركة 60 بالمائة وهي النسبة القانونية المطلوبة للاعتراف بشرعية نتائج الاستفتاء، وقد اشرفت على مراقبة ذلك الاستفتاء مؤسسة جيمي كارتر…

لكن النهضة ومن معها لم ينتبهوا لأمر قد لا يكون في صالح نواياهم وما يريدونه من المقاطعة فالمقاطعة سلاح دو حدّين، فقد تختار بعض الأطراف الأخرى المعارضة لدستور سعيد المشاركة بــ”لا” وقد تنهزم لضعف حجمها الانتخابي في غياب النهضة ومن معها أمام أتباع ومساندي قيس سعيد ليكسب الاستفتاء شرعية رغم نسبة المشاركة التي قد لا تصل إلى 20 بالمائة من نسبة الناخبين المسجلين…وهذا ما قد يفسد الأمر على النهضة…وهو الأمر الذي لم تتفطّن إليه وغفلت عن دراسته جيّدا…فالمقاطعة الجزئية للناخبين لن تكون في صالح معارضي دستور سعيد بل ستخدم سعيد وتكسبه موقعة الدستور…

وتميل بعض الأطراف في حركة النهضة وبعض المكونات المتحالفة معها في معارضة انقلاب سعيد إلى المشاركة الحاشدة بــ”لا” وإغراق الصناديق بـــ”لا” لضرب شرعية قيس سعيد التي يفاخر بها وتأكيد أن هذا الأخير لم يكن ليفوز بقرطاج لو اختارت الأحزاب دعم منافسه في الدور الثاني…وبالتالي إعادته إلى حجمه الانتخابي الطبيعي…لكن هذا الخيار سيكون حينيّا وستفرضه أحداث يوم الاستفتاء ومعطيات الميدان ومكاتب الاقتراع…

الدستوري الحرّ والمقاطعة المنتظرة…

تشير كل المعطيات الواردة من قلاع الدستوري الحرّ إلى أن المقاطعة هي السلاح الذي اختارته عبير ورفاقها في مواجهة دستور سعيد، وقد تلتقي لأول مرّة مع حركة النهضة في هذا الخيار…ورغم أن التقاء الحزب الأول والثاني في عمليات سبر الآراء قد يفرغ الصناديق من محتواها ويرسل صورة سيئة عن الاستفتاء من خلال مكاتب خالية من كل حياة ( وهو ما قد يثير غضب سعيد) فإن مشاركتهما بـــ”لا” سيقلبان بها المشهد السياسي رأسا على عقب… فالدستوري الحرّ لن يكتفي بقواعده الرسمية في مواجهته لدستور سعيد وانقلابه بل سيكون مدعوما ومسنودا من طيف واسع من الذين اكتووا بنار احدى عشرة سنة من التخبّط والمراوحة في مستنقع الفشل والمعروف عن “الدساترة” و”الــتجمعيين” الوقوف مع بعضهم البعض والتآزر في المعارك المصيرية…وسيكون مساندا أيضا ممن اختاروا الصعود إلى الربوة فهؤلاء قد يختارون هذا التوقيت للخروج من انغلاقهم على أنفسهم وسلبيتهم والاسهام في درء الأسوأ لبلاد كانت قبل 14 جانفي في وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي أفضل بكثير مما هي عليه الآن، وأفضل بأشواط مما ينتظرها من دستور كشف في نسخته المنشورة بالرائد الرسمي عن رائحة لم يألفها الشعب التونسي…

الاتحاد…وسياسة أنا وبعدي الطوفان…

أما الاتحاد الذي طالبته زعيمة الدستوري الحرّ بعدم السماح بتنظيم الاستفتاء سيكون وفيّا لمصالحه…ولن يختار ما قد يُخْسره مكاسبه التي افتكها منذ 14 جانفي، فالاتحاد ابتز الشعب والدولة وكل الحكومات وتلاعب بمصير العاطلين والعمال طيلة احدى عشرة سنة ولم يكفه ذلك بل أصبح يطالب بالشراكة الكاملة مع كل الحكومات المتعاقبة على القصبة…الاتحاد بقياداته الحالية والتي سبقتها نسي شعار “التشغيل” الذي رفعه شباب حراك ما قبل 14 جانفي واكتفى بتفعيل شعار” زيدني في الشهرية” فأغرق البلاد وأحبط العباد …الاتحاد بقياداته الحالية سيكون وفيّا لمصالحه ولن يتخلّى عنها ابدا…فيكفي أن يقرّر الرئيس إلغاء الاقتطاع الآلي ليجد الطبوبي ورفاقه يدقّون بابه طلبا في ودّه ورضاه…وما ستعطي يُمناه…

الغريب في أمر الاتحاد هو أنه لا يزال يتباهى بقوّته الجماهيرية وكأنهم من الرعيّة أو القطيع والحال أنهم خليط من قواعد كل الأحزاب، فلو قرروا يوما عدم الأخذ بما يقرره والعودة لأوامر أحزابهم لبقي الطبوبي ورفاقه دون سند ودون دعم ممن يفاخرون بأنهم خيمتهم الكبرى…فالمعركة الحالية ليست بالأساس معركة سكان ساحة محمد على ولذلك اختار الطبوبي ترك الحرية لمنخرطي الاتحاد في تحديد موقفهم من دستور الرئيس…لأنه في قرارة نفسه يدرك أن منخرطي الاتحاد لا يأتمرون سياسيا لأوامر سكان ساحة محمد علي…ولسائل ان يسأل ما الذي فعله الاتحاد في مواجهة مراسيم قرطاج…لا شيء غير الصراخ…في شرفة المقرّ الرسمي …

خلاصة ما يجري… لا يمكن مقارنة حجم مساندي دستور الرئيس مع حجم معارضيه …فالفارق شاسع بينهما، فلو اختارت معارضة الدستور المشاركة الشاملة بــ”لا” فستكون النتيجة كارثية إلى ابعد الحدود…وسيضطرّ ساكن قرطاج إلى التراجع درءا للأسوأ ومهادنة بقيّة الأطراف حتى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة …الذي قد يتحوّل إلى موعد سابق لأوانه… 

لكن لو اختار كل الطيف المعارض للدستور المقاطعة سيجد الرئيس نفسه وجها لوجه مع انتصار كاسح ومذلّ للبقية، وسيعتبره الخارج حتى وإن شابته بعض الشوائب اعترافا بشرعية انقلاب سعيد، وقد يكسب من خلال ذلك عودة الودّ بين حكومته وبعض المنظمات والدول المانحة…

شخصيا أعتبر المقاطعة سلاحا ذا حدين وهي نفس السلاح الذي كان بن علي يكسب به كل مواعيده الانتخابية، فبن علي لم يكن يزوّر الانتخابات كما يزعم من عارضوه ولم يكن في حاجة إلى تزويرها، بل كان ضعف المعارضة وعزوف نصف عدد الناخبين واعتبارهم أن النتيجة محسومة مسبقا هو الذي يعطي الأغلبية الكاسحة لبن علي وحزبه…وهنا لا يمكن المقارنة تماما فالفارق شاسع بين الرجلين فبن علي كان رجل دولة خدم البلاد لأكثر من أربعين سنة وتتلمذ على الزعيم بورقيبة ومن خصاله التي تميّز بها اختياره للكفاءات على رأس كل مؤسسات الدولة…وعدم ترك رجاله لمصيرهم…فحتى وإن عاقب أحدهم بإعفائه فإنه يبحث له عن موقع آخر تستفيد منه الدولة…ثم قد يعيده في مرحلة إلى موقع قريب منه للاستفادة من خبرته التي صقلها بالإشراف على عديد المواقع الهامة في الدولة…ومما ميّز بن علي في اختياره للكفاءات أنه كان يختارهم أيضا ممن يختلف معهم وممن عارضوه…

وهنا يمكن القول أن دستور سعيد وإن مرّ فسيمرّ بسبب غباء معارضيه، فمقاطعة معارضيه ستترك له الساحة شاغرة وخالية من كل مقاومة سياسية، وسيكون هذا الدستور أقصر الدساتير عمرا، فمن قاطعوا استفتاء الدستور لن يسمحوا لأنفسهم بمقاطعة الانتخابات الرئاسية التي قد تصبح سابقة لأوانها إن اختلطت بعض الأوراق، وحينها لا أظنّ ان قيس سعيد سيعود للجلوس على كرسي قرطاج من خلال ما أتاه في عهدته هذه، فالرئيس لم يقم بما ينفع الناس ولم يلتفت يوما إلى ما يخرجهم مما هم فيه…فالشعب حين يجوع ويشعر بالإحباط ويبكي أولاده الذين ماتوا غرقا…وأولاده الذي يرزحون تحت استيطان البطالة…لن يهتمّ بدستور يعترف بحقوقه ولا يعمل بها…وسيختارون رئيسا جديدا يلتفت جدّيا إلى مشاغلهم ومشكلاتهم ويهتمّ بمستقبل أبنائهم …وحين يختارون رئيسا جديدا سيكون أول ما سيأتيه إلغاء العمل بالدستور “القيساوي” نسبة إلى قيس سعيد، واقتراح مشروع دستور جديد أو العودة إلى دستور من الدساتير القديمة مع تعديل بعض فصولها….

خلاصة ما ستعيشه تونس في السنوات القادمة…الجائع لا يذهب إلى صناديق الاقتراع من أجل دستور لا يدفع حتى ثمن كفنه…يوم يموت جوعا…الشعب في حاجة إلى ما ينفع الناس…وينزع عنهم اليأس…

                                                

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version