لم يقولوا اشْكِ للقاضي و لا اشكِ للحاكم بل قالوا اشكِ للعروي فمن يكون هذا العروي الذي يتقبّل شكوى المواطن حين تغلق في وجهه الأبواب؟ … هو ببساطة إعلامي فذّ وجد الطريق الصعبة التي تريح المواطن و لا تغضب السلطة قوامها الصدق و الجرأة… عبد العزيز العروي رحمه الله هو أحد أقطاب أشهر المدارس الثقافية في تونس مقهى تحت السور و أعتبره شخصيّا المؤسس لإذاعة القرب التي أصبحت بعد ذلك توجّها و منحى في الإذاعات و التلفزات … و بما أننا تعوّدنا ألاّ نتذكر أعلامنا إلا في مناسبات معيّنة فها أني أجيب عن سؤال طرحتموه بينكم و بين أنفسكم و هو آش فكّرك فيه؟
زمان عندما كانت الكلمة كالجمر كان المواطن يستنجد ببابا عزيز ليوصل صوته متظلّما … زمان كان للإعلامي مكانة و هيبة رغم تضييق السلطة و بلطجة بعض كبار المسؤولين … و اليوم في ظل حرية بلا حدود أجدني وجها لوجه مع اعلامي حرّ، في قناة تتبجّح بأنها حداثية، يتحاور مباشرة من بيروت مع عرّافة ليسألها عن مستقبل تونس في 2021 نعم عرّافة المفروض أنه يعلم أنها كاذبة و إن صدقت… عرّافة يسألها عن اقتصاد و سياحة و سياسة تونس في هذا العام الجديد.
هل بعد هذا التخلّف من تخلّف؟ و الغريب أن ما فعله هذا الإعلامي يسمّى تأثيثا للحصّة و هو في واقع الأمر هدم لأسس المهنة و تطاول من المتطفّلين على ميدان يمتلك كل آليات النجاح و لكن المشرفين عليه أبوا إلا تفقيره بفتح الأبواب أمام التافهين ليعبثوا بالأموال و بالعقول.
قبل الثورة كان الإعلامي الفاشل يبرّر فشله برقابة السلطة و خوفه من العواقب و هي حجج ليست دائما صحيحة … فأنا شخصيا عشت تجارب إعلامية في عهد الزعيم بورقيبة و بعده في عهد بن علي ولا زلت موجودا بعد الثورة و أقسم ألاّ أحد تدخّل في ما أكتبه أو ما أقوله أمام المصدح. بل في يوم من الأيام كنت حاضرا في قصر الرئاسة بسقانص المنستير بعد دعوة على الغداء من الزعيم تكريما لبعض الوجوه الإعلامية … و كانت بيننا فتاة لم نكن نعرفها و لا نعرف سببا لوجودها بيننا لنكتشف بعد ذلك أن سبب الدعوة هو تدخّلها في أحد البرامج الاذاعية لتخبر عن عائلة من قرية شراحيل تتكون من ثمانية أنفار جميعهم غير مسجّلين في دفاتر الحالة المدنية …
و ما شدّني في الحادثة هو ما جاء على لسان الزعيم حيث قال “شكرا يا ابنتي هذا ما أريده من وسائل الاعلام … ثم أردف: تصوّروا عائلة من ثمانية أنفار غير مسجّلة في دفاتر الحالة المدنيّة يعني خارجة عن برامج الدولة و مخطّطاتها… إذا كان هذا حال مواطن يعيش في ولاية محظوظة فماذا عن شقيقه في داخل الجمهورية في الولايات الأقلّ حظا” …
الزعيم لم يوقف البرنامج و لم يبحث عن المواطنة لتسليط عقاب عليها بل دعاها و منتج البرنامج لشكرهما عن خبر صادق فتح عيون السلطة على هنات ما زالت تنخر النظام الاجتماعي و الاقتصادي للدولة.
كم نحن بحاجة لبابا عزيز آخر يخاطب الناس بلهجة تونسية نقية و ينقل بأمانة الوطني الصادق ما خفي عن أعين السلطة و لا يتركها سجينة عرّافة لبنانيّة قد تكون لا تعرف ما يحدث في “داون تاون” بيروت، و تدّعي معرفة ما يحدث في باب سويقة.