جلس الطفل بجانب الدار يراقب أمه تحرك الطعام وضعت قدرا ملأته ماء على ثلاث أثافيّ . لم تستطع هذه المرة أن توفر ثمن قارورة الغاز فلم تجد من حل إلا الطبخ كما كانت تفعل جداتها. كسرت أغصان شجرة يابسة و جعلتها بين الحجارة و أوقدت النار.
سرحت بذاكرتها إلى الماضي البعيد.. لما كانت طالبة في أحد المبيتات الجامعية كانوا يستعملون موقد ” الريزيستانس” خلسة عن الإدارة… كانت أياما جميلة رغم بؤسها… كم حلمت في تلك السنوات بالتخرج و العمل و شراء الملابس التي تريد و السفر في أنحاء البلاد و خارجها … تحقق حلم وحيد فنالت الشهادة و بقي العمل سرابا بعيدا أجّل كل الأحلام الأخرى … انتظرته ثماني عشرة سنة حتى أصابها اليأس و الإحباط و نسيت حتى الاختصاص الذي درسته…
فرحت ذات 14 جانفي 2011 و خيّل إليها انها ستُودّع حياة الألم و البطالة… و ستُفتح أمامها أبواب التشغيل و الكرامة على مصراعيها… أشرقت في نفسها بارقة أمل سرعان ما خبت كما خبت كل أحلامها. عادت تحدق إلى النار تلتهم الخشب مثلما كان اليأس يلتهم قلبها و هي تفكر في مصير ابنها….ابنها الذي ندمت أنها ألقت به إلى هذه الحياة الكالحة بين أم عاطلة و أب أفقدته الجائحة عمله منذ تسعة أشهر… بحث عن شغل جديد، اقترض.. باع كل ما يمكن بيعه .. و الوضع لم يتحسن، فانكفأ على نفسه يرفض حتى الكلام. أخرجها ابنها من تأملاتها …
ماذا ستطبخين اليوم؟؟ ذكّرها سؤاله بالأرملة التي وجدها عمر بن الخطاب تطبخ الحصى لتوهم أبناءها أن العشاء سيجهز عمّا قريب فيغلبهم النعاس و ينامون على جوعهم.. و ما الفرق بينهما ؟! كلاهما تطبخ أوهاما و لكن من أين لها و لابنها بعمر بن الخطاب ينجدها… ؟! احتضنت الطفل و أجابت بصوت يتصنع البهجة: مقرونة بيضاء.. كانت أكلتي المفضلة أيام الدراسة…
تعمدت ألا تقول له انها تكره المقرونة البيضاء و الأرز الأبيض و الدقيق الأبيض… أنها عافته منذ أن كانت تراه في التلفاز في نشرة أخبار الثامنة حيث أخبار و صور المساعدات الغذائية التي كانت تُلقى على السكان زمن المجاعة في الصومال و اأثيوبيا… كم كانت ترثي لحالهم و هم يتسابقون و يتدافعون للحصول على ذلك الخليط الأبيض الكريه… و نزلت من عينيها دموع قهر و عجز…
كانت الأثافيّ الثلاث تتراءى لها و قد ارتسمت من وراء غلالة الدموع و الدخان الأسود المتصاعد و كأنها ترقص و قد أخذت تتحول شيئا فشيئا إلى وجوه مألوفة طالما شاهدتها في التلفاز قبل أن يضطر زوجها إلى بيعه، وجوه ثلاثة من مسؤولي البلاد و هم يخرجون لها ألسنتهم خاطبتهم بصوت مبحوح : ” تو هكا باهي ؟؟ عاجبكم حالي و حال البلاد؟ شفتو عرككم وين وصّلنا؟”
تقدم الأول و هو شيخ يرتدي بذلة سوداء كسواد أيامها و قال بنبرة هادئة رتيبة زادتها توترا على توتّر : لا تجزعي يا أختاه… نحن نعمل على دعم الاستقرار السياسي و استكمال بناء مؤسسات الدولة و تركيز الهيئات الدستورية… عشر سنوات ليست فترة طويلة في تاريخ الثورات و تأسيس الانتقال الديموقراطي خاصة أننا ” ما حكمناش و ما نتحملوش المسؤولية وحدنا “… و لكن رغم ذلك عملنا مسيرة من أجلكم و قلنا لكم أيضا إننا ” مستعدين نبيعو دبشنا و أملاكنا على خاطركم” وأما إن هداك الله فإنّ لدينا حلا سحريا لبطالتك و فقر زوجك… ما رأيك أن نرسلك للعمل في ليبيا أو سوريا سترفعين الراية و ستفخر بك كل الأمة جِدّا جِيدّااااا…
رفع الثاني راسه و عدّل كمامته و حدّق في الأول غاضبا و هو يضرب على القدر حتى كاد يطيره و قال في تحد صارخ : إنّ الله وحده أعلم بخائنة الأعين و بما تخفي الصدور ، و استنادا إلى مفاهيم الشرعية و المشروعية.. فقد كتبت كتابا إلى رئيس منظمة الصحة العالمية و أرسلته مع صاحب البريد وضحت له فيه أن فيروس كوفيد التاسع عشر قد تم تصنيعه في الغرف المظلمة و أننا لن نتهاون في هذا الأمر و سنتقدم بمبادرة إلى مجلس الأمن و لن نصبر على إفساد الفاسدين و تخريب المخربين .. “
إن حججنا واضحة جلية و مواقفنا ثابتة قوية و قراراتنا جاهزة على منصات إطلاقها لتلقي بهذه السلالات المتحولة في البحر . ثم تنحنح و أضاف، و استنادا إلى الباب الأول من الفصل الأول من الدستور الذي لم يأكله الحمار فإنك حرة في طبخ المقرونة مثلما تريدين.. مقرونة بالصالصة أو مقرونة بيضاء أو مقرونة كذابة و يمكنك حتى أن تشويها أو تسلقيها… المال وفير و أنتم تعرفون أين تجدونه و لكن اليوم صبر و غدا أمر… أماّ إن كنت تريدين طبخ المقرونة فهنيئا لك ما تريدين…. و السلام علينا و على من اتبع الهدى”…
و ما كاد ينطق بها حتى أخذ يتلاشى شيئا فشيئا بين أعمدة الدخان الأسود المتصاعد ليُطلَّ من ورائه وجه فتى أسمر يشبهنا كما قالت ذات يوم إحدى النائبات فانبرى قائلا و هو يلتفت يمينا و يسارا يبحث عن وسادة يسند عليها رأسه المتعب و يداه تجاهدان من أجل إحكام غلق حزام بنطلونه المتداعي للسقوط : ألا تذكرين القولة الشهيرة في مسرحية عمار بو الزور ” الحكومة راهي ما تكرهكمش.. الحكومة راهي تحبكم و تعزكم و تحطكم في عيونها الحكومة بكلها تحبكم… ” لقد بلغت بنا التضحية أن قمنا بالتلقيح نيابة عنكم حتى نجنّبكم وخزة الإبرة المؤلمة،.
“لقد قمنا بتحوير وزاري سيبقى حديث العالم و سنبعث من أجلنا.. عفوا من أجلكم صندوقا لجمع التبرعات تذكري جيدا أننا احتفلنا بغزوة بدر و توجهنا إلى الغريبة لندعو الله أن يحنّ علينا قلب آلاف آم إي.. و وزعنا البروتوكول الصحي بين الناس و قمنا بإجراءات صارمة فعطلنا المدارس و فتحنا المقاهي و منعنا الجولان و أغلقنا الأسواق و فتحنا الحدود ما تنساش الحكومة راهي….
… لم ترغب في سماع بقية حديثه الممجوج فأبعدت سحابة الدخان و قرأت المعوذتين في سرها ثلاثا ثم سكبت قدر الماء المغلي على الأثافي لتطرد خيالاتهم الثلاث و دفعت ابنها نحو البيت و أحكمت إغلاقه من الداخل هي تردد ” ملا عملة عملناها في أرواحنا، في ها البلاد اللي تحسابو موسى يطلع لك فرعون”