جلـ ... منار

الأزمات الاقتصادية وأثمانها …حديث الوثائق

نشرت

في

عند منتصف ثمانينات القرن الماضي اعترضت الرئيس الأسبق “حسني مبارك” أزمة اقتصادية خانقة تبدت في انخفاض تحويلات المصريين بالخارج وتراجع إيرادات السياحة وعوائد قناة السويس وارتفاع قياسي في الدين الخارجي .

<strong>عبد الله السنّاوى<strong>

تحت وطأة الأزمة الاقتصادية تبخرت وعود الرخاء، التي أطلقها سلفه “أنور السادات” قبل اغتياله بوقت قصير، وجاء وقت مواجهة الحقيقة .كان السادات يعول على مساعدات واستثمارات غربية سوف تتدفق عليه بعد توقيع معاهدة “السلام” المصرية الإسرائيلية (1979) تأخذ الاقتصاد المصري من حال العوز إلى حال الازدهار .امام الأزمة ذهب تفكير “مبارك” إلى خيارين متناقضين .الأول، الدعوة إلى مؤتمر اقتصادى تشارك فيه أفضل النخب الاقتصادية من أكاديميين وخبراء للبحث في أحوال الاقتصاد المصري وسبل النهوض به من جديد .أعطى ذلك المؤتمر أملاً للرأي العام في تصحيح اختلالات الاقتصاد، لكن مخرجاته سرعان ما نحيت جانباً، ومضت السياسات الاقتصادية على ذات النهج، كأنها ساداتية بلا سادات ” !

الثاني، أن يستعين بـ”الحلفاء الغربيين”، الذين أغدقوا الوعود لسلفه، لتخفيف اشتراطات صندوق النقد الدولي حتى لا تجد مصر نفسها مجدداً أمام انتفاضة خبز جديدة تماثل انتفاضة (1977)، التي عاين وقائعها وتداعياتها من موقع نائب الرئيس .الوثائق وحدها تكشف وتنير الصورة المهينة التي تعاملت بها رئيسة الوزراء البريطانية “مارغريت تاتشر” مع الرئيس المصري، الذي كان أقصى ما يطالب به تخفيف قبضة صندوق النقد الدولي على رقاب المصريين .وثائق الرئاسة الوزراء البريطانية، التي حصلت عليها الـ”BBC” بمقتضى قانون حرية المعلومات وضحت مؤخراً الأثمان المرة التى دفعت لخيارات اقتصادية خاطئة .

وفق ما كشفته الوثائق البريطانية فإن “مبارك” طلب تدخل رئيس الوزراء الإسرائيلي فى ذلك الوقت”شيمون بيريز”، وقد كانت لديه أسبابه ودواعيه للتدخل خشية اهتزاز النظام المصري .بين يونيو (1984) ومارس (1986) جرت ثلاث عمليات اغتيال لدبلوماسيين إسرائيليين، أحدهم ضابط فى جهاز “الموساد” .و في أغسطس (1985) اهتزت مصر عند قتل سبعة سياح إسرائيليين بسلاح الجندي “سليمان خاطر” الذي أودع سجناً وجد مشنوقاً فيه بعد فترة وجيزة .

حسب الوثائق البريطانية فإن أصواتاً ارتفعت في إسرائيل تقول إن السلام مع مصر، بات في طي النسيان وأنه يتوجب على الإسرائيليين أن يفعلوا شيئاً لإنقاذه .المفاجأة الحقيقية في الوثائق التي ازيح الستار عنها أن “تاتشر” لم تأبه بتدخلات “بيريز” لمساعدة نظام مبارك مالياً “للحفاظ على السلام في الشرق الأوسط” !

منذ سبعينات القرن الماضي هناك فكرة شبه ثابتة فى دوائر الحكم المصرية أن إسرائيل تملك مفاتيح الغرب، وإنها إذا ما تدخلت فإن كلمتها مطاعة .الوثائق البريطانية تفند هذه الفكرة وتضع لها حدوداً .فى (17) يوليو (1986) عشية لقاء مبارك مع تاتشر اتصل مستشار شيمون بيريز للشئون الخارجية بـ”شارل باول” السكرتير الخاص لـتاتشر طالباً “العون لصيانة السلام” .

في برقية سرية قال “باول” إن مستشار بيريز أيقظه في منتصف الليل لإبلاغه الرسالة العاجلة .سأل باول المستشار الإسرائيلي عما إذا كان بيريز يعلم بالضبط ما سيطلبه مبارك غداً من تاتشر. كان رده أنه لا يعلم، غير أنه يتوقع أن يطلب مزيداً من المساعدة المالية .مصر لا يصح أن تغرق ولا أن تنهض . هذه فكرة شبه راسخة في الاستراتيجيات الغربية المعاصرة .غرقها مشكلة ونهضتها مشكلة أكبر . الغرق يؤدي إلى فوضى كاملة في الإقليم تضرب في صميم الاستراتيجيات والمصالح الغربية . والنهضة تفضي بحقائقها إلى تطلع مصر لقيادة العالم العربي من جديد وتحدي الاستراتيجيات الغربية . أن تعاني مصر.. هذه ليست مشكلة، المشكلة تبدأ عندما توشك على الغرق، حينها يتوجب التدخل بالمساندة المالية دون أن يسمح لها أن تنهض مجدداً .

فى لقائه مع تاتشر رسم مبارك صورة كئيبة، هكذا بالنص، لحالة بلاده الاقتصادية .ركز على صعوبتين في المفاوضات المتعثرة مع صندوق النقد الدولي .

الأولى، طلب زيادة أسعار الفائدة من (11%) إلى (20%) . كان تقديره أن ذلك سوف يوقف الاستثمار ويرفع الأسعار بمعدلات كبيرة .

والثانية، طلب توحيد أسعار الصرف المختلفة خلال عام واحد .وكان تقديره أن ذلك سوف يؤدي إلى قفزة كبيرة فى الأسعار .بصورة صريحة عبّر عن مخاوفه لـتاتشر : “إذا اضطرت الحكومة المصرية لقبول وصفة صندوق النقد الدولي فسوف يكون هناك خطر جسيم ينذر بحدوث اضطرابات”.. وأن ذلك “سوف يلقي بمصر في أتون فوضى تؤثر على المنطقة كلها”.

لم يكن مبارك يرفض وصفة الصندوق، كان أقصى ما يطلبه التخفيف من حدتها خشية تداعياتها على أمن النظام . وفق الوثائق البريطانية كشف مبارك أنه ينوى رفع أسعار الكهرباء فى أبريل (1987) عندما يكون طلبة الجامعات مشغولين بالامتحانات فتقل فرص حدوث اضطرابات .

رغم كل تلك المناشدات والشروح لم تكن بريطانيا بوارد الاستجابة له، فمصر لا بد أن تتبع وصفة الصندوق كما هي.

اضطر مبارك إلى شيء من الإذعان وشيء آخر من المناورة .قال إنه “يدرك أن تطبيق توصيات الصندوق في مصلحة مصر، غير أن لديه شعباً يريد أن يأكل ولا يستطيع ببساطة أن يتحرك بالسرعة التي يطلبها الصندوق”. غير أنه سرعان ما عاد إلى طلبه الرئيسي أن يساعده الأصدقاء في إقناع الصندوق بأن يتفاوض بطريقة معقولة .

مرة بعد أخرى عادت “تاتشر” لتؤكد على موقفها، ضرورة الالتزام بما يطلبه الصندوق .هكذا بوضوح كامل وصل إلى حد الصفاقة .قالت : “إنها يمكن أن تتفهم ما يقوله لكنه يجب أن يقتنع الصندوق بأنه وصل إلى حدود الممكن” قاصدة الإذعان الكامل .

بدت تلك العبارة أقرب إلى عملية نسف لأهداف زيارة مبارك. بتأكيد آخر على موقفها قالت: “إنها سوف تنظر في التعليمات التي أعطيت لممثل المملكة المتحدة في الصندوق لكنها لا يمكن أن تكلفه بفعل أي شىء غير معقول في الأساس”.

حسب الوثائق البريطانية فإن ألمانيا انتهجت الموقف نفسه .

ترك “مبارك” نهباً للأزمة الاقتصادية، التى داهمت سنواته الأولى في الحكم، حتى يكون مضطراً إلى تبنى سياسات تناقض في كثير من الحالات المصالح الاستراتيجية المصرية،

فكل أزمة اقتصادية ثمن لا بد أن يدفع وقد دفع مضاعفاً .

الشروق .

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version