الأكيد أنه لم يعد هناك أطفال في العصر الحاضر، و خاصة في “المصر” الحاضر أي تونس الحنينة … نعم، صار صغارنا يولدون أمام نشرة الأخبار، و يمردون تحت بلاتوهات السياسة، و يحبون (من الحبو) جنب مسلسلات الكبار، و يمشون و في أيديهم أفلام يوتيوب، و يشبّون و قد شابت من رؤوسهم شعرة أو شعرتان في انتظار البقية …
و لكن عندما كان الصغار صغارا، و كان ممكنا أن تقول لهم هذا حسن فاتّبعوه و هذا سيّء فاجتنبوه … وقتها، تنوّعت وسائل إرشادهم إلى الخير والصواب و ما كان يُعتقد أنه حق … مثل بر الوالدين، و احترام الكبار، و نظافة الهندام، و حسن السلوك، و قيمة العمل، و حب الوطن، و تحريم كلما هو غش و سرقة و كذب و عنف و عقوق و جميع أشكال الانحراف و سوء التربية … و من أهمّ هذه الوسائل كان تقديم أمثلة و قدوات على هذا و ذاك، و إيراد ذلك في شكل قصص و عبر و أبطال و بطلات … تجد ذلك في خرافات “لافونتين”، و في قصص “شارل بيرو”، و في ما يتم تيسيره من كليلة و دمنة، و في حكايات العروي التي تترجم منها أو تستلهم التراث الشعبي إلخ …
كانت هناك أيضا كتب السيَر، أي قصص كفاح و بطولات و مآسي شخصيات تاريخية من عندنا أو من العالم … طارق بن زياد، خالد بن الوليد، الإسكندر الأكبر، فرحات حشاد، جميلة بوحيرد، توماس إيديسون، لويس باستور، يوليوس قيصر، إسحق نيوتن و تفاحته الشهيرة … بل كان آباؤنا يروون بإعجاب حكاية ذلك الشاب الأسود الذي صار ملك العالم من خلال حلبة (محمد علي كلاي) أو ملعب كرة (بيليه) أو مركض شعر وفروسية (عنترة العبسي) … لقد كان المصعد الاجتماعي شغّالا و مغريا إلى أقصى الدرجات، و معه مصاعد أخرى علمية و رياضية و أخلاقية … و كان “الزعيم” للحقيقة واحدا من هذه القدوات و هؤلاء الرواة، بل كان أهمّها على الإطلاق في طفولتنا البعيدة حيث لم تكن هناك معارضة أو لم تكن أذهاننا الغضة تسمع بها أو تستوعبها !
و ينطوي الزمن كحلم طويل جميل، و نفيق على قرن جديد لم نكن نتصور أنه سيأتي … لا نتحدث عن صدمة الصغار بعد أن كبروا، بل عن أطفالنا و ماذا يرون و يسمعون منذ النشأة … جاءت أوّلا رسوم متحركة من صناعات اليابان الرأسمالي، تمجّد العنف الساحق بأيدي أطفال ضد أطفال، و تقيم علاقات “عاطفية” بين زغزغ لم يتجاوزوا الثانية ابتدائي، و تصوّر وحوشا بشعين كانت رؤيتهم ممنوعة علينا قبل سن 18 … و في الموجة الثانية و هي الأخطر، انتقلنا من الأجنبي إلى المحلي و جاءتنا مسلسلات تونسية بلهجة تونسية وممثلين تونسيين … و إن كانت قصصها و حواراتها غير مألوفة في بلادنا، فلْنجعلْها مألوفة مقبولة مطلوبة ميسورا الوصول إليها … و من سار على الدرب وصل …
في تلك المسلسلات، لم يعد العمل قيمة و لم يعد للكدّ المثمر من معنى … بل صار الناجحون في المجتمع هم السواقط و بائعات الهوى و مخالفو القانون في وضح النهار، إن لم يكن ذلك من الساهرين على صيانة ذلك القانون … و لم يعد احترام الوالدين و الكبار واجبا على أحد، بل بإمكانك أن تصيح عليهم و تشتمهم وترفع يدك و تعطيهم بما أوتيت من قوة … و حتى أن تقتلهم … أما البطولات، فرحم الله زمانا … البطولة عند سامي الفهري و أضرابه أن تدخل السجن مرة إثر مرة، و أن تنجح في تمرير ممنوعات من و إلى حدود بلدك، وأن تراود خطيبة ابنك عن نفسها، و أن تطعن أخاك بسكّين و تموت كمدا لأنك قصدت إنسانا آخر… و ما يجعلك تستشيط غضبا، أنك تجد من أصحاب المسلسل و حتى من الإعلاميين أو عامة الناس، من يبرر بأن ذلك موجود في المجتمع فلماذا ننكره؟.
لا يا سيّدي … المجتمع و العالم ما زالت فيه أناس تعمل و تكسب من عملها، و مازال هناك من يدرس ويتفوّق و يحوز شرفا و مالا … و المفروض تسليط الضوء على هؤلاء بكل ما يعيشونه من مصاعب ومصائب و لكن مع الفوز المجزي في النهاية … بطلتنا أنس جابر خير مثال، و منذ أيام فازت في دورة مدريد بجائزة قدرها مليون دولار … هنيئا يا ابنتي فكم تعبْتِ و شقوْتِ و بكيْتِ و صابرت لتصلي إلى تلك الذرى، ونأمل لك المزيد … و مثال أنس و شبيهات أنس و أشباهها هو الذي يجب أن يدرّس و تصاغ له الأعمال الدرامية … فذلك يسمى الأمل، و من واجبنا أن نزرع الأمل في هذه الظلماء لا العكس …
ترويج الفكر الإيجابي و منع الأعمال السوداء لازم بيداغوجيّا و لكنه ليس كل شيء … فالمفروض تجفيف منابع تمويلها و امتناع شركاتنا عن ضخّ الملايين في ومضات إعلاناتها، إن كان لرجال أعمالنا بُعد نظر وأطفال يخافون عليهم … و لكن … أوّلا هل لدينا حقا “رجال أعمال”؟ … و ثانيا، من قال إن هؤلاء لا يجدون أنفسهم و قصص نجاحهم في قصص مسلسلاتنا المنحرفة تلك ؟؟