عندما شاهد العالم كله أيوب الحفناوي وهو يمخر عباب مسبح “فوكويوكا” الياباني ذي الخمسين مترا كأنه زورق نفّاث، أكيد كان عديدون يحسبون أن الولد قادم من بلد الألف مسبح، والعشرة آلاف شاطئ … خاصة إذا قيل لهم إن تونس تقع على ضفاف البحر الأبيض المتوسط …
تماما كما ظن أسلافهم منذ 55 سنة حين شاهدوا فتى تونسيا آخر يمرق كالسهم في نهاية سباق بخمسة كيلومترات … لم يكن أحد من المكسيكيين يعرف حكاية الأب والعصا ودكان الشاي …وهي ـ على غرابتها وسذاجتها ـ كانت مدرسة تكوين واحد منأفضل العدائين في تاريخ ألعاب القوى … بل كانوا يعتقدون أن بتونس مضامير عصرية وملاعب ومنشآت متطورة في كل قرية ومدينة وعاصمة … وخاصة سياسة رياضية متأسسة على صناعة الأبطال وتشجيعهم والاستثمار فيهم كأولوية وطنية …
وقد يتوسع الأمر إلى أنس جابر، وحبيبة الغريبي، ومروى العامري، وتوفيق البلبولي، ومنتخب 78، ومنتخب يد 2005، وسلة بوسالم التي رفعت كأس إفريقيا، وأبطالنا العالميين من ذوي الهمم (روعة التليلي، وليد كتيلة …) وقد، وقد، وقد … ولكننا نخفي في قلوبنا الحقائق، مرّ الحقائق، حتى لا نصيب أحدا بالذهول من بؤسنا، بدل الانبهار بخوارق ممثلينا … فعلا … فالناس عادت بالكاد تتحدث عن بلدنا بالخير، بعد أن كنا ولعشر سنوات مضغة في الأفواه كلما جاءت سيرة الإرهاب و”جهاد” الدعارة … ولايليق أن نلطخ من جديد صورتك يا تونس وأنت براء من كل ما يُفرض عليك …
البطولة التونسية صارت هي والفقر صنوان لا يفترقان … بل يقيني أن لنا مسؤولين يفعلون المستحيل كيلا يتألق تونسي واحد ويُسمع باسمه خارجيا عداهم وعدا أسماءهم … عن المسؤولين أتكلم … فالله وحده يعلم كم عانت من هؤلاء أنس جابر، وكم عانى البلبولي قبلها، وكم عانى البقية وآخرهم بطلنا الحفناوي الذي كاد يهجر السباحة بعد ميدالية طوكيو 2020 … كما أذكر جيدا ما حكاه لي الأسطورة محمد القمودي عن مأساته بعد مكسيكو 68 ورويته أكثر من مرة … صحيح هم “دللوه” ماديا ووسّموه، ولكن يبدو أن ذلك بمعنى يكفيك هذا ولا تحيّر اسمك من جديد … لكنه عندما قرر أن يشارك في الأولمبياد الموالي (ميونيخ 1972) نال ما يناله الطبل يوم العيد … ومعجزة المعجزات أنه جرى ونال الميـــدالية الفضية … بحذاء مستعــار من أحد المنـــــافسيــن !
هل بلدنا منتّف محتحت إلى هذا الحد؟ … لا أظن ذلك، بل لا يظن أحد ذلك وهو يرى الأموال الجرارة تغدق على عروض تحتل افتتاح مهرجاناتنا … وهي “لمّات” رأسمالها خليط ضخم من ضجيج المزود والبندير يعافه فنانو المزود الحقيقيون وشيوخ الإنشاد الصوفي الجميل … أي لا فن ولا ابتكار ولا جديد، بل تواكل مريض على تراث يكادون يقتلونه استهلاكا طوال الثلاثين سنة الماضية … ومع ذلك يغرفون من خزينة الدولة، كما يغرف غيرهم من عُملة البنك المركزي الصعبة، ليدفعها لمغنين عرب من سقط المتاع يستقبلهم مدير المهرجان شخصيا في المطار بالورد ويعانقهم معانقة الخلاّن … كما ينفتح ميزاب الفلوس لدعم أفلام تونسية لا أساس لها ولا رأس ولم ننجح جراءها في إرساء صناعة سينمائية وطنية بعد أكثر من قرن …
وعندما تسألهم تسمع خطبا كثيرة عن إشعاعنا السينمائي والمشاركات الدولية ومهرجان كان ومهرجان برلين ومهرجان البندقية ومهرجان الدبابة المجنزرة … وتفتح صفحات تغطية هذه المهرجانات في الصحف العالمية وتوزيع الجوائز الكبرى، فلا تجد لأسماء مخرجينا أولئك إشارة ولو بالأحرف الأولى …
العبرة من هذا … لكي تنجح خارج تونس عليك الاّ تعوّل على الذين بداخلها … ولكي تكون محبوبا محظوظا لدى الماسكين بزمامنا، يجب أن تكون فاشلا ابن فاشل ابن فاشلة … شرط أن يكون لك لوبي من الأصدقاء في مراكز القرار، مع جوقة مريدين يرفعون اسمك محليا، ولو كذبا وزورا …