يوم وجدت نفسي امام مصدح اذاعة صفاقس في ديسمبر 1979 كانت امامي مجموعة من التحدّيات اوّلها ماهي رسالتي امام المصدح؟ … هنا لابدّ من الاشارة انّ الاعلامي عموما والمنشّط في حالتي تلك عليه ان يكون حامل رسالة …. رسالة في مقدّمتها الدفاع عن الوطن لا عن الحاكم … وثانيها ان يشترك مع المتلقّي في نحت معالم لإنسان اجمل وارقى …
انسان ممتلئ لحدّ الهوس بالدفاع عن المظلومين واليتامى والمفقّرين . انسان يدافع اقليميا وعربيا ودوليا عن مظالم الشعوب مندّدا بديكتاتورية حكامها وفي مقدمتها قضيتنا الام قضية فلسطين المغتصبة .انسان يؤمن بكونيّة الانسان وبتشريك الاخر في بناء معالم جديدة لحياة جديدة بعيدا عن تقليد من سبقه … وهذا يستوجب منّي انذاك وفي ظلّ الاعلام الاذاعي السائد باستثناء قلّة قليلة سبقتني في هذه الرسالة يستوجب بصمة جديدة ….بصمة المنشّط عامل هام في تحقيق قاعدة جماهيرية تتلقّفه وتتلقّف ما يعرضه عليه من بضاعة …
نعم عمل المنشّط هو يخضع لقاعدة العرض والطّلب …فكلّما كان العرض مختلفا شكلا ومحتوى كان الاقبال اكثر ..وبالتالي كان النجاح اوفر … وهنا وفي هذا الباب بالذات ـ اي البحث عن البصمة الخاصّة ـ كنت كلّما اشرفت على عمليّة كاستينغ لاختيار اصوات جديدة، اجد نفسي احيانا مجبرا على اقصاء بعض الاصوات اذا سبقها صوت يشبهها … لانّي ضدّ الاذاعة التي تصبح فيها الاصوات دجاج حاكم، نفس الاصوات ونفس العبارات ونفس التحايا ـ من نوع صباحك دقلة وحليب ـ ماهذا الفقر ؟ ما هذا العجز ؟ ماهذا العمل الببغائي ؟
تعرفون جيّدا انّ بعض الزملاء احببناهم جميعا لمجرّد عبارة من نوع “اسقطه عشبا” للمرحوم انور الحاج ساسي او لعبارة “حطّها في القول يا رياض !” في نهائي كاس افريقيا للكبير شقيقنا الجزائري حفيظ الدرّاجي …البصمة الخاصة هي شرط اساسي لنجاح ايّ فنّان ..والتنشيط فنّ وقدرة على الخلق وهذه لا تُدرّس في ايّ معهد صحافة … البصمة مثلها مثل حضور البديهة والذوق الرفيع …لذلك واهمُُ من يعتقد انّ معهد الصحافة وعلوم الاخبار قادر على صنع منشطين … ليس استنقاصا في ما يتلقاه الطلبة في هذا المعهد من معارف في الصحافة وعلوم الاخبار …ولكن هنالك اشياء فطريّة لا تُدرّ س في ايّ معهد …ثمّ كما لاختصاص الصحفي قواعده وثوابته فانّ لاختصاص المنشّط قواعده وثوابته …
اذا تحدثّنا عن البصمة الخاصة فهذا يجرّنا حتما الى الحديث عن اشكال جديدة … شريطة ان لا تكون هذه الاشكال متجاوزة حدودها لتمسّ بالقاعدة الأمّ: الرسالة النبيلة لعمل المنشط …لانّ السّير في ركاب ايّ تطوير بداعي متطلبات العصر ومقارنة بما يحدث في الاذاعات الاخرى، هو انخراط في منظومة التقليد بعثّه وسمينه وبالتالي هو انخراط في منظومة “الجمهور عاوز كده” او الاذاعات الاخرى عاملة كده …وهذه كانت ومازالت منظومة مرفوضة عندي ..الجمهور على عيني وراسي ولكن دوري وانا صاحب رسالة ان ارتفع وايّاه لا ان اصعد انا واياه الى الهاوية … هل سمعتم يوما امّ كلثوم تغيّر من رفعة اغانيها لتنخرط في منظومة _ ما اشربشي الشاي اشرب قازوزة انا ؟!…_
وفعلا بدات تجربتي في اذاعة صفاقس بهذه القناعات ومازلت على العهد والايمان بها الى الان …تدرّجت نعم وبخطى موزونة محسوبة مع المستمع حتى يستوعبني ويستوعب اهدافي … وكنت اسعد السعداء يوم توقف البرنامج للمرة الثانية لمدّة 18 شهرا لانّه اصبح مزعجا للحاكم ..كنت سعيدا جدا عندما طالبت جحافل المستمعين في عريضة ممضاة من شمال تونس الى جنوبها بعودة البرنامج …لم اقل لكم اين كمُنت وقتها سعادتي … سعادتي لم تكمن في هذا الزخم الجماهيري الذي حدث لاوّل مرة في تاريخ العمل الاذاعي بل كانت في نصّ المطالبة بعودة البرنامج والذي قال فيه اصحابه وانتبهوا جيّدا (نطالب بعودة برنامجنا للوجود)..
هم لم يطالبوا بعودة عبدالكريم او برنامج عبدالكريم ..طالبوا بعودة برنامجهم ..وايّة سعادة تضاهي تبنّي الاخر لمشروعك ..اردته اعلاما بديلا ..تنشيطا بديلا ..فخرج يوما ما عن دائرتي الضيّقة واصبح ملكا مُشاعا للمتلقّي … وهذا ما لم يفهمه البعض وانا اشرف على تكوين وتاطير عصافيري في راديو اللمة ..كنت احدثهم عن اعلام بديل وكان البعض يردّد علينا ان نتحرّك كما يتحرّك الاخرون في الاذاعات الاخرى رغم انّي منذ البداية كنت دائما اردّد لا اريد ان اسمع منكم عبارة من نوع “علاش ما نعملوش كيف الاذاعات الاخرين” … للامانة هنالك من استمع وفهم …وهنالك من اصرّ على الانخراط في منظومة اولاد مفيدة وعلجية وصلوحة …وهي المنظومة التي وصلت بنا هذا الاسبوع لكارثة تلميذ يفشّخ استاذه بساطور …
حتما انّ هنالك اطراف عديدة ساهمت في هذا التردّي، ولكن لا احد يستطيع نفي مسؤولية الاعلام الكارثية التي انجبت جيلا كارثيا